عُلَقت آمال كبيرة في السودان وخارجه على أن يمثل الحراك الشعبي السوداني علامة فارقة في ثورات “الربيع العربي”، من شأنها أن تقود البلاد إلى الدولة المدنية بثورة بيضاء من دون إراقة دماء.
كان مجرد إطلاق كلمة ثورة أو إنتفاضة في أي قطر عربي على أي نظام حاكم من شأنه ان يثير الريبة والشكوك من أي مصير ستؤول إليه الأوطان بعد حراكات الشارع.
واجهت محاولات التغيير في منطقتنا العربية منذ 2011 حتى الآن معضلة مشتركة هي المفاضلة بين خيارين أحلاهما مر: جزمة العسكر أو اللحى الدينية ممثلة بحركات الإسلام السياسي “الأخوان المسلمين” أو الإسلام الجهادي. وقد أجبر الربيع العربي، وما بعده، بعض الجيوش على كشف وجهها الواضح بإظهار نفسها كطرفٍ سياسي مُتحكّم إلى حد كبير في مجريات الواقع السياسي وتحوّلاته.
ولقد شكل إنقلاب وزير الدفاع المصري الفريق أول عبد الفتاح السياسي على حكم الرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي، وعودة العسكر إلى الحكم في أكبر دولة عربية منعطفا، ومؤشرا إلى إستحالة إقتلاع الدور السياسي الفاعل للجيش في الحياة السياسية.
وإذا كان دور العسكر حاسماً في إنتقال بلد أوروبي مثل البرتغال نحو الديمقراطية، فإن وجود الجيوش العربية في قلب اللعبة السياسية أدى الى نتائج مغايرة لما يريده الشارع المنتفض بحثا عن الديموقراطية والحرية. فهل يقلب السودان هذه المعادلة ويرسي لنهج مغاير عما رأيناه في دول عربية أخرى؟
وصفة العسكر جاهزة عربياً
بعد أشهر قليلة من نزول السودانيين الى الشارع وإطاحتهم الرئيس العسكري الإسلامي الفريق عمر حسن احمد البشير، يشكل “الإعلان الدستوري” الموقع في الخرطوم بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي، تمهيدا لتأسيس دولة مدنية، خطوة إيجابية غير أنه لا يبدد هواجس كثيرة إزاء نصوص غامضة في الإعلان تتصل بوضعية القوات النظامية خلال المرحلة الانتقالية…
ولعل التدقيق في تفاصيل الإعلان يشي بأن المؤسسة العسكرية بكل مكوناتها وُضعت في يد القادة العسكريين بجانب سلطة تعيين وزيري الدفاع والداخلية، ما يعني تكريس القبضة الأمنية بيد العسكر خارج السلطة التنفيذية التي أسندت رئاستها إلى عبدالله حمدوك. ومن شان إتفاق كهذا ان يجعل السلطة المدنية المنقوصة في كف “عفريت الإنقلابات” العسكرية، فالجيش الذي يقوم بالإنقلابات وإستخباراته التي تكشف عنها ليست تحت سلطة مجلس الوزراء ولا ترفع تقاريرها إلى رئيس المجلس. لذلك، يخشى المتشائمون أن يفضي هذا الإتفاق إلى دولة ترسخ حكم العسكر.
ومع ظهور الجيش كقاسم مشترك في الحراكين الشعبيين السوداني والجزائري وفي الأزمة الليبية، يستحضر النموذج المصري، فهل ثمة عودة إلى حكم العسكر؟ وإلى أين يسير العسكر في العالم العربي الجديد، وبشكل أدق إلى أين يسير عرب القرن الحادي والعشرين؟
التحّولات الجديدة لما بعد “الربيع العربي” أفرزت آليات جديدة للدعم من خلال التمويل الخليجي، الذي تحوّل نحو العسكر في ليبيا والسودان وحتى الجزائر
نموذج الإنقلاب الداخلي في الجيش البرتغالي ونموذج التحييد الخارجي في تركيا، ونموذج التحوّل المؤسّساتي في أندونيسيا وفي دول أخرى كالتشيلي وإسبانيا، تؤكّد أنه لا توجد وصفات “جاهزة” لمأسسة العسكر ولعبه الدور السياسي الإيجابي بدل دوره الرافض لكل تغيير. أما في العالم العربي، فإن ثلاثة عوامل تضبط أو تتحكم بحركة الجيش ودوره في الحياة السياسية، وهي:
أولا، الدعم الأجنبي:
برغم تقلّص الدعم الأميركي لكثير من الجيوش العربية، إلا أن التحّولات الجديدة لما بعد “الربيع العربي” أفرزت آليات جديدة للدعم من خلال التمويل الخليجي، الذي تحوّل نحو العسكر في ليبيا والسودان وحتى الجزائر. ولم يسهم دعم البترودولار في تقوية هذه الدول، بل على العكس من ذلك، أصبح عاملاً مهماً من عوامل التشقّق السياسي والمؤسّساتي.
جنرالات يخاطبون جنرالات!
وبدا واضحا في التجربتين السودانية والليبية أن القدرة الإقليمية على التدخل تتجاوز أحيانا التدخل الغربي الفعال في منطقتنا، فالجنرالات الذين يحكمون القاهرة المعنية جدا بشؤون جاريها الجنوبي والغربي، يحبذون مخاطبة أمثالهم أصحاب النجوم في الخرطوم وليس أصحاب الياقات البيض، ويعتبرونهم أكثر قدرة على فرض الإستقرار ومنع الفوضى، بشرط أن ينأى الضباط بأنفسهم عن الإسلام السياسي. كذلك الرياض وأبو ظبي (اللاعب العسكري والأمني الغني والجديد في المنطقة)، يفضلان حكم الجيوش التي تعادي “الإخوان” ولا يحبذان أنظمة ديموقراطية في مداهما الحيوي.
اما الإتحاد الاوروبي الذي لأسباب كثيرة يجاهر بالدعوة إلى إقامة حكم مدني وديموقراطي خلف الشواطىء الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط، فإنه يفضل ضمنا العسكر والأنظمة المتشددة القادرة على ضمان مصالحه ولا سيما النفطية والغازية منها ولجم الهجرة غير الشرعية. أما الدولة الكبرى اميركا، فما يهمها هو وجود أنظمة حكم في الدول المستهدفة تدور في فلكها وتشكل ركائز تابعة لها في ظل نظام إقليمي يتغير ومع بروز دول متوسطة وكبيرة تطمح لأدوار إقليمية كبرى في البحار الدافئة من بحر العرب إلى البحرين الأحمر والأبيض المتوسط.
من جهتها، لا تخفي روسيا، الوافد الجديد إلى الإقليم، تفضيلها حكم الجيوش على الديموقراطيين من سوريا الى الجزائر مرورا بليبيا والسودان، فيما حليفتها الصين الطامحة إلى أدوار اقتصادية كبرى عبر بناء ما تسميها “القوة الناعمة”، تتطلع في الدول المستهدفة إلى حماية ومساندة أنظمة ثابتة ومستقرة لضمان مصالحها الحيوية والمتشعبة، وهي تاليا لا يضيرها التعاطي مع توتاليتاريين وأنظمة عسكرية ما دامت تحفظ لها هذه المصالح.
ثانيا، شرعنة الحكم العسكري:
أثبتت التجارب السياسية أن التحولات الكبرى لا ترتبط بتغيير الوثائق الدستورية من دون تغيير أسس الشرعية والتحوّل من شرعية القوة إلى قوة الشرعية
عانت دول ما يسمى “الربيع العربي”، ومعظمها كانت واقعة تحت حكم الأنظمة البوليسية والعسكرية وغابت عنها الديموقراطية لفترات طويلة، من موت الحياة السياسية فيها، فهرمت فيها الأحزاب السياسية وشاخت أو إنعدمت، وكذلك ماتت الحياة الطلابية والشبابية والنقابية، ولم يبق في الميدان إلا الأحزاب الدينية والمؤسسات الدينية الرسمية التي لم تستطع أن تنأى بنفسها عن معترك السياسة. وأضعفت تحالفات الإسلاميين مع فقهاء السلطان، مشروع البناء الديمقراطي، وأسهمت في ترسيخ شرعية العسكر حين تبنّت شرعية التغلّب و”غزوة الصناديق”. في النموذج المصري، سرعان ما استبدل السلفيون العسكر بالإخوان. وتحوّل الكثير من وسائل الإعلام والتواصل إلى آليات دعائية غير قادرة على بناء وعي مجتمعي صحيح، وأسهم الإستعجال الذي طبع الربيع العربي في سيطرة لغة الشعارات بدل البحث عن برامج إقتصادية وسياسية حقيقية وفعّالة.
وتحت ذريعة الخوف من الفوضى، أو “الفلتان السياسي”، وفق قواميس هذه الأنظمة، جرى الدفع نحو إحياء دور العسكر السياسي مع توالي الثورات المضادة المستندة إلى مؤسسة الجيش كجسم منضبط وفعال، وبالإمكان “التفاهم معه” ومقايضة الإستقرار بالديمقراطية، وجعل هذه البلدان بعيدةً بمنأى عن مخاطر الفوضى والحروب الأهلية!
ثالثا، أزمة المأسسة:
غابت مأسسة الدور السياسي للعسكر في الحياة السياسية، وغابت معها إمكانية بناء نسق سياسي واضح المعالم. ففي أغلب الدول العربية يرتبط الجيش بالحاكم العسكري، ويمثل أحياناً إمتداداً لشخصه.
السودان مسار بآفاق مفتوحة
في السودان، أسهمت البراغماتية “المائعة” التي قادها العسكر والإسلاميون في فقدان الجيش والدولة على حد سواء لأسس واضحة للشرعية. لقد فرّط الجيش في الحدود الإقليمية للدولة وبحث لنفسه عن أحلاف من دون أيّ تصوّر وطني إستراتيجي مما ضبّب الرؤية السياسية وأفقد الجيش قدرته على بناء عقيدة وطنية واضحة.
في المقابل، لعل ما يُميز الثورة السودانية عن سواها، هو نجاحها خلال السنوات الماضية، في مراكمة التجارب وإعادة انتاج الحراك المعارض بأشكال متنوعة. كما نجحت المعارضة السودانية في إيجاد مساحات مشتركة للنضال وإئتلافات واسعة لم نشهد مثيلاً لها في أكثر دول المنطقة المُنتفضة على حكامها.
وأيضاً، نتيجة التجربة المصرية المريرة، لن يثق الثوار السودانيون بالجيش. اليوم، بات هناك وعي كامل بأن الديمقراطية لن تأتي عن طريق ضباط الجيش. المعارضة أجابت بإعادة التأكيد على ضرورة قيام السلطة المدنية، وعلى إجراء الإنتخابات كي تنعكس إرادة الناس في صناديق الإقتراع.
ومع ذلك لا يمكن التنبؤ بطبيعة المسار الذي قد يسلكه الحراك السوداني أو التجربة السودانية الجديدة نظراً إلى بروز خلافات بين أطراف القوى المدنية فضلا عن تشريع النوافذ والأبواب السودانية أمام رياح التدخلات الخارجية.
الجزائر: الجيش يبني دولة
على النقيض من الجيش السوداني، فإن الجيش الجزائري هو الجيش الوحيد في العالم الذي بنى دولة وليس العكس، بعدما دمر الاحتلال الفرنسي كل مقومات الجزائر. وكان الجيش بعد انتهاء حرب التحرير هو المؤسسة الوحيدة القائمة، واضطلع بعد الحرب بدور مهم في بناء شرعية وطنية إستقلالية تجاوزت أحياناً حدّها الوطني ليستأثر وحده بالسلطة من دون مبرّرات معقولة، ومن دون موارد حقيقية لتجديد مشروعيته.
وبرغم المنعطفات الكبيرة التي مرت بها الجزائر خلال العشرية الدموية وبعدها، بقي الجيش الجزائري المتحكم الكبير بالحكم والادارة والسياسة والموارد والركيزة التي يستند إليها الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم البلاد. وما يزال العسكر مسيطراً على الأنشطة الإقتصادية الكبرى وعلى السياسات العامة في مقابل صعود برجوازية جديدة حققت ارباحا خيالية من الفراغ الذي أعقب إبعاد جنرلات فرنسا. هل يمكن التعويل على الإصلاح الدستوري لتحييد دور العسكر السياسي في الجزائر؟
لقد أثبتت التجارب السياسية أن التحولات الكبرى لا ترتبط بتغيير الوثائق الدستورية من دون تغيير أسس الشرعية والتحوّل من شرعية القوة إلى قوة الشرعية.
ليبيا: الجيش هنا وهناك!
اما في ليبيا، فتبدو القصة مختلفة تماما، ذلك أنه لا وجود لجيش فعلي في ليبيا منذ زمن العقيد معمر القذافي، في حين أدت الازمة المستمرة منذ 2011 الى غياب كامل للمؤسسات المركزية ووقوع سلطات الدولة تحت هيمنة المجموعات المسلحة. وتُعتبر معركة طرابلس جولة أخرى من صراع حكومة الوفاق وقوات المشير خليفة حفتر، وجولة أخرى من صراع خليجي ــ خليجي يُذكّيه دعم مصري وتركي، وجولة أخرى أيضاً من صراع فرنسي إيطالي على دولة باحتياطي 48 مليار برميل من النفط، وصراع نفوذ بين الولايات المتحدة وروسيا، ما يقود للقول إن العالم كله يتقاتل على أرض طرابلس. وبين هذا وذاك، يتخبط المواطن الليبي بين أزمة السيولة وقصف الطائرات في إنتظار جلاء الخراب الذي خلّفته التدخّلات الخارجية في بلده.
وبعد حروب مرة وصعبة في سوريا، يستعيد الجيش ومعه الأجهزة الأمنية التابعة للنظام، وبدعم قوي من الحليف الروسي، مكانته الداخلية كمؤسسة فعالة وركن أساسي في البلد مسنوداً بقناعة لدى البعض أو بإدعاء لدى البعض الآخر بأنه الوحيد القادر على محاربة الإرهاب. كذلك في العراق، يستعيد الجيش أولوية في المشهد كعصب لتوحيد البلاد الممزقة والمشرذمة بالآفات السياسية برغم المنافسة الحادة من الجيش الرديف، أي “الحشد الشعبي” الذي أملت وجوده وأسباب قوته ضرورات محاربة الإرهاب أولاً ثم عوامل خارجية وحسابات سياسية فئوية ثانياً.
ضبط فساد لبنان.. بالعسكر
وعلى وقع هذه التحولات في المنطقة، لا عجب في أن يعود لبنان ــ وهو لطالما كان صدى دائماً لها ـــ إلى هذا الخيار بعدما تعاقب على تولي رئاسة الجمهورية فيه ثلاثة ضباط كبار على التوالي بينهم قائدان للجيش بعد إنتهاء خدمتهما مباشرة وقائد ثالث بمفعول رجعي.
وليس خافياً أن هناك من يراهن مجددا في الداخل والخارج على مبدأ أن لا حكم لغير العسكر من أجل الحفاظ على الأمن والإستقرار في ظل إنفلاش حالة عدم الثقة بالطبقة السياسية وأحزابها الطائفية، كما في ظل التخبط الاقتصادي والمالي.
ثمة كلام في محافل سياسية مفتوحة أو مغلقة بأن العسكر هو الحل لضبط الأوضاع في لبنان، وأن المؤسسة العسكرية وحدها القادرة على ضبط الفساد
ولعل التوالي المتسارع للأحداث وتنامي الضغوط الخارجية في ظل الصراع الإقليمي المفتوح بين أميركا وإيران والتشجيع الاميركي العلني للجيش اللبناني وقائده العماد جوزف عون الذي يحظى ايضا بإحترام “حزب الله”، يصب في خانة الكلام الدائر في محافل سياسية مفتوحة أو مغلقة بأن العسكر هو الحل لضبط الأوضاع في لبنان، وأن المؤسسة العسكرية وحدها القادرة على ضبط الفساد، ومواجهة صفقات السياسيين وتفلتهم في أعمال النهب والإفساد.
وختاما، فإن الثورة الشعبية وحدها غير كافية لولادة الديمقراطية. إنها مسار طويل لا تنبثق من الثورة مباشرة، بل بعد سلسلة إصلاحات دستورية وقانونية وحوارات ومساومات سياسية. الثورة تغيّر النظام، والإصلاح يبني الديمقراطية بعد تسلم السلطة.