سوريا في العام 1957 وسوريا في العام 2024. الكثير تغيّر فيها وفي الشرق الأوسط، ولكن الكثير أيضا فيهما لم يتغير. كيف؟
سوريا في العام 1957 وسوريا في العام 2024. الكثير تغيّر فيها وفي الشرق الأوسط، ولكن الكثير أيضا فيهما لم يتغير. كيف؟
بعد فرار الرئيس السوري بشار الأسد بأربعة أيام، وبتاريخ 12 كانون الأول/ديسمبر 2024، مدّدت الولايات المتحدة عقوباتها الاقتصادية على سوريا لمدة خمس سنوات جديدة ضمن ما يُعرف بـ"قانون قيصر"، الذي شرّعه الكونغرس في العام 2019، وهذا ما يعني إبقاء العقوبات مفروضة على سوريا، وهو ما كشفته وثيقة أمريكية رسمية، حيث تم شطب التاريخ الذي هو 5 سنوات بعد سريان مفعول هذا القانون، ليصبح التاريخ الجديد 31 كانون الأول/ديسمبر 2029.
وضعت التحولات الكبرى في الشرق الأوسط خلال الأشهر الأخيرة، إيران في مكان بات يتطلب منها تحديد خيارات استراتيجية بالنسبة لسياستها الخارجية وعلاقتها بالغرب، وضمناً قرارات حاسمة في يتعلق ببرنامجها النووي، تصعيداً أو تقديم تنازلات جوهرية. وسيترتب على الحالتين نتائج بعيدة المدى.
قبل أسابيع تركّز اهتمامُنا، نحن أهل هذه المنطقة، على "اليوم التالي" لغزة. كانت غزة الفرصة التي لفتت انتباه البعض منا ـ ولو أن هذا البعض قليلٌ ـ إلى خريطة حملها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى نيويورك ليرفعها أمام العالم بأسره. عرفنا يومها أو فيما بعد أن الخريطة لإسرائيل الكبرى.
كان المشهد آنذاك خارجاً عن المألوف. في حزيران/يونيو 2000، وبعد أيام على وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد (الأب)، كان مئات من مقاتلي حزب الله، بزيهم العسكري الأسود (لباس قوات التعبئة في الحزب)، يصطفون في عرض عسكري في القرداحة، أمام الرئيس بشار الأسد (المخلوع)، وإلى جانبه كان يقف كلٌ من الأمين العام لحزب الله، الشهيد السيّد حسن نصرالله، ووزير الدفاع السوري آنذاك مصطفى طلاس. كان ذلك المشهد "رسالة"، تبدَّت مفاعيلها التنفيذية بعد 12 عاماً، عندما أضحت رئاسة الأسد (الإبن) ونظامه محل تهديد.
ما تزال الأحداث في سوريا في حالة من التدفق، بحيث يصعُب الخروج بتصور دقيق للمستقبل. إنما الواضح حتى الآن، هو بروز لاعبين جدد في الداخل والإقليم على حساب القوى التي سادت لعقود. وهذا، بدوره، لا بد أن يفرز واقعاً جديداً لهذا البلد المحوري.. وربما لسائر بلدان المنطقة.
سقوط النظام السوري ليس وليد لحظة. هو مسار تاريخي دشّنت آخر فصوله الثورة السورية عام 2011 وصولاً إلى الاقتتال الداخلي الذي انخرطت فيه دول عديدة وما رافقه من ضغوط خارجية على النظام السوري، كان أصعبها "قانون قيصر" بما رتّب من نتائج كارثية على الشعب السوري ولا سيما وظائف القطاع العام، بما فيها الجيش وباقي المؤسسات الأمنية.
التبدل الاستراتيجي السريع في سوريا يخلق تبدلاً في السياسة والأدوار. ما كان يصح قبل التقدم المذهل لـ"هيئة تحرير الشام" ("جبهة النصرة" سابقاً قبل فك ارتباطها بتنظيم "القاعدة" في 2016) وفصائل أخرى ترعاها تركيا، وصولاً إلى إمساكها بالسلطة، لم يعد يصح بعده.
في أيار/مايو من العام الجاري، تسرّبت وثائق من مكتب بنيامين نتنياهو تكشف النقاب عن تصوّر هذا الأخير لمستقبل غزة: "خطة غزة 2035.. من الأزمة إلى الإزدهار". بعد حوالي ثلاثة أشهر، أي في آب/أغسطس، صادق نتنياهو على مضمون ما تمّ تسريبه في مقابلة أجرتها معه مجلة "التايم" الأميركية.
تُمثّل إسرائيلُ التجلي أو التكثيف الأبرز لنظام القوة والمعنى في النظام العالمي، ولعلها أحد "نقاط الثبات" فيه، بمعنى أنها حافظت على موقع مهم، وبشكل ثابت تقريباً، والصحيح بشكل متصاعد، في سياسات ورهانات فواعله الكبرى، من نظام الحرب الباردة ونظام ما بعدها، وما بعد بعدها، أي النظام العالمي في طور التشكيل. وهو ما يمكن عَدُّه، من منظور عربي وإسلامي وربما عالم ثالثي، أحد "نقاط الاختلال" و"مصادر التهديد"، وليس "نقاط الثبات" و"مصادر الفرصة" من منظور إسرائيل. وثمة مع كل ذلك "نقاط أمل"، حتى لو كان قليلاً أو ضئيلاً!