رحلة كوادر يسارية من الاستثمار الاشتراكي شرقاً إلى الفضاء الرأسمالي غرباً!

في الوقت الذي انقسم فيه العالم خلال القرن العشرين بين معسكرين متصارعين؛ رأسمالي يسير نحو اقتصاد السوق، واشتراكي يسعى لبناء دولة مركزية قائمة على المساواة والتخطيط والعدالة الاجتماعية. لم يتوقع أحد أن تصبح الأنظمة المُصنفة يسارية، وبرغم خطابها الأنتي رأسمالي، أحد أهم مصادر الكفاءات التي اعتمد عليها النظام الرأسمالي العالمي.

غداة الحرب العالمية الثانية، اتبعت الأنظمة الإشتراكية، خصوصًا الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية والصين وكوبا، سياسة التعليم المجاني الشامل، الهدف كان واضحًا: رفع مستوى الوعي، محو الطبقية التعليمية، وبناء جيل قادر على الدفاع عن التجربة الاشتراكية علميًا وفكريًا. سياسات أنشأت بنية تعليمية ضخمة أنتجت ملايين الخرّيجين (الهندسة، الفيزياء، الكيمياء، الطب، الرياضيات، التكنولوجيا العسكرية والمدنية إلخ..)، ومع الانفتاح على الغرب أو انهيار معظم تلك الأنظمة في مطلع تسعينيات القرن الماضي، تحوّلت هذه الكفاءات إلى عنصر ثمين في السوق العالمية، خصوصًا الشركات التكنولوجية الكبرى التي استقطبت عشرات الآلاف من علماء الشرق.

وفي سنوات الحرب الباردة، أدركت الأنظمة الإشتراكية نفسها أن قوتها السياسية والعسكرية تعتمد على تفوّقها العلمي، فاستثمرت بكثافة في المختبرات ومراكز البحث العلمي، وكانت النتيجة ولادة أجيال عالية التأهيل، لم تجد أمامها، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، فرصًا إلا في الجامعات الغربية وشركات التكنولوجيا والأبحاث العالمية.

استثمار يُوظّف بغير مكانه

قدّمت الأجهزة الإدارية في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية تدريبًا عمليًا صارمًا لمنتسبيها، فالعمل داخل جهاز الدولة الاشتراكية كان يقوم على التخطيط طويل الأمد والانضباط التنظيمي وإدارة الموارد المحدودة والعمل الجماعي والمهارات التقنية والإدارية المعمّقة.

هذه المهارات أصبحت لاحقًا أساسًا متينًا لنجاح آلاف الإداريين في المؤسسات الدولية والبنوك والشركات متعددة الجنسيات.

الأحزاب الشيوعية كانت مدارس حقيقية للتكوين القيادي، إذ اعتمدت برامج تثقيف سياسي وإداري صارمة، واللافت للانتباه أن هذه الخبرات تحوّلت، بعد سقوط جدار برلين، إلى قيمة عالية داخل النظام الرأسمالي النيوليبرالي الذي يبحث دائمًا عن كوادر قادرة على إدارة مؤسساته.

وخلال الحرب الباردة، استثمرت الأنظمة الإشتراكية الكثير من مواردها في تطوير تكنولوجيا الفضاء والصواريخ والاتصالات، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، انتقل عدد كبير من العلماء والمهندسين للعمل في شركات غربية كشركة “ناسا” وغيرها من شركات التكنولوجيا الأميركية، ومختبرات البحث في أوروبا، وشركات الصناعات العسكرية الغربية، وهكذا، تحوّل الابتكار الاشتراكي إلى رافعة مباشرة للتطور التكنولوجي في العالم الذي تقوده الولايات المتحدة!

المستفيد غير المنتظر!

بعد تحولات كبرى في نهاية القرن العشرين، وجد النظام الرأسمالي نفسه أمام فرصة تاريخية لاستقطاب:

-علماء ذوي خبرة في المشاريع الكبرى.

-إداريين مدرّبين على العمل المؤسسي الصارم.

-مهندسين في مجالات الفضاء والطاقة والذكاء الاصطناعي.

-آلاف التقنيين والباحثين القادمين من مدارس اشتراكية قوية.

وبهذه الطريقة، أصبحت الكفاءات التي أُعدّت أساسًا لخدمة المشروع الإشتراكي، جزءًا من البنية البشرية التي وسّعت قوة النظام الرأسمالي، وأعطته دفعًا إضافيًا في سباق التطور.

مفارقة تاريخية.. لكن واقعية

يُظهر هذا التاريخ أن العلاقة بين المنظومتين الإشتراكية والرأسمالية لم تكن مجرد صراع فكري أو سياسي، بل شبكة معقّدة من التأثير المتبادل.

فالأنظمة اليسارية (الإشتراكية)- من دون قصد- أسّست بنية تعليمية وتنظيمية قوية، استفاد منها خصمها الرأسمالي بأقصى قدر ممكن، وهكذا، قدّمت الاشتراكية واحدة من أهم الهدايا للنظام الرأسمالي:

جيلاً من العلماء والمهنيين والإداريين القادرين على قيادة الاقتصاد العالمي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.

يتضح اليوم أن الصراع الأيديولوجي بين هاتين المنظومتين – بمعزل عن مسمياتهما – أنتج مسارات متقاطعة لا يمكن تجاهلها. فنظامٌ حاول تأسيس مجتمع اشتراكي قائم على المساواة انتهى- عن غير قصد- إلى تقوية خصمه الرأسمالي، عبر تخريج كفاءات أصبحت جزءًا من العمود الفقري للنظام الرأسمالي الحديث.

إنها واحدة من أكثر المفارقات السياسية لفتًا للنظر في التاريخ المعاصر، ومرد ذلك إلى قصور آليات النظام الاشتراكي العاجزة عن احتواء قدرات كانت قد أعدتها لتلبي حاجات نظامها العلمية والتقنية والفنية والإدارية، ولكن هذه الكفاءات وجدت نفسها وامكانتها في النظام الرأسمالي، وهذا إن دلَّ على شيء فإنه يدل على حقيقة أن الرأسمالية عبارة عن نظام مرن يمتلك قدرة عالية على إعادة إنتاج أو اصلاح نفسه عبر خلق آليات جديدة بعد كل أزمة يواجهها، لكنه يفعل ذلك عبر نقل التناقضات إلى مستويات أخرى، لا عبر حلّها جذريًا.. أي أنها تتجدد، لكنها تُنتج أزمات جديدة في كل دورة.

باختصار، تكشف الوقائع التاريخية أن الاشتراكية أسّست بُنى تعليمية وتنظيمية كانت لاحقًا بمثابة “هدية غير مقصودة” للرأسمالية العالمية.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  الصراع الأميركي الإيراني: صفعة أم صفقة؟
علي المقداد

باحث في العلاقات الدولية، لبنان

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الوثائق البريطانية عندما تنصف عبدالناصر!