أحلام شباب لبنان.. بين سارقي الثروة والثورة!

بعيداً من الهتافات البذيئة والأغنيات المسيئة، وبعيداً من محاولات أخذ الانتفاضة الشعبية اللبنانية إلى مسار آخر خدمةً لأجندات سياسية محلية وإقليمية ودولية معروفة، ولا صلة لها بحقوق اللبنانيين الذين خرجوا وثاروا لاستعادتها من سارقيها، وأيضاً بعيداً من الأفعال الغوغائية التي مارسها البعض ضد المعتصمين هنا أو هناك، أو من بعض السلوكيات  المسيئة عند حواجز قطع الطرقات. بعيداً من كل التصرفات السلبية التي ترافق غضب الشعوب في كل بلدان العالم، والتي يسلط الاعلام الضوء عليها أكثر من سواها، يمكننا التوقف عند حالة وعيٍّ لافتة للإنتباه لدى الجيل الجديد من اللبنانيين.

مَن استمع وأصغى إلى ما يقوله الشباب اللبناني، ومنهم مَن لم يتجاوز بعد العشرين من عمره، سوف يُصاب بالدهشة، لا لانعدام ثقته بالجيل الجديد، بل بفعل صورة نمطية تكرّست طوال سنوات، فحواها أنه جيل هامشي لا يبالي بشيء ولا يهتم لأوضاع بلده، أو أنه جيل يائس محبط، لا همّ له سوى الحصول على جواز سفر وتأشيرة دخول إلى هذه الدولة أو تلك من دول العالم هرباً من دولته التي ظلمته وخذلته وحطمت أحلامه بسبب سوء إدارتها على يد حفنة من اللصوص المتسترين بطوائفهم واللاعبين على الغرائز والعصبيات المذهبية والمناطقية والفئوية.

يستطيع المتابع لوقائع غضبة الشعب اللبناني وثورته على سارقيه بعد نفاد صبره الطويل، تلّمس ملامح الوعي لدى هؤلاء الشابات والشبان الذين تركوا أعمالهم وجامعاتهم ومدارسهم، أو أولئك العاطلين عن العمل أساساً، وذلك خلال ردودهم على أسئلة مراسلي وسائل الاعلام المختلفة (وبعضها كما أسلفنا لعب للأسف دوراً نافراً في أخذ الحراك إلى أمكنة خطرة وبعيدة من هموم الناس وحقوقهم)، أو من خلال الإصغاء إليهم في بعض البرامج التلفزيونية التي اضطرت لتخصيص مساحة لهم بعد أن كانت على مدى عقود منبراً حصرياً للساسة إياهم الذين ثار عليهم هؤلاء الشباب، والأهم دورهم البارز في حلقات النقاش التي تدور في خيم الاعتصامات، وتُطرَح على بساط بحثها مختلف العناوين والقضايا الشائكة التي تعني اللبنانيين عموماً والأجيال الجديدة خصوصاً.

صحيح، ثمة كثيرون لا يزالون أسرى عصبياتهم الطائفية والمناطقية والحزبية، ثمة دهماء وغوغاء تطلق الكلام على عواهنه، لكن هذا لا يتناقض مع ما ذهبنا إليه. فالخلاص من تركة الماضي الثقيلة ومن إرث الطائفية العمياء لا يتحقق بين ليلة وضحاها. المهم أن ثمة محظوراً تم تجاوزه، ومحرمات تم تخطيها. فالشباب اللبناني كسر حاجز الخوف، ونهض من حالة الخنوع والتردد، وبيّنت له الأحداث أنه قادر على إحداث فارق، وفتح فجوة في جدار التعصب والانغلاق، وملاقاة المختلفين معه أو عنه لأجل حلمه الجميل بوطن طبيعي ودولة عادلة.

كم مرة سمعنا جملة: لا نريد أن نعيش كما عاش أهلنا في الذل والهوان، أو لا نريد الوقوع مرة أخرى في الحرب الأهلية، أو نحن لم نخرج ضد جهة بعينها بل ضد الفاسدين والمفسدين أياً كانوا، فضلاً عن تشخيصهم السليم الواضح الجلي للمعضلة اللبنانية المستعصية على الحل منذ عقود، ورفضهم لمحاولات وضع ثورتهم في وجه المقاومة التي واجهت الاحتلال والإرهاب على السواء، ولا غرابة في ذلك.

لمخاطبة جيل اليوم والتحاور معه، تلزم لغة جديدة غير متكلّسة، تنفذ إلى باطن وعيه وتلامس وجدانه عِوَضَ تلك اللغة المحنطة التي دأب السياسيون على تردادها في كل مناسبة

جيل اليوم بات أكثر وعياً وإدراكاً، لأسباب كثيرة منها الانفتاح الهائل الذي وفرته التكنولوجيا الحديثة والميديا البديلة بحيث صار عارفاً ومدركاً لكل ما يدور من حوله في هذا العالم. إنه يشاهد بأمّ العين، أو بأمّ الموبايل (!) كل ما يحدث على وجه البسيطة. يرى كيف تحيا الشعوب وتدار الدول وتتقدم المجتمعات، لذا لم تعد تجدي معه المسكنات والمهدئات والوعود العرقوبية، والشعارات الفضفاضة التي يطلقها المسؤولون ولا تعدو كونها حبراً على ورق أو كلاماً في الهواء.

لمخاطبة جيل اليوم والتحاور معه، تلزم لغة جديدة غير متكلّسة، تنفذ إلى باطن وعيه وتلامس وجدانه عِوَضَ تلك اللغة المحنطة التي دأب السياسيون على تردادها في كل مناسبة، وهي لا تُسمِن ولا تغني من جوع. لغة جديدة أساسها الصدق والشفافية وعدم اللعب على الغرائز والعصبيات، أو محاولة التعمية على جوهر الأزمة التي يعيشها لبنان، وأخذ حماسة الشباب واندفاعهم إلى مطارح لا علاقة لها بوجعهم وبأحلامهم الجميلة النبيلة، بل على العكس تماماً الذهاب معهم إلى حيث أحلامهم وإشراكهم في إدارة الدولة والحكم كي يحققوا تلك الأحلام. بغير ذلك، ستبقى الهوة واسعة بينهم وبين كل مَن يحكمهم أو يخاطبهم ويسعى لجذبهم إلى ناحيته.

ولئن كان جيل الأباء قد أصيب بالإحباط والانكسار والخيبة بعد أن خاض حروباً وعاش أهوالاً، وضاعت تضحياته في أزقة الطائفية وزواريب المذهبية، وعلى مذبح الصراعات الإقليمية والدولية التي جعلت وطنه ساحة لتصفية الحسابات، فإن على الجيل الجديد، الذي لا تزال أحلامه حيةً حُرَّة نضرة، التعلّم جيداً من تجارب أسلافه، وعدم السماح لأحد بتمييع ثورته وتضييع حقوقه في متاهات المذهبية والطائفية، ولا بحرقها في أتون الصراع الإقليمي والدولي المدمر، وأن يبقى يقِظاً كي يفوِّت الفرصة على محاولي سرقة أحلامه كي لا يُصاب بما أصيب أسلافه به.

إقرأ على موقع 180  الإنتفاضة اللبنانية.. الإصغاء للناس لا للخارج

وحدة المطالب الشعبية هي الأساس الصلب الجامع لكل اللبنانيين. وبما أن البداهة تقول إن الجيل الجديد (وكل جيل) ليس كتلة صمّاء ولا جماعة واحدة متجانسة، من الطبيعي أن لكل مجموعة منه آراءً وأفكاراً وأيديولوجيات مختلفة ومتباينة، لذا تبدو وحدة المطالب (وهي أصلاً حقوق بديهية) صمام الأمان لوحدة الناس الذين هبّوا وثاروا، وضمانة استعادة الحقوق من سارقيها. أما القضايا والعناوين الخلافية الكبرى بين اللبنانيين فيمكن طرحها على بساط حوار حريص وواعٍ يكون عنصر الشباب جزء محوري منه.

بغير وحدة المطالب (الحقوق) يُخشى أن يبقى الشعب اللبناني عالقاً بين فكّي سارقي ثروته وسارقي ثورته!

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  أهم إنجازات الحراك اللبناني: فعلُ التعرية