ثمة شيء في كتابات النساء لا تفهمه إلا النساء

كُتب هذا النص بمناسبة قراءة رواية "النباتيّة" للروائية الكورية الجنوبية هان كانغ الفائزة بجائزة مان بوكر الدولية لعام 2016 وجائزة نوبل للآداب لهذا العام (2024).

لطالما كان الأدب العظيم ذاتياً وشخصياً. شيءٌ عن التفاصيل الدقيقة المهملة والأحلام التي لم تُفكّك سريرياً لاستحالة أن يكون غيركَ أنتَ. لطالما كان الأدب كله متعلقاَ بالبصمة الوراثية لشخصٍ واحد من بين كل البشر.

لم أكن يوماً قارئة؛ على أقل تقدير لست قارئة نهمة، لكنّني من النوع غير المتواضع على الإطلاق حين أقرأ (حالة تشبه طغيان جارٍ على أملاك جاره). وبرغم وصول رسائل تهديد عبر “فيسبوك” من خلال منشورات تتقزّز من القراءات التي تطال كل كتاب أو كاتب حصل على جائزة، وبالرغم أيضاً من انشداهٍ عقليّ لدرجة التضرّر من أحداث العالَمين (العالمُ وحياتيّ)، وبرغم أنّ عنوان الكتاب خادعٌ ومخاتل، حتى أنّ الواحد منّا يكاد ليجزم أنّ دار النشر التي وافقت على نشره، إنّما قامت بذلك في لحظة عماءٍ مؤقتٍ طال لجنة القراءة (…)، أحسب أنّني ممّن لا يقعون ببساطة في فخ “العنوان المخطّئ” (التوصيف ليس من لدنّيّ). حسناً، أول دروس الحياة للكاتبة أن تدخل بالرهان الكلاسيكي الخالد، وأن لا تشدّ انتباهنا إلى الباب: بابُ الكتاب أو الغلاف. لا أعرف لماذا ينتابني شعورٌ مفادهُ: أنّ أغلفة الكُتب هي نوافذ في النهاية، لأقل إنّها أبواب مواربة تقف خلفها امرأة تجسّ نبضات المارّة (تلفيق مهمة بدائية لحاسة الشم).

***

كنت في أحاديث مع “صديقة” لا يجعلها تفهم عليّ سوى عاطفة حبّ اكتنزتها عبر السنوات لتكون نصيبي من عالمها الباطني، وهي مساحة شاسعة بما يكفي لزراعة نباتات طيفيّة لو شئتُ أن أبالغ.. جاوبتني بأنّها لا تجد ما تقول، بخاصة أنّ كل الحكايات التي أسردها أكون بطلتها بشكلٍ ما.. فقلت ببساطة: إنّني لا أتقن الحديث عن حكايات الآخرين. وأنّني أفضل الحديث عمّا أشعر أنّي أفهمه إلى حدّ ما، وحتى إنْ كان الحديث عن نظرية المؤامرة أو عن اكتشاف سلطعون عملاق في جزيرة للبطاريق المضيئة؛ فلا يمكن ليّ إلا أن أتخيل نفسي وقد رسوتُ بقارب متهالك على شط تلك الجزيرة.
كانت المصادفة أنّي حضرت لقاءً على منصة “يوتيوب” لكاتبة كنديّة أجابت عن سؤال المذيعة بأنّها: لا تعرف أن تكتب إلا عن عالمها فحسب، والدتها وهي على سرير الموت مروّعة من عدم قدرتها على تشذيب حاجبيها عوض الخوف من القفز الحتميّ إلى عالم الموت المجهول! حياةُ خال والدها الهارب من البشر إلى خلوة في الغابة مع كلبه وحصانيه.. إلخ. كانت حجّة الكاتبة في كونها تفتقر للخيال (يمكن ملاحظة شعورها بعدم الارتياح وهي تقول ذلك، فالزهوُ بشساعة الخيال أمرٌ لا يتنازل عنه حتى أكثر الكتاب عاديّة). كنت أحلم بإرسال رابط المقابلة للصديقة التي خدشت مشاعري بصدق الطفلة التي تفضّل العقاب على المجاملة، لكن بدا ليّ ذلك نوعاً من استئناف معركة محسومة سلفاً (نوعاً من الظلم) فانصرفت عن الفكرة.

***

فتحت الكتاب عازمة على هجرانه لو زاد عدد صفحاته عن مقدرتي على التحمّل. ربع ساعة هي المسافة بين لقاء الكاتبة والصفحة الأولى. (من يهتم لأقراص الساعات الليلية وهي تتقسّم إلى أرباعٍ أو أسداس أو حتى إلى مليون ذرة من غبار؟) غير أنّ الساعة التي مرّت وأنا أقرأ؛ ساعةً فريدة حقاً؛ ساعة من الساعات غير القابلة للانشقاق أو الاشتقاق.. ساعة بحجم لحظة كونيّة (نيرفانا الكون) البيغ بانغ الذي يتكرّر في أحلام العلماء كلحظة خالدة ممتدة إلى حواف ياقات مآزرهم. يعذّبني عذاب الإنسان، وهشاشة الكائن، تروّعني الهشاشة المضاعفة، جبروت الظلال على ممكنات حياةٍ هي في غاية البساطة، لكنّها البساطة الخادعة مجدداً، والتي هي بتعقيد لحظات الجاثوم، الحكّة التي تتحوّل إلى سعار مكتوم؛ حكّة متفاقمة تعجز الناقلات العصبية عن تحديد مكانها لأنّها وهي تتفاقم في جسد آخر هو الآخر مدسوس في إحداثيات جسد تشعر أنّه مستسلم داخل جسدك.. آخَرُك الذي فيك، الذي لم يصبح بمرور اللحظات ماضياً أو نسخة سابقة.

***

صديقتي وهي تتحدّث اللغة الكورية بطلاقة عصفور أتقن أناشيده، تحيّرني بعجزيّ المطلق عن تصوّر اللغة الكورية وجاراتها إلا كتجسيدٍ عكسيّ للغة العربية! في اللغة العربية مثلاً أربع حركاتٍ، ثلاثة منها تتفرّع بالمدّ لتنتج أصواتاً أخرى، وعلى أقصى حدّ قد نضيف التنوين إلى أدوات إحياء الحروف. تبدو ليّ اللغة الكورية وجاراتها عبارة عن لعب صوتيّ معقّد على درجات الحركات مع ذوبان خطير للحروف التي يفترض أنّها الأساس لنقل اللغة من مستوى الصوت الحافي إلى مقام المعنى. إنّها أقرب إلى شدو العصفور؛ إلى نغنغة الطفل. وهذا أمر يستحيل عليَّ استيعابه ولو من موقف الناظر المتأمّل. ربما، بل لهذا السبب تحديداً، أعفيتُ نفسي من الأسماء في هذه القصاصة، بدءاً من اسم الكاتبة وهو يتلألأ في ربوع جوجل وانتهاءً بالرموز التي اختارتها لأداء رحلتها الروائية في ما يربو عن مائتي صفحة، تمنّيت برغم دموعي على الصفحات أن تتخطّى حواف ياقات العلماء، وأن تتوحَّد مع لحظة البيغ بانغ في سموّ خالد للوجع الإنساني حين تسرده امرأة، عن عذابات داخلية سحيقة تكتبها امرأة فتكون كأنّها كًتبت بدم جميع النساء، دم الحيض.. دم الولادة.. دم العنقاء مبعثراً على شرشف الكينونة.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  عودة ترامب أكثر احتمالاً.. أي عالم ينتظرهُ وينتظرنا؟   
آمال رقايق

شاعرة من الجزائر

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  كامب ديفيد الأسيوي.. نحو "ناتو باسيفيكي" ضد الصين