كتابة تاريخ الفترة الصليبية: علوم وحروب.. فلسفة وتجارة وعمارة

تعرف الحقبة التاريخية الواقعة بين أواخر القرن الحادي عشر ومنتصف القرن الرابع عشر للميلاد بحقبة الحروب الصليبيّة، وهذه التسمية تُعطي فكرة خاطئة جدّاً عنها. لا يمكن إنكار أنّها شهدت صراعا مريرا بين المسلمين والفرنجة، ولكن ثمة أبعاد أخرى لها.

في سنة 1218، وبعد جهد جبّار للبابا إنوسانت الثالث (1198-1216) وخليفته البابا أونوريوس الثالث (1216-1227) لتحفيز أو إجبار الملوك والأمراء الأوروبيين على الانضمام إلى حملة صليبيّة جديدة غايتها تحرير مدينة القدس وإرجاعها إلى حضن الكنيسة، وصلت فلول جيوش الصليبيين إلى سواحل فلسطين. كان هدفهم الأولّ احتلال عسقلان واستخدامها للانقضاض على مصر، إذ كانت قناعتهم أنّ احتلال مصر يؤدّي إلى انهيار الدولة الأيوبيّة، فيصبح استرجاع القدس والأهمّ الاحتفاظ بها مهمّة يسيرة.

عند وصول الصليبيين إلى مشارف عسقلان، أرسل الملك المعظّم، حاكم دمشق والشام وأخ السلطان الأيوبي الملك الكامل، إلى مستشاره المقرّب سبط إبن الجوزي يأمره بحث الدمشقيين على الجهاد والإتيان بهم إليه في عسقلان لمحاربة الفرنجة. ألقى سبط ابن الجوزي خطبة نارية في الجامع الأموي عن الجهاد وميزاته وما يحصّله المجاهدون من ثواب في الدنيا والآخرة، فعلا التكبير من الحشد العظيم الذي اكتظّ في المسجد الضخم موافقاً ومهللاً. ولكن ما إن انتهى من خطبته النارية ونزل عن المنبر حتّى انفك من حوله الجمهور العريض وبقي سبط ابن الجوزي وحيداً غير مصدّق. بعد كلّ هذا الجهد الذي بذله وتهليل الناس له، لم يبقَ منهم رجل ليذهب معه إلى عسقلان. ركب بغلته وتوجّه إلى سيّده المعظم الذي كان ينتظر بفارغ الصبر الحشود الشاميّة تتقاطر إليه من كلّ حدب وصوب. صعق الملك بوصول سبط ابن الجوزي يداً إلى الوراء ويداً إلى الأمام (كما يقال في اللهجة اللبنانية). سأله: أين أهل دمشق؟ فأجابه: أهل دمشق يحبّون سماع الخطب عن الجهاد، لكن المجاهدة ليست من شأنهم!

هذه القصة ليست فريدة، فالمسلمون تاريخيّاً لم يكن لهم ود تجاه الجهاد، ونجد لهذا أمثالاً كثيرة في التاريخ الإسلامي، وحتّى في القرآن حيث يتوعّد الله تكراراً أتباع النبي محمّد بعقاب مرير لتقاعسهم عن جهاد المشركين (سورة التوبة مثلاً).

إشكاليّة الرواية الحديثة للفترة الصليبية أنّها كتبت وتكتب منذ أواخر القرن الثامن عشر وفقاً لتوظيفات إيديولوجية معاصرة، فأصبحت بذلك أداة تستخدم في الصراع الأوروبي الداخلي، وأيضاً في الخصومة بين أوروبا والعرب-المسلمين

لم تكن الحملات الصليبية مجرد كر وفر عسكري بين الفرنجة والمسلمين، بل شهدت أيضاً كثيراً من التبادل التجاري والعلمي؛ تحالفات سياسية وعسكرية ضدّ عدو مشترك أكان مسلماً أم فرنجياً. مثلاً، في سنة 1148، قاد ملك الألمان ما تعرف بالحملة الصليبيّة الثانية وكان هدفها الأساس مدينة الرها (أو اديسّا، وهي أورفا في تركيا اليوم). ما إن وصل إلى عكّا حتّى أقنعه الفرنجة المحليّون بأن يهاجم دمشق التي هي عقدة السبحة في الشرق؛ إذا سقطت دمشق يسقط كل ما في الشام وبلاد الجزيرة. فكانت الحملة على دمشق التي استمرتّ بضعة أيام ولم تحقّق مبتغاها، إذ صمد أهلها بوجه حصار الفرنجة (والذاكرة الشعبية في بلاد الشام تروي طرفة عنها مفادها أنّ زاد الفرنجة نفذ، فبحثوا في غوطة دمشق عمّا يأكلوه وكان موسم المشمش، فأكلوا عن جوع حتّى اتخموا، فأصابهم داء الإسهال فوهنوا ولم يقدروا على القتال فعادوا إلى فلسطين، ومرارة الهزيمة بدّلت حلاوة المشمش. فاستيقظ أهل دمشق ليجدوا أنّ الفرنجة قد رحلوا وتركوا خلفهم متاعهم وسلاحهم، فنهبوه كلّه).

لكن لم تمضِ أسابيع قليلة على هذه الحادثة حتّى سارع حاكم دمشق معين الدين أنُر والسلطان نور الدين لنجدة كونت طرابلس ريموند الثاني في أيلول 1148 والذي كان في صراع مع غريمه الصليبي بيرتراند التولوزي، فكانت معركة شارك فيها المسلمون والفرنجة جنباً إلى جنب ضد رهط آخر من الفرنجة.

كذلك يروي لنا الرحّالة ابن جبير عند مروره من دمشق إلى عكّا عن قرى ومزارع لا يمكن تعدادها يقطنها مسلمون يعيشون بسلام مع الفرنجة، وهو شيء أزعجه كثيراً إذ برأيه أن المسلم الحقيقي عليه الرحيل ورفض العيش تحت حكم “الخنازير”.

إشكاليّة الرواية الحديثة

إشكاليّة الرواية الحديثة للفترة الصليبية أنّها كتبت وتكتب منذ أواخر القرن الثامن عشر وفقاً لتوظيفات إيديولوجية معاصرة، فأصبحت بذلك أداة تستخدم في الصراع الأوروبي الداخلي، وأيضاً في الخصومة بين أوروبا والعرب-المسلمين. أُسّست هذه القراءة لتاريخ الفترة الصليبيّة وفقاً لرؤيتين مرجعيتهما التاريخ الأوروبي. من جهة هناك من أبرز الصليبيين كرواد وكقدوة للمستعمرين الأوروبيين الحديثين الذين يقومون بخدمة عظيمة للإنسانية عبر غزوهم العالم الإسلامي وجعله ” متمدناً ” كأوروبا. مثال على ذلك المؤرّخ الفرنسي جوزيف – فرنسوا ميشو (Joseph-François Michaud) وكتابه الكبير “تاريخ الصليبيين” الذي نشرت أجزاؤه بين 1820 و1840. وهناك اتّجاه أوروبي آخر، نقيض لهذا، أخذ مفهومه للتاريخ من فكر عصر التنوير (Enlightenment) أو كان مولعاً بما يعرف بالرومنسية المشرقية (Oriental Romanticism). فقرأ تاريخ الصليبيين كحروب عبثية بربرية أججها الدين والتعصب والعنجهية الذكورية. لذلك نجد مثلا كتاب “التعويذة” (The Talisman) لوالتر سكوت (Sir Walter Scott) الذي طبع في سنة 1825 والذي استلهم منه عملاق الصناعة السينمائية الأمريكية سيسِل ديميل (Cecil B. DeMille) فيلمه الكبير “الصليبيون” في سنة 1935.

لم تكن الحملات الصليبية مجرد كر وفر عسكري بين الفرنجة والمسلمين، بل شهدت أيضاً كثيراً من التبادل

هناك أيضاً القراءة التاريخية العربيّة – الإسلامية التي ترى الفترة الصليبية كمشروع إستعماري لا يختلف إلا بالتوقيت عن الاستعمار الأوروبي الحديث، فيصبح إذاً جزءا من الصراع الحالي بين الغرب والعالم العربي – الإسلامي. أهمّ مثل على هذا هو كتاب “الحركة الصليبية: صفحة مشرقة في تاريخ الجهاد العربي في العصور الوسطى” للمؤرخ المصري سعيد عاشور، الذي طبع في سنة 1963. ومثله يذهب كثير إن لم يكن كل من كتب عن الصليبيين من مسلمين وعرب منذ القرن التاسع عشر.

عدم فهم هذين العاملين له أثر ضخم في عدم فهم التاريخ بشكل عام، أو عدم فهم استخدام التاريخ لأغراض سياسية وقومية ووطنية وعرقية، الخ. عندما نقرأ تاريخ الفترة الصليبية كامتداد خلفي لعصرنا الحاضر، يصبح هذا التاريخ جزءا من “تاريخنا” وليس جزءا من التاريخ العام. فبدل أن يكون تاريخ الذين عاشوا في تلك الفترة، يصبح جزءا من التاريخ الفرنسي والايطالي واللبناني والسوري والفلسطيني، الخ، بصرف النظر عن أنّ هذه البلدان لم تكن موجودة كدول آنذاك، وأنّ معظم سكانها الحاليين لم يكونوا فيها أصلاً، بمعنى أنّ أجدادهم إنتقلوا إلى هذه الأماكن بعد تلك الأحداث بكثير، ومع ذلك، فهِموا تلك الأحداث كجزء من تاريخهم.

إقرأ على موقع 180  "الثنائي الحريري": العودة الصعبة والتيار المفخخ (3/2)

وهناك عامل إضافي يجب ذكره هو ولع مجتمعاتنا الحديثة بالعنف والحروب، بعكس ما نتشدق به عن مبادئ السلام والعيش المشترك والحرية. وهذا ينطبق خصوصاً على الفترة الصليبية، إذ أننا ندرسها من أجل “معرفة” العنف والصراع الملحمي الذي حصل بين المسلمين والمسيحيين، بين العرب والأوروبيين، بين الإسلام والمسيحية، كأننا نريدها إمتدادا خلفيا للعلاقة الحالية بين الشرق والغرب.

هذه المشاكل ليست عفوية، بل على العكس، هي نتاج استراتيجية أو نزعة تُستَخدم كثيراً في العصر الحديث، تقوم على إخضاع التاريخ لأجندة الحاضر وإعادة قراءته وكتابته كي يسرد الرواية التي نريد، لا ما حدث فعلا، بغض النظر عما إذا كان بالإمكان رواية ما حصل بموضوعية علمية مؤسسة على حقائق وقرائن لا على معتقدات وآراء ونزعات.

العلاقات بين المسلمين والصليبيين

من دون شك، شهدت الفترة الصليبية كثيرا من الحروب بين المسلمين والفرنجة، لكنها شهدت أيضا كثيرا من التحالفات ، وتبادلا للفلسفة والعلوم والتجارة والصداقات والتأثيرات في مجالات أخرى كفن العمارة. وهذه التأثيرات لم تكن في اتجاه واحد، بل استفاد منها الطرفان بطريقة أو بأخرى. فمثلا، عندما بنى صلاح الدين قلعة القاهرة، لجأ إلى أسرى فرنجة إستخدموا تقنياتهم التي تعلموها في أوروبا وأدّى ذلك – بالإضافة إلى تفحص المسلمين القلاع والمباني التي هجرها الصليبيون – إلى تعرف المسلمين على فن العمارة الأوروبية في العصور الوسطى، خصوصا بناء الأبراج والتحصينات والقاعات الكبرى المفتوحة، فأدى ذلك إلى الفورة المعمارية في زمن دولة المماليك.

دور الصليبيين في نقل المعرفة والعلوم الإسلامية والإغريقية إلى أوروبا، لم يعره المؤرخون المعاصرون أي إهتمام، وذلك لأنّهم أصروا على أنّ الصليبيين كانوا طلاب حرب لا طلاب حضارة

وكان هناك تأثير آخر نحو أوروبا في تلك الفترة من قبل الحضارة العلمية والفلسفية الإسلامية التي صقلها مسلمون ونصارى ويهود وشعوب أخرى عاشت في كنف الحضارة الاسلامية، حيث إستخدم الصليبيون شبكة العلاقات التي طوروها مع المسلمين للتعرف على هذه العلوم وترجمة كتبها. كانت مدينة أنطاكيا أحد أهم مراكز هذا الجهد، اذ إستفاد بعض طلاب العلم من أهل بيزة من التسهيلات التجارية التي حصلوا عليها، وترجموا كتبا عن الطب والفلسفة والرياضيات وعلم الفلك. ولكن هذا الموضوع، أي دور الصليبيين في نقل المعرفة والعلوم الإسلامية والإغريقية إلى أوروبا، لم يعره المؤرخون المعاصرون أي إهتمام، وذلك لأنّهم أصروا على أنّ الصليبيين كانوا طلاب حرب لا طلاب حضارة. وهذا رأي ينطبق على بعض الصليبيين وليس عليهم جميعا.

في الحقيقة هناك أمثلة ومصادر كثيرة تثبت قيام الصليبيين بهذا الدور. مثلا، شهد بلاط الامبراطور فريدريك الثاني (من سلالة الهوهنشتاوفن) في مدينة باليرمو في صقلية ترجمة أو تأليف كثير من كتب العلوم. فمثلاً، كان لفريدريك شغف بعلم البيزرة (الصيد باستخدام الطيور الجارحة، كالباشق والصقر)، فطلب من بعض المسلمين عنده ترجمة أهم كتاب عن الموضوع والمعروف بكتاب المتوكلي، والمنسوب إلى الخليفة العباسي المتوكل على الله (حكم 841-867). وعلى أساس هذا الكتاب، ألف فريدريك كتابه “فن الصيد بالطيور الجارحة” (De arte venandi cum avibus)، والذي يعتبره المؤرخون الأوروبيون أول كتاب علمي عن الموضوع، وهو رأي نابع، ككثير من الأمور المشابهة، من نظرة الأوروبيين الاستعلائية التي قادتهم إلى تعريف الاكتشافات بدءاً من عملهم عليها. فمثلاً نقول اكتُشفت أمريكا سنة 1492، بينما الصحيح القول: إكتشف الأوروبيون الجنوبيون أمريكا سنة 1492، كونها كانت مسكونة ومعروفة لشعوب أخرى، منهم الاوروبيون في شمال القارة، كشعوب الڤايكينغ.

تاريخ الفترة الصليبية تاريخ متشعب غير قابل لأن نختصره بالحرب. أمّا إذا اختصرناه كصراع ملحمي بين المسلمين المشرقيين والمسيحيين الأوروبيين، فهذا يدلّ على تلاعبنا بالتاريخ

وللعودة إلى فريدريك الثاني، فقد أرسل له الملك الكامل في سنة 1226 مستشاره المقرّب الأمير فخر الدين ابن شيخ الشيوخ، يقترح عليه صلحاً بين الدولة الأيوبيّة والامبراطورية الرومانية المقدسة (التي كانت بيد سلالة الهوهنشتاوفن) على أساس إعادة الجزء المسيحي للصليبيين والحفاظ على الجزء الإسلامي (خصوصاً الحرم المقدسي والقرى الإسلامية حول القدس)، فقبل الامبراطور، لكن ما بهره أكثر كان سعة علم فخر الدين، وإلمامه القوي بعلم المنطق والشعر، فسماه خيالاً. ومنذ ذلك الوقت، زاد الأمير فخر الدين شعار الدولة الرومانية المقدسة إلى بيرقه وأبقاه حتّى وفاته. أدت هذه العلاقة المميزة بين الكامل وفريدريك إلى رفض الأخير قتال المسلمين حتّى عندما قاد “حملة” صليبية (تعرف بالحملة السادسة)، فأثار ذلك غيظ بابا روما الذي رمى عليه الحرم.

التلاعب بالتاريخ

كذلك تردد بعض العلماء المسلمين إلى بلاط فريدريك أو من جاء بعده بمهمات دبلوماسية فأغنوا أوروبا بالعلم بطرق مباشرة وغير مباشرة. مثلاً، في سنة 1240، أرسل الصالح أيوب، الفقيه الشافعي سراج الدين الأرموي، الذي كان نابغة عصره في المنطق إلى صقلية، حيث مكث فيها سنة، ألفّ خلالها كتابا في المنطق وأهداه إلى فريدريك. بعد ذلك بعشرين عاما، في سنة 1261، انتدب السلطان الظاهر بيبرس، المؤرخ والقاضي ابن واصل الحموي إلى بلاط الامبراطور مانفريد (ابن فريدريك) بمهمة دبلوماسية لتجديد السلام بين دولة المماليك والامبراطورية الرومانية المقدسة، فبقي ابن واصل هناك في جنوب إيطاليا سنتين ألفّ خلالها كتابه “الرسالة الامبراطورية في المنطق”. وابن واصل كان أيضاً من أهم العلماء في هذا المجال في وقته.

هذه العلاقة المميزة بين الأيوبيين والمماليك في بادئ أمرهم وسلالة الهوهنشتاوفن أسست لنظرة إيجابية وودية عند البعض في أوروبا في تلك الفترة حيال المسلمين، قادتهم إلى رفض المشاركة في حملات صليبية، وهو برأيي أدّى في أواخر القرن الثالث عشر إلى إنهيار المشروع العسكري الصليبي في فلسطين وبلاد الشام.

إذاً، تاريخ الفترة الصليبية تاريخ متشعب غير قابل لأن نختصره بالحرب. أمّا إذا اختصرناه كصراع ملحمي بين المسلمين المشرقيين والمسيحيين الأوروبيين، فهذا يدلّ على تلاعبنا بالتاريخ وما نتمناه منه لا عما هو.

(*) أستاذ في جامعة سميث الأميركية

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  أردوغان لا يحرق سفنه... الاحتمالات مفتوحة على سيناريو اعزاز