

بالرّغم من أنّ هذه الورقة عبارة عن نوع من رسالة مفتوحة إلى دولة الرّئيس نوّاف سلام.. غير أنّي أفضّل، في هذه الظّروف تحديداً، أن تكون ربّما رسالة حوار بيننا جميعاً كمواطنين لبنانيّين واقعاً. وأنا مؤمن، أصلاً، بأنّ دولته يعتبر – صادقاً – أنّه واحد منّا بطبيعة الحال، وهو طرف أصيل في نقاش كهذا بالتّأكيد، لا سيّما في هذه الظّروف كما سبق وأشرنا.
وبالعودة إذن إلى عالم المفاهيم والتّدقيق والتّمحيص، فخلاصة المقولة العامّة هذه – قيد التّدقيق والنّقاش والاختبار – هي التّالية:
(١) ادّعت قيادة المقاومة وفريقها وحلفاؤها في لبنان (والاقليم)، خصوصاً منذ ما بعد تحرير عام ٢٠٠٠، أنّ بقاء “سلاح المقاومة” (الموازي) ضروريّ، بهدف “ردع العدوّ الاسرائيليّ” عن معاودة الاعتداء على البلد و/أو إعادة احتلال أجزاء منه؛
(٢) أتت حرب ٢٠٢٣-٢٠٢٤، لا سيّما حرب الـ٦٦ يوماً ابتداء من أيلول/سبتمبر ٢٠٢٤، جاءت – كحدث يصلح كمعيار أو كأداة للقياس وللتّمحيص وللتّجربة – لتُثبت باختصار أنّ “هذا السّلاح لم يردع” في واقع الأمور. (وبالتّالي، طبعاً بحسب هذا الرّأي المتواجد في البلد، ينبغي الآن أن تعود “حصريّة السّلاح” إلى يد الدّولة، ولكنّ ذلك ليس موضوعنا في هذا المقام).
وإنّي أكتب هذا المقال وأنا، بصراحة، آمل أن يقرأه المنصفون وأهل الأمانة الفكريّة والعلميّة ممّن يحملون هذا الخطاب.. عسى أن نتنبّه سويّاً إلى ضرورة التّدقيق في المفاهيم وفي النّماذج التي نسمّيها أو نشير إليها بطريقة أو بأخرى. وبهدف الحوار، لا السّجال والاتّهام والنّزال، سأبدأ هذه الورقة بالتّصريح الواضح التّالي من جهتي، ألا وهو: مقولة “السّلاح لم يردع” هذه، وفي هذا التّوقيت وضمن السّياق اللّبنانيّ والاقليميّ الحاليّ، هي عموماً – بل في جوهر الأمور – من النّوع الدّوغمائيّ.. أكثر من كونها من النّوع الواقعيّ.
العدوّ قد قبل بوقف الأعمال العدائيّة صباح السّابع والعشرين من تشرين الثّاني/نوفمبر من العام الماضي؛ ثمّ ما لبث أن انسحب من الأغلبيّة السّاحقة للأراضي التي احتلّها أو حاول احتلالها. والخلاصة المنطقيّة والمنصفة هي باختصار: العدوّ إنّما لم يزل يلتزم بحدود مُعيّنة – لا يُمكن تجاهلها – لعدوانيّته.. بسبب وجود هذا “الرّدع” أوّلاً وقبل أيّ شيء آخر، وإن كان مستوى هذا الرّدع هو اليوم أقلّ نسبيّاً من الماضي – ومن جوانب معيّنة لا يُمكن انكارها إذن
ويُمكن تعريف المقولات أو الأطروحات الدّوغمائيّة هنا على أنّها عادةً، وباختصار، مقولات أو أطروحات قد تكون “عقلانيّة” (Rationnelle) في ذواتها.. ولكنّها، متى تخرج من إطار ذواتها نحو الواقع، تسقط أمام هذا الأخير وتنهار أمام التّجربة.
وسأدافع، في ما يلي، عن هذا الموقف، انطلاقاً من زوايا أربع رئيسيّة.
الزّاوية الأولى: مفاهيميّة؛ وهي تستند إلى حقيقة مفادها أنّ مفهوم الرّدع هو من النّوع النّسبيّ.. لا المُطلق أبداً. لا وجود لردع مُطلق أو حتّى بالمُطلق، وهذه الحقيقة تُذكّر بنظريّات التّوازن (Equilibre) في العلوم الرّياضيّة والاقتصاديّة وربّما في بعض الدّراسات الاجتماعيّة. وأعتقد أنّ خير تعبير عن هذا التّذكير هو ما يُسمّيه العلماء بـ”نظريّة الألعاب” وبالأخصّ “توازن ناش” (Equilibre de Nash)، نسبة إلى عالم الرّياضيّات الأميركيّ المعروف والحائز على نوبل.. جون ناش (ت. ٢٠١٥ م).
والواقع اليوم يُبيّن، بوضوح، أنّ “التّوازن الرّدعيّ” الذي كان قائماً ما بين العدوّ الاسرائيليّ وبين المقاومة أقلّه منذ عام ٢٠٠٦.. قد اهتزّ أو تغيّر أو اختلّ بشكل أو بآخر، وربّما بشكل ملموس جدّاً في عدد من الجوانب (ولأسباب لا مجال لنقاشها هنا بالتّفصيل).
ولكن، لا يعني ذلك البتّة أنّ “الرّدع” كلّه أو جلّه قد اختفى: (١) بسبب الطّابع النّسبيّ للمفهوم-الظّاهرة نفسه إذن؛ ولكن أيضاً (٢) بناء على ملاحظة الوقائع الميدانيّة.. حيث نرى أنّ العدوّ قد قبل بوقف الأعمال العدائيّة صباح السّابع والعشرين من تشرين الثّاني/نوفمبر من العام الماضي؛ ثمّ ما لبث أن انسحب من الأغلبيّة السّاحقة للأراضي التي احتلّها أو حاول احتلالها. والخلاصة المنطقيّة والمنصفة هي باختصار: العدوّ إنّما لم يزل يلتزم بحدود مُعيّنة – لا يُمكن تجاهلها – لعدوانيّته.. بسبب وجود هذا “الرّدع” أوّلاً وقبل أيّ شيء آخر، وإن كان مستوى هذا الرّدع هو اليوم أقلّ نسبيّاً من الماضي – ومن جوانب معيّنة لا يُمكن انكارها إذن.
وإلّا، مع التّبسيط وكما يُبيّن تاريخنا الحديث: لكان هذا العدوّ على الأرجح قد قام باجتياح أكبر للأراضي اللّبنانيّة وصولاً – لم لا؟ – إلى مجرى نهر اللّيطانيّ وإلى صيدا وإلى بيروت كما حصل في السّابق.. أو لكان مارس عدوانيّته بشكل يُشبه محطّات أخرى من تاريخنا معه (إلخ..). ولكنّ الواضح أمامنا هو أنّ هذا العدوّ لم يزل مردوعاً اليوم: من زاوية جيشه وجنوده، ولكن أيضاً من زاوية مستوطنيه المتردّدين حتّى الآن في ما يعني العودة الطّبيعيّة إلى عدد لا يُستهان به من بلدات ومدن الشّمال الفلسطينيّ المحتلّ.
الزّاوية الثّانية: مفاهيميّة أيضاً؛ وهي تستند إلى حقيقة مهمّة أخرى مفادها هذه المرّة أنّ مفهوم الرّدع هو من النّوع الدّيناميكيّ (المتحرّك).. لا من النّوع الثّابت. كما تُبيّن نظريّات التّوازن المعاصرة إذن: فلا يُمكن الحديث عن “ردع” ثابت. الأصل هو أن يتحرّك هذا “التّوازن الرّدعيّ”، وأن تكون الحرب فيه سجالاً.
لنكن دقيقين أكثر فأكثر: هذا النّوع من التّوازنات لا يُمكن أن يكون من النّوع الثّابت بتاتاً. فنحن هنا في عالم العلوم الانسانيّة والعلوم الاجتماعيّة والعلوم المتعلّقة بالسّلوك الانسانيّ بشكل عامّ: والقاعدة العامّة فيها أنّ الظّواهر.. إنّما هي متحرّكة ومتبدّلة.
من هنا، فمن غير المنطقيّ ولا الواقعيّ أن نُصوّر الأمور، مع التّبسيط، وكأنّها ثابتة وجامدة.. بل ومزدوجة: فإمّا أن يكون هناك ردع / أو لا يكون هناك من ردع بتاتاً؛ أو: إمّا أن يبقى مستوى ردعنا للعدوّ كما نتخيّله أو كما كان في لحظة تاريخيّة ما / أو فلنتخلّ كلّيّاً عن ذلك الرّدع!
التّوازن الرّدعيّ إذن: نسبيّ من جهة، ومتغيّر/متحرّك من جهة ثانية، وهذا ما يدفعنا حتماً إلى الزّاوية التّالية؛
الزّاوية الثّالثة: تاريخيّة؛ ويُمكن اختصارها من خلال طرح السّؤال التّالي واقعاً: هل يُمكن الحديث بدقّة وبموضوعيّة وبإنصاف عن “ردع” أو عن “توازن ردعيّ” كهذا.. من غير أن ننظر إلى تغيّر مستواه مع الزّمن، أي من غير أن ندرس خطّه البيانيّ (Son graphique)؟
باختصار، واستناداً إلى ما سبق نقاشه وإلى حدّ كبير، الجواب هو بالنّفيّ طبعاً. إذ برغم تغيّره أو تحرّكه، لا سيّما نهاية عام ٢٠٢٤، فالوضع الرّدعيّ للمقاومة اللّبنانيّة هو أفضل بكثير من وضعها:
- بُعيد حرب السّنتين، أي نهاية عام ١٩٧٦ تقريباً؛
- قُبيل اجتياح الـ١٩٨٢؛
- بُعيد اجتياح الـ١٩٨٢ طبعاً، وانتخاب بشير الجميّل رئيساً للجمهوريّة؛
- قُبيل تحرير الـ ١٩٨٥؛
- ثمّ خلال المرحلة من ١٩٨٥ إلى ١٩٩١ تقريباً؛
- ثمّ قُبيل تحرير الـ٢٠٠٠، وبعد ذلك التّحرير مباشرة؛
- ثمّ قُبيل اندلاع حرب تمّوز/يوليو ٢٠٠٦ أقلّه.
لم نزلْ بعيدين جدّاً عن امكانيّة ادّعاء أنّنا نستطيع – أصلاً – استبدال “الرّدع المقاوم” بأيّ “ردع” آخر حاليّاً؛ خصوصاً بالرّدع الرّسميّ للدّولة والذي نتمنّى قيامه وتحقّقه جميعاً وبكلّ صدق
يقيناً؛ من غير الدّقيق ولا المنصف مقاربة موضوع كهذا من غير أخذٍ بالاعتبار للخطّ البيانيّ-التّاريخيّ إذن. وأعتقد – بموضوعيّة وبهدوء ذهنيّ أكيد – أنّ النّتائج واضحة بيّنة أمام أعيننا: فمهما كان شكل أو مستوى تحرّكه مؤخّراً، فإنّ المستوى الرّدعيّ النّسبيّ التّاريخيّ للمقاومة ولسلاحها.. أكبر وأخطر بكثير منه ضمن أغلب المحطّات الأهمّ من صراع هذه المقاومة – بمختلف أسمائها – مع هذا العدوّ.
الزّاوية الرّابعة: عمليّة–براغماتيّة وسياسيّة إن جاز التّعبير؛ فقد تحدّثنا مطوّلاً في ما سبق من قَولٍ ومن مَقالٍ حول “حصريّة السّلاح” وحول مسألة “بناء الدّولة” في لبنان. ولنركّز في هذه الورقة على ما يتمّ تداوله اليوم تحديداً حول تعزيز القدرات العسكريّة لجيشنا اللّبنانيّ الوطنيّ.
والواقع هو أنّه من المستغرب الهجوم في مسألة “حصريّة السّلاح” لا سيّما أمام مواطني القرى الحدوديّة، ولو على المستوى الخطابيّ البحت، في حين أنّنا لم نُقدّم بعدُ طروحاتٍ جدّيّة وواقعيّة في ما يخصّ:
(١) أيّ جهة – غير داعمة للعدوّ نفسه وبشكل غير مشروط أو ما يشابه ذلك -ستُساعد في تسليح جيشنا الوطنيّ؟ وهل من المعقول عموماً: أن نمشي في نظريّة تسليح جيشنا من قبل مسلِّحي وداعمي العدوّ نفسه؟
(٢) من سيُموّل هذا التّسليح، دون ابتزاز لنا، داخليّاً وخارجيّاً.. ودون تخوّف من داعمي هذا العدوّ عينه؟
(٣) من سيُساعدنا في هذه الورشة التّسليحيّة، دون خوفٍ وتخوّفٍ من “الفيتوات” الأميركيّة بالذّات، أي “الفيتوات” الضّامنة لأمن العدوّ ذاته، خصوصاً في ما يعني نوعيّة بعض الأنظمة الدّفاعيّة والأمنيّة والتّقنيّة؟
(٤) حقّاً وموضوعيّاً، هل سيُسمح لنا بتنويع مصادر التّسليح إلى خارج إطار حلفاء العدوّ وداعميه غير المنصفين، وإلى خارج إطار دول النّاتو بشكل عامّ؟
(٥) أين هي هذه الخطّة التّسليحيّة واقعاً، وما هي بنودها وتفاصيلها، وما هي مراحلها المتوقّعة؟ أليس من حقّنا، كمواطنين، خصوصاً من أهل الجنوب.. أن نكون على دراية بما يحصل ضمن هذه النّقطة بالذّات؟ وهل من نقاش جدّيّ قد بدأ ضمن المؤسّسات الدّستوريّة المرجعيّة والمعتبرة؟
***
على كلّ حال، من الواضح أنّنا، من هذه الزّاوية الأخيرة أيضاً، وبكلّ أمانة فكريّة وبكلّ موضوعيّة وبكلّ احترام للرّأي المخالف وبكلّ ودّ: من الواضح أنّنا لم نزلْ بعيدين جدّاً عن امكانيّة ادّعاء أنّنا نستطيع – أصلاً – استبدال “الرّدع المقاوم” بأيّ “ردع” آخر حاليّاً؛ خصوصاً بالرّدع الرّسميّ للدّولة والذي نتمنّى قيامه وتحقّقه جميعاً وبكلّ صدق. ونحن كمواطنين بين المواطنين، وبطبيعة الحال، نتقبّل أيّ معطى قد يُخالف أو ينقد أو ينقض ما نقول.. واللهُ على ما نقولُ شهيد.