ترامب… وهاجس الإقالة

تصعب متابعة تعقيدات السياسة الأميركية ودهاليزها، حتى على الأكثر معرفة بها، أكان أميركياً أم أجنبياً. المشهد السياسي الأميركي يبدو أشبه بلوحة سريالية بدأت ترتسم منذ إنتخابات العام 2016، ولم ينجزها الرسام حتى الآن.

أظهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب قدرة فائقة في التلاعب بمشاعر الجمهور البيض من غير حاملي الشهادات الجامعية، والذين ما زالوا يشكلون أكثرية “جماهيرية”. يقوم ترامب بذلك على طريقة معمر القذافي في ليبيا، أو كما كان يفعل بنفسه، في برنامجه التلفريوني في تسعينيات القرن الماضي، والذي كان معروفاً بإسم    Apprentice (“التابع”)، وهي ترجمة غير حرفية لكلمة “التلميذ”.

إستطاع ترامب أن يجيّش مشاعر الناس، حيث أصبح المجتمع الأميركي منقسماً بشكل عمودي: كره أعمى له يقابله إيمان أعمى به! إستطاع الرجل أن يتخطى كل الشكوك حول أفعاله، أكان مع النساء اللواتي إشتكين عليه ورفعن دعاوى بحقه، أم إزاء فضائحه السياسية وأكاذيبه وتغريداته اليومية حول أبسط الأمور.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، برر ترامب للأكراد عدم تقديم مساعدة أميركية لهم، بسبب عدم تقديمهم أية مساعدة للولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية.

وبرغم ما كشفه البيت الأبيض حول نص المكالمة التي أجراها ترامب مع نظيره الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، والتي طالبه خلالها بإجراء تحقيق يستهدف خصمه من الحزب الديموقراطي جو بايدن، وابنه الذي يعمل في شركة غاز أوكرانية، لا يبدو أن الرئيس الأميركي في وارد وقف إستعراضه ومطالبة رؤساء دول كالصين وروسيا وحتى أستراليا بفتح تحقيق مع منافسه.

ومع بدء الكونغرس بغالبيته الديمقراطية برئاسة نانسي بيلوسي تحقيقاً في ما إذا كان ترامب قد إقترف جرماً يؤدي الي إقالته من منصبه،  وهو يشعر هذه المرة بخطورة الموقف وإمكان فتح تحقيق جديد معه أكثر خطورة من تقرير المحقق روبرت مولر، ما زال لدى الرئيس الأميركي الكثير من الأوراق التي يستطيع أن يلعبها، فالرجل يمسك بمجلس الشيوخ ذي الغالبية الجمهورية برئاسة حليفه ميتش ماكونال السناتور الأبيض من ولاية كنتاكي، وهو سيكون سلاحه الأخير في حال وصلت الأمور الى ما يمكن أن تصل اليه، وواجه ترامب خيار الاقالة في مجلس النواب عند نانسي بيلوسي التي لديها 240 نائباً، منهم أكثر من عشرة منتخبين في مناطق تعتبر جمهورية ووضعهم يمكن أن يصعب في الإنتخابات المقبلة.

الصراع الدائر في الولايات المتحدة يهدد بتغيير ديموغرافي لا تحمد عقباه في السنوات الخمسين المقبلة!

وتحت حجة الخطر من إقالته، يسعى ترامب إلى التحشيد، عبر تجييش الكثيرين من البيض للدفاع عن “زعيمهم” الذي “يحمي البيض” من الزحف عليهم من كل “رعاع” العالم الثالثي، الأمر الذي يمكن أن يهدد بتغيير ديموغرافي في الولايات المتحدة، لا تحمد عقباه في السنوات الخمسين المقبلة!

وتبدو الحقائق عند ترامب غير مهمة، فمهما حاول الديموقراطيون أن يفعلوا، فهو لن يتنازل قيد أنملة عن رئاسته، ويعلم تماما أنه في حال واجه الإقالة في مجلس النواب، فإن مجلس الشيوخ سيدعمه حتى أخر رمق، ولكن مع إعتقال الأميركيين من أصل روسي وهما ليف بارناس وإيغور فرومان، وتوجيه إليهما تهم خطيرة في مسألة التلاعب المالي في الأنتخابات وقضايا تتعلق بشؤون أوكرانيا والأمن القومي الأميركي، فإن ميزان القوى بدأ بالتأرجح، خاصة أن هنالك بضعة سيناتورات في مجلس الشيوخ، ومنهم ميت رومني من ولاية يوتاه وسوزان كولينز من ولاية ماين – وهما ليسا ميالين إلى ترامب – يمكن أن يشكلا حالة عند الجمهوريين، تتخطى الانقسام العمودي للبلاد وأن يقلبا الطاولة علي الرئيس الأميركي ويجعلا وضعه أقرب لما حصل مع ريتشارد نيكسون، وهذا ما يؤرق ترامب حالياً.

في هذه الحالة، من الممكن أن يصبح ترامب وعائلته كبش محرقة لكل ما يعتري المجتمع الأميركي من إنقسامات وظواهر شاذة وغريبة عن  المشهد الأميركي العام.

الاسابيع والأشهر المقبلة وحتى الإنتخابات القادمة في الولايات المتحدة ستحفل بالكثير من المفاجات الداخلية سياسياً، وعلى صعيد السياسة الخارجية الأميركية.

وفي حال وصول الديموقراطيين الى الطريق المسدود، ولم يعد لديهم الكثير من الخيارات فسيكون ترامب قادراً على يسد كافة المخارج كي يحرج  كل من يعاديه، أو يقف بوجه آرائه السياسية، والتي في كثير من الأحيان تتعارض وتتناقض مع كل ما هو معهود في الحياة السياسية الأميركية، الى درجة أنه أعلن في أحد المهرجانات أنه يستطيع أن يسحب مسدسه ويطلق النار في وسط شارع في مدينة نيويورك ولا أحد حتى يرف له جفن تجاه ما يفعل.

نحن أمام حالة غير معهودة في بلاد تتغنى على العالم بأنها بلاد “القانون ولا أحد فوق القانون” حتى ولو كان رئيس الجمهورية الذي يمثل أعلى سلطة، ولديه أقوى مكانة في العالم، وهذا ما يؤرق نوم الكثير من الباحثين، وكل من له إهتمام بالسياسة، فكيف بصناع القرار في العالم؟!

يعني ذلك أن المشهد السياسي الأميركي سيبقى مفتوحا أمام إحتمالات متععدة. صحيح أن الرئيس ترامب يمكن ان يواجه الإقالة في مجلس النواب خصوصاً أن الديموقراطيين يملكون أكثرية مريحة هناك (240 نائبا من أصل 435) ولديهم قيادة قوية برئاسة نانسي بيلوسي التي تحسب أكثر من كسباروف، أستاذ الشطرنج العالمي في السياسة، لكنها غير متأكدة من نتائج تقديراتها بعد، ولذلك فإنها لا تزال مترددة!

إقرأ على موقع 180  "كوب 28 ـ دبي".. الطاقة المستدامة بمتناول الجميع

أما على مستوى مجلس الشيوخ، فالأقلية الديموقراطية برئاسة ِشومر ضعيفة، لكن إذا إستمر الرئيس ترامب في قلة إكتراثه وإستهزائه، فإن بعض الجمهوريين قد يقلبون الطاولة خاصة بعدما أدلت السفيرة الأميركية المقالة في أوكرانيا ماري يفانوفيتش بشهادتها أمام الكونغرس، وكذلك المسرب الذي يعمل لوكالة الإستخبارات الأميركية في البيت الأبيض.

كل هذا مجتمعاً يشكل حالة ضاغطة جداً على مجلس الشيوخ، وطبعاً على الرأي العام الأميركي، الذي بدأت إستطلاعات الرأي الأخيرة تبين عدم موافقة أغلبيته على سلوك ترامب.

اما الرئيس ترامب، فتزداد هواجسه، وهو اتصل في يوم واحد ثلاث مرات بميتش ماكونال رئيس الأكثرية في مجلس الشيوخ.

ويقوم ترامب يوميا بحملات إنتخابية يوجه فيها توبيخاته لكل من لا يذعن لما يفكر به، وهذا يعبر عن حالة ذعر رئاسية كما حصل له بعد إصدار تقرير مولر حول التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية.

يذكر أن ترامب تلقى أكثر من صفعة من المحاكم الفدرالية خلال اليومين الماضيين، ومن شأنها أن تضع رئاسته في مهب الرياح العاصفة  بسبب الصفقات التي أوصلت الكثيرين الى السجن!

كل هذا ربما لا يعني شيئا في الإنتخابات  المقبلة، إذا ما إستمر الإقتصاد الأميركي على نفس الوتيرة التصاعدية في النمو، والتي تستمر منذ العام 2010، وهي الأطول في التاريخ الأميركي الحديث!  الناس عادة في أميركا تصوت لمصلحة جيبتها قبل كل شيء.

هل سيكون ترامب وعائلته ضحايا ما يجري في الولايات المتحدة الأميركية، أي في ما تسمى دولة القانون حيث القانون فوق الجميع أم تلحق بركب باقي دول العالم الثالثي وتنتخب “زعيماً ترامبياً” على مقياس كل الزعماء العالم الثالثي، وتتمثل بروسيا فلاديمير بوتين!

 

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "الغارديان": هكذا إنقلب MBS على بن نايف (1)