أردوغان يحارب ماكرون في عقر داره الأوروبي
Demonstrators chant slogans during an anti-France protest in Istanbul, Sunday, Oct. 25, 2020. Turkish President Recep Tayyip Erdogan on Sunday challenged the United States to impose sanctions against his country while also launching a second attack on French President Emmanuel Macron. Speaking a day after he suggested Macron needed mental health treatment because of his attitude to Islam and Muslims, which prompted France to recall its ambassador to Ankara, Erdogan took aim at foreign critics. (AP Photo/Emrah Gurel)

يشي التموضع الأخير لأطراف صراع شرق المتوسط بأن صلاحية الاستدارة الإيجابية التي انتهجتها تركيا في الربع الأخير من العام الحالي قد نفدت صلاحياتها. ما أفضت إليه الإنتخابات الأميركية من نتائج، لن يهلل لها رجب طيب أردوغان كثيرا، وفي المقابل، تبدو أوروبا سعيدة بفوز جو بايدن.

بدأت الاستدارة التركية بالسعي للحوار والتهدئة في ليبيا كمدخل لإعادة التفاوض على المحاصصة وترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط، وقد تعاملت معها مصر بحذر يقظ، تمثل في آلية اختبار لجدية التوجه الاستثنائي لتركيا، الذي وإن كان قد أتى من إرغام واضطرار، مفاده صعوبة الحسم العسكري في ليبيا، وإدارة القاهرة المستجدة للملف الليبي حسب أولوياتها وتوقيتاتها المرتبطة بمصالحها الاقتصادية وأمنها القومي، وليس فقط من باب تكريس مكاسب لشركائها الإقليميين والأوروبيين.

على أساس هذه الوجهة، تموضع شركاء مصر مع رؤيتها للحل في ليبيا، وذلك بعد سنوات من إختلاف وتناقض الرؤى والأولويات، على النحو الذي سمح لتركيا ووكلائها باستغلال الموقف حتى مطلع العام الحالي، حين عمدت إلى التدخل المباشر، الذي أدى إلى تصاعد سيناريوهات الصدام العسكري التركي – المصري في توقيت ثنائي وإقليمي ودولي حساس.

هذا التحول الذي اعتمدت فيه مصر على تغطية سياسية وعسكرية ودبلوماسية من باريس كطرف أوروبي فاعل، وليس وسيط كبرلين، كان مصحوباً بتقدير مفاده أن الاستدارة التركية في آب/أغسطس الماضي لا تهدف إلا إلى فصل القاهرة، بأولوياتها المُلحة، وعلى رأسها الملف الليبي، عن شركائها في كبح جماح الأردوغانية في شرق المتوسط وشمال أفريقيا، وليس الوصول إلى حل للأزمة الليبية بشكل جدي مثلاً، أو تسوية الخلافات الثنائية بين البلدين، وعلى رأسها دعم تركيا لما تبقى من أُطر لجماعة “الإخوان المسلمين”، أو ترسيم الحدود البحرية.

كذلك، قابلت القاهرة المسعى التركي بفصلها التقدم الذي حدث في مباحثات الحل السياسي في ليبيا، الذي بات للرؤية المصرية بخصوصه دعم أممي وأميركي وروسي وأوروبي، عن تقديم أي مقابل لأنقرة في ما يخص غاز المتوسط، بل وتكريس مصر لمكاسبها في شرق المتوسط، عبر تحويل منتدى الغاز إلى منظمة، على غرار “أوبك”، وتعزيز اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية بينها وبين قبرص واليونان باتفاقيات وتفاهمات عسكرية وأمنية تنطلق من أساسيات رفض السياسات التركية في المتوسط القائمة على استغلال اللاجئين كورقة ابتزاز شمالاً، وتهريب الأسلحة والمقاتلين جنوباً، بل والذهاب إلى ما هو أبعد من شرق المتوسط عبر مشاركة مصر في مناورات بحرية امتدت من سواحل غرب المتوسط حتى البحر الأسود.

إزاء ما سبق، وكما هي العادة، لجأت تركيا الأردوغانية إلى مهرب إلى الأمام، تمثل في تصعيد غير مسبوق، وبشكل جامع، وبنمط هوياتي شعبوي، يجيد النظام التركي استغلاله وتوظيفه في مختلف الساحات من الصين شرقاً حتى أوروبا غرباً، ولكن مع طفرة خطيرة تمثلت في إسباغ مسؤولية فرنسا بقيمها المؤسسة عن “إهانة” المقدسات الإسلامية، وذلك انطلاقاً من تعميمات للمسؤولين الفرنسيين، وعلى رأسهم الرئيس إيمانويل ماكرون، في الفترة الأخيرة عن “أزمة الإسلام”، وهو ما جعل ألغاماً مُهملة تتمثل في حوادث عنف فردية في الداخل الفرنسي على خلفيات دينية وجهوية، غالباً ما كانت توضع في سياقها الطبيعي – كرسومات “شارلي إيبدو” في السنوات الأخيرة – تنفجر في شكل دعوات إلى مقاطعة لفرنسا، مرفوعة على حوامل سياسية وإعلامية تركية، الهدف منها تسعير مناخ الاستقطاب الداخلي في المجتمع الفرنسي على أساس الهوية.

من هذا المنظور، فإن الأزمة الأخيرة التي تواجهها فرنسا، وعلى مستويات مركبة ومتداخلة ما بين الخارج والداخل، وتراكمات الماضي وتخوفات المستقبل، لا تمثل لتركيا سوى فرصة لأن تلتقط أنفاسها، وأن تعيد ترتيب أولوياتها وصفوفها، خاصة مع التشتت والتشابك الممتد من القوقاز في النزاع بين أرمينيا وأذربيجان، إلى شرق المتوسط وليبيا مروراً بسوريا، وأن تكشف في الوقت ذاته عن أوراق قوة جديدة، تنقل نزاعات الغاز في شرق المتوسط إلى قلب أوروبا، وتجعل انعكاساتها في يوميات المواطن الفرنسي والأوروبي.

تمثل ذلك في التطور اللافت من سيرورة توظيف مآسي اللاجئين من جانب أنقرة في كباشها مع الاتحاد الأوروبي، كما كان يحدث على مدار السنوات الماضية، إلى تسعير استقطاب هوياتي داخلي على أسس دينية لملايين الفرنسيين المسلمين، وذلك كمهرب اضطراري من معادلة الإخفاقات التي تكرسها السياسات الخارجية التركية منذ مطلع العام الماضي، وتحديداً في ما يخص المتوسط وشمال أفريقيا، والتي مثلت شراكة كل من باريس والقاهرة و أبوظبي، حائط صد رئيسياً لها.

على هذا الأساس، فإن التصعيد السابق، وإن كان أساسه الاقتصادي هو إعادة محاصصة غاز شرق المتوسط أو الإضرار بالاقتصاد والاجتماع الفرنسيين، فإنه ليس مجرد محاولة تركية للضغط على باريس وإدارة ماكرون في توقيت حساس انتخابياً للحصول على مكسب ما يحفظ ماء وجه أردوغان الذي كثرت اخفاقاته السياسية داخلياً وخارجياً، ولكنه مسعى لتحقيق مكسب شعبوي عنوانه هوياتي وديني، يمكن جعله طويل الأجل والفاعلية، ولن يكون هدفه الوحيد تعطيل وتجميد المسعى المشترك للثلاثي (فرنسا ومصر والإمارات) في تقليص نفوذ تركيا في جنوب المتوسط وشمال افريقيا، ولكن خلق ورقة ابتزاز طويلة الأمد والفاعلية يمكن توظيفها بأشكال وسياقات مختلفة.

إقرأ على موقع 180  معادلة إردوغان.. "أنا أو الفوضى"!

تجلى إدراك باريس للنقطة السابقة في مقابلة ماكرون التي بثتها قناة “الجزيرة” نهاية الأسبوع الماضي، حيث حاول تخفيض حدة الاستقطاب الداخلي، وعدم توسيعه على أسس هوياتية ودينية، والأهم الحيلولة دون بلورة دعوات المقاطعة لفرنسا على مستوى قرار سياسي مؤسساتي من دول إسلامية تدرك الأخيرة أنه غير ممكن ومضر للجميع وخاصة في ظل الانكماش الاقتصادي العالمي المرشح لأزمة هي الأعنف منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو الأمر الذي يبدو من خلاله أن تركيا وشركاءها لا يريدون الاستعجال – ولو مؤقتاً – في التعاطي مع الأزمة الأخيرة على أنها صدام هوياتي وديني عابر للحدود والجنسيات له كُلفته اقتصادية، بل مجرد أداة لاستعادة التوازن وإيقاف مسار تكريس خصومها لمكاسبهم على حسابها، استغلالاً لخطأ التقدير الذي تحرك على أساسه رجب طيب أردوغان في شرق المتوسط وشمال أفريقيا، والذي كان يهدف – اختصاراً- إلى دفع الأمور إلى حافة الصدام العسكري المباشر، من دون وقوعه فعلياً، للجلوس على طاولة مفاوضات أميركية.

في المحصلة، ترى تركيا أن الاستعاضة من جانب القاهرة وأبوظبي (والرياض) عن “الانكماش الأميركي” بدور فرنسي، تستوجب رداً منها بكافة السُبل المتاحة بما فيها تسعير الصراع الجيوسياسي إلى صراع هوياتي استقطابي على أسس دينية، وهو ما قد يدفع بواشنطن في المستقبل القريب إلى ضرورة التدخل السريع، وبالتالي انتقال ملف شرق المتوسط إلى رأس الأولويات الخارجية للإدارة الأميركية المقبلة، ربطاً بأولوية ترميم العلاقة مع أوروبا وإعادة تدعيم ركائز حلف الناتو.

Print Friendly, PDF & Email
إسلام أبو العز

كاتب صحافي ومحلل مختص بالشؤون الإقليمية والعلاقات الدولية - مصر

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الخليج يعود إلى لبنان.. هل يزور الأسد الرياض!