ترث الفرق الجديدة التي وصلت إلى السلطة في تونس أزمة مزدوجة، أزمة المالية العامة وأزمة النموذج الاقتصادي للبلاد. فعليها العثور على ثلاثة مليارات دولار من القروض الخارجية لسنة 2020، ووضع تصور سريع لاستراتيجية جديدة تحل محل النظام الساري منذ 1971، الذي تغمره المياه من كل جانب، قصد جذب الاستثمارات الخارجية وتشغيل التونسيين. وثمة صعوبة إضافية في كون الحملة الانتخابية الأخيرة قد تجاهلت المسألتين تماما أي أنها لم تحضّر الرأي العام للمراجعات المفجعة التي يطالب بها الدائنون.
على الرغم من أن تونس تمثل استثناءً في المنطقة، من حيث كونها النظام التمثيلي الوحيد، إلا أنه يلاحظ منذ عدة أشهر بعض الملل لدى الممولين المعتادين للحكومة. فمنذ عام 2011 كان كل من صندوق النقد الدولي وفروعه والاتحاد الأوروبي هم الممولون الأساسيون (48,2 % من المديونية الخارجية).
قد وقعت تونس في أيار/مايو 2016، مع الصندوق الدولي اتفاق “تسهيل الصندوق الممدّد” لحوالي 3 مليارات دولار بعد اتفاق سابق ب1,4 مليار دولار. ويتعين الآن التفاوض على اتفاق جديد قبل أيار/مايو 2020، تاريخ سداد القرض الثاني. ولا يبدو تحقيق ذلك مضمونا مسبقا.
تأمين خدمة المديونية
كان باولو ماورو، النائب المدير المساعد لقطاع المالية العمومية لصندوق النقد الدولي، الذي جاء الى تونس خصيصا في هذه المناسبة، صريحا إذ قال “إن أولوية الأولويات هي تنفيذ إصلاحات هيكلية لفائدة الشركات العمومية المثقلة بالديون والتي تجد صعوبة في الحصول على التمويل وضمان خدمة ديونها دون دعم من الدولة”. (لوماناجير، تونس 30 أيلول/سبتمبر 2019). أي بصفة واضحة يتعين على هذه الشركات العمومية (نقل، اتصالات، صناعة…) المثقلة بالديون أن تعيد بسرعة التوازن إلى حساباتها. وللوصول إلى ذلك في مرحلة من النمو الاقتصادي الضعيف، لا يوجد سوى حل واحد وهو تقليص عدد العاملين، أي فصل الأجراء.
وجاءت التدابير الأخرى التي نادى بها صندوق النقد الدولي والتي صدرت في نشرة بتاريخ 18 تموز/يوليو 2019 (أسئلة وأجوبة عن تونس) بعيدة عن آمال المواطنين: تقليص كتلة الأجور في التوظيف العمومي، تقليص دعم الدولة، تقليص عدد الموظفين (الذين زاد عددهم عن 40% منذ 2011) وإصلاح نظام التقاعد.
أشارت “موديز” و”فيتش”، إلى أن “الرياح المعاكسة” والوهن الذي أصاب تونس، بل وغياب الإصلاحات، كل ذلك يدفع تصنيف تونس نحو أسفل السلم، قاب قوسين أو أدنى من “الجونك بوندس”، أي السندات ذات الرتبة المتدنية والشديدة الخطورة التي لا يقبلها السوق بسعة خاطر
في تشرين الأول/أكتوبر 2019، زار وفد من صندوق النقد الدولي تونس خارج إطار المواعيد الفصلية قصد التأكيد على خطورة الوضع والتطرق إلى حلوله. بعد أسبوع من ذلك، نشرت أسبوعية جون أفريك (30 أيلول/سبتمبر 2019) والتي هي ملك لشخصية تونسية مطلعة، مقالاً بالعنوان التالي: “هل تواجه تونس خطر الوضع تحت الوصاية كما كانت أيام الاستعمار”؟ والمُحاوِر الأساسي لصندوق النقد الدولي وخبرائه ليس في الحقيقة الحكومة المقبلة بقدر ما هو الاتحاد العام للعمال التونسيين؛ وهي النقابة المهيمنة المتواجدة بقوة في القطاع العام.
هذه النقابة التي يعود تاريخها إلى أكثر من 70 سنة نجت من النظام الاستعماري ثم من الحبيب بورقيبة، الذي سجن أمينها العام، ومن زين العابدين بن علي ومن الثورة. وقد حصلت على جائزة نوبل للسلام بالمشاركة مع منظمة أرباب العمل ورابطة حقوق الإنسان والنقابيين في 2014. وهي مؤثرة في الحياة السياسية والاجتماعية للبلاد حيث تجلس على صندوق مالي مريح لدعم الإضرابات والذي يتغذى من الاشتراكات النقابية التي تحسبها وزارة المالية آلياً من أجور الموظفين والعاملين. هل تقبل قيادة الاتحاد العام للعمال التونسيين التخلي عن هذه الأموال مقابل الإصلاحات؟ لا يمكن إطلاقاً الجزم بذاك.
من يريد فعلاً اتفاق تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي؟
يعد الاتحاد الأوروبي ومؤسساته المالية الكثيرة مصدر التمويل الآخر لتونس. فدون أن تكون في مستوى صندوق النقد الدولي، تعد مساهمته معتبرة لبلد يرتبط بالاتحاد باتفاق جمركي شامل. وتتمثل المشكلة في أن المفوضية الأوروبية تعتزم توسيع هذا الاتفاق إلى إقامة سوق موحدة للسلع والخدمات بين الاتحاد الاوروبي ـ الذي يضم 500 مليون نسمة، الدخل الفردي فيها 10 أضعاف ـ و”تونس الصغيرة” التي بها 11 مليون نسمة أكثر فقرا بكثير. يشكل اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق ALEC، (آليكا) نذير شؤم بنظر جزء هام من السكان.
وقد تم إنشاء لجنة /مناهضة آليكا/ يقودها الاتحاد التونسي العام للشغل. من الواضح أنه في ظرف يتميز بصعوبات مالية حقيقية نتيجة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) لا تبدي بروكسل استعدادا كبيرا لتقديم مساعدة أكبر لتونس. وقد يكون الأمر كذلك بالنسبة للدول الأعضاء (ومنها فرنسا) التي قامت إلى جانب الدول المسلمة الحليفة لتونس بتمويل 16% من المديونية الخارجية للبلاد.
كان راشد الغنوشي، البالغ من العمر 78 سنة، وقبل أن يعتلي سدة رئاسة مجلس نواب الشعب (البرلمان) قد توجه إلى كل من أنقرة والدوحة للقاء حلفائه الأتراك والقطريين. لا نعرف ماذا دار من حديث خلال هذه اللقاءات، غير أن مجرد وجوده في هذين البلدين يغلق على تونس أبواب الإمارات والسعودية التي كانت قد مولت الرئيس السابق باجي قايد السبسي في ظروف غير واضحة.
تبقى هناك إمكانية أخيرة تتمثل في الاستدانة من الأسواق المالية الدولية (36,1 % من المديونية الخارجية حاليا). وقد سبق أن قام البنك المركزي بذلك في عام 2019 بمبلغ 700 مليون دولار، وهو يعتزم جمع 800 مليون دولار في العام المقبل. ولكنه مصدر تمويل مكلف (حوالي 7% من سعر الفائدة في حين تمتص خدمة الدين أكثر من 10% من ميزانية البلاد). ومن غير المؤكد أن التوقيع التونسي ما زال قادراً، بعد ما تعرض له من ضرر، على الوصول إلى السوق.
وقد أشارت وكالتان للتصنيف الائتماني الدولي هما “موديز” و”فيتش”، إلى أن “الرياح المعاكسة” والوهن الذي أصاب تونس، بل وغياب الإصلاحات، كل ذلك يدفع تصنيف تونس نحو أسفل السلم، قاب قوسين أو أدنى من “الجونك بوندس”، أي السندات ذات الرتبة المتدنية والشديدة الخطورة التي لا يقبلها السوق بسعة خاطر.
المزيد على الرابط الآتي: /orientxxi.info/ar/auteur/jean-pierre-sereni