

هذه مقالة أو بالأحرى صرخة قاسية ومليئة بجلد الذات الإعلامية المقاومة. فإن كنت كقارئ إعلامي أو محلّل صاحب نخوة مقاومة شديد الرومانسية والحساسية، لا تقرأ الأسطر ولا تكملها، لأنّ أخطر ما ستواجهه المقاومة، هو أن تستكمل الخُطى بالرومانسيات وحفلات دقّ الطبول وترجيع الصوت.
إن كنتَ كإعلامي من الذين يرون في النقد اليوم، القاسي منه أو اللطيف، طعناً في ظهر المقاومة، فوَحقّ مقاومتك هذه أنها تُغتَال بقصائدك وبياناتك الرّنّانة الطويلة والمكرورة والمملة قبل أن تُغتال بعبارات النقد.
عليكَ أيها الإعلامي الرقيق أن تدرك، أنّ في البيوتات، في تمتمات صباحات النسوة، وأحاديث الشباب على المقاهي، الكثير الكثير من العتب، إن كانت كلمة العتب تدغدغك أكثر وتحرّكك.. لكنهم كلهم يخافون النطق بكلامٍ علني يخدش بيئةً كانت هي الإعلام كلّه، والصورة كلها، يوم فتحوا قراهم بأجسادهم ودمائهم، وعبّدوا الطريق لكاميراتكم أن تنقل المشهد بأقوى من ألف كلمة شاعرية تبثونها.

بعض ما يُقال، ويُنقل، ويُروى، ويُسجل على شكل نصائح وتوجيهات وتحليلات، ما عاد مقبولاً. لا أنطق باسمي. أنقل حرفيّة ما تقوله العقول التي لا تريد ممن يخاطبها إلا أن يحترمها. كان للسيد الشهيد حسن نصرالله كلمته العليا في بيئة المقاومة. لم يكن أميناً عاماً للحزب المقاوم وحسب، بل كان المنصة الإعلامية الأوحد تقريباً لكل متابعيه. كل المنابر الأخرى كانت صدى. انعكاس. ترجمة. وهذا وإن كان له زخمه إلا أنه لم يكن صائباً في استراتيجية المسيرة حتماً، لأنه ببساطة يؤسس للهزيمة من حيث عدم تأسيسه للبحث في الزوايا النقدية. حتى أنه تندر مراكز الدراسات البحثية التابعة للمحور، كما أن دراساتٍ أجريت كانت في العمق مُصدِّقة، لا باحثة؛ تنظر إلى الزاوية التي ينطلق منها سماحته، وتذهب لتأويل الوقائع وتحليل المضمون انطلاقاً من نتائج الرؤية النصرلاّويّة.
مئات الملايين من الأموال، صُرِفت وتصرف على ظواهر وعقليات نقلية، وتبريرية، تقول الشيء وعكسه، وتبرّر للشيء وعكسه، كلّ حسب الظرف، وكأن مدرسةً قائمةً في الإعلام تمخّضت من بطون كتب علم الكلام القديم، أو من بيولوجيا الهرمونات وتقلّباتها.
إن كانت هذه الكلمات جارحة فالواقع الإعلاميّ أجرح. وستطول دوماً هذه الأزمات إن لم تُقصّر عمرها الصدمات.
ليس المطلوب من وسائل الإعلام أن تكون محطات للإجترار الدائم لخطاب المظلومية، بل أقلّه أن تكون محطات فعّالة في تحقيق أهدافها العامة، لكنها تصرّ على الاكتفاء بكونها حسينيات أو منابر تعبوية أو استديوهات لاستضافة أشباه المنجمين والعرّافين…
التحدي اليوم كبير جداً، لا سيما وأن من يصنع السردية ويروّج لها بإتقان يكسب الجولة. صحيح أنّ ما يضخّ من المال لأجل شراء المنابر الإعلامية كثير، وقدرته على إغراق السوق بالميديا المضللة كبيرة، لكن ما هو موجود لا بدّ وأن يكون رفيع الذوق، بالغ الأثر، قادر على إحداث فرق، لا أن يصبح مادة للتندر والسخرية!
اليوم هناك حاجة كبيرة إلى إعادة صوغ الأهداف العامة أصلاً للقنوات الإعلامية التي تُدافع عن فكرة المقاومة، وذلك لأن سلم الأولويات تبدّل، بل وأدوات العمل تبدّلت أيضاً.
المطلوب أن تعرف وسائل الإعلام ماذا تنتقي من البرامج والمواد، وفقاً لاستراتيجية ورؤية عامة هدفها صناعة رأي عام مثقف ومنطقي لا رومانسي و”هوبرجي”..
المطلوب محاولات حثيثة لتحليل مضامين الخطابات الرئيسية المؤثرة، كخطابات بنيامين نتنياهو مثلاً في الأمم المتحدة، وإتقان صنعة افتضاح العدو من عنديّاته.

ستفرض الوقائع على القيمين على وسائل الإعلام تعديلاً في الثقافة، تدفعهم إلى تعديل في الرؤى والاستراتيجيات، وصولاً إلى التعديل في آليات العمل.. وأي تأخر عن المستجدّ هو مفاقمة لحالة الفراغ الإعلامية التي تُمكّن حالة الهزيمة بعد غياب واستشهاد المنبر الإعلامي الأبرز في “حرب لبنان الثالثة”.