في ظل تفشي جائحة كورونا، وعملًا بقرار التعبئة الصحية الصادر عن الدولة اللبنانية، ومن قبلها اقفال الشركة حيث أعمل، التزمت الحجر المنزلي او بالأصحّ العزلة التامة، خوفًا على أمي من انتقال العدوى إليها. عزلة لا يخرقها سوى صوت أمي ومواء صديقي ومرافقي الهِر الجميل (بيسو).
في بادىء الامر، وبرغم الخوف والقلق إزاء ما يحدث في هذا الكون بسبب الغزو الكوروني المفاجىء، استطيع القول أنني كنت ضمنيًا سعيدة بالاجازة التي لم يُخيّل لي أنها ستكون طويلة أو صعبة أو ضاغطة إلى هذه الدرجة، أنا التي كنت أنشد الهدوء ولا أجده إلّا في ما ندر، أنتظر بلهفة عطلة نهاية الأسبوع او إجازة مرضيّة لاخلد للراحة من ضغط الشغل والارقام، زحمة السير والطرقات والضجيج.
في الحجر ومعه التباعد الاجتماعي المفروض علينا قسرًا، كان لا بد من التأقلم مع واقع جديد، واقع فرض نفسه بقوة فيروس فتّاك غير مرئي لم تقو على فرضه حروب.
في الاوضاع الحياتية الإعتيادية، يمكن أن تكون “البيتوتية” أسلوب حياة. هذا أمر شائع، لكن مع الحجر، بات الامر مختلفًا كليًا، خاصّة إن كنت وحيدًا، فمهما حاولت اشغال نفسك، يظلّ لديك فائض من الوقت، فلا خروج ولا استقبال. لا جمعة للعائلة ولا أمسية قهوة. أمامك شاشة التلفاز، وبيدك هاتف جوال يأخذك في رحلة بين المواقع الاكترونية وتتنقل معه بين الفضاءات الاكثر شهرة. الازرقان (فيسبوك وتويتر) والأخضر (واتساب). تجد حديثًا واحدًا جامعًا يتصدر المشهد: كورونا، ومنه تتفرع باقي الأحاديث والمواضيع.
تمر على مواضيع الامهات، فتجد تذمرهن هو العنوان. هذه تشكو ازعاج اولادها الدائم وتلك من كثرة طلباتهم تصرخ، تُعرّج على مواضيع الازواج، فيتشابه مضمون الحديث وإن باساليب مختلفة. ولعل أكثر ما شدّ انتباهي كثرة المقالات التي تتحدث عن الارتفاع القياسي للعنف الاسري من تعنيف للزوجة ام للاولاد. لا شك أن الضغوط التي يتعرض لها الأهل سواء من الناحية المالية او بسبب الحجر الالزامي كبيرة وكثيرة ومتشعبة، لكن كل ذلك ليس مبررا للعنف والتذمر الدائم ولا بأي شكل من الاشكال. لماذا لا يكون الحجر ومضة نور بدل الجحيم الذي يفرضونه على أنفسهم وعلى أسرهم؟ لماذا لا نستثمر هذا الوقت لاستعادة العلاقات الاسرية التي كادت أن تقضي عليها حياتنا العملية السريعة؟
قال أحد الحكماء: “تذكر دائمًا أنك لستَ الحزين الوحيد فى هذا العالم، وليس كل الناس سعداء كما تظن”.
العائلة لا يدرك قيمتها إلا من فقدها ومنهم أنا. إخوة وأسرهم متغربون والوالد متوفي. الأم هي كل ما لديّ في هذه الحياة.
الحجر والعزلة للإنسانة الوحيدة قاتلة، والوحيدة غالبًا محسودة، يظنّونها مرفهة، سعيدة، مدللة، غير مبالية، لامسؤولة، لا همّ لها ولا شيي يعنيها.. سوى الدلال.
مدلَلة! ممكن، لكن هل الدلال هو كل ما في الحياة؟
لا يعلمون كم من المسؤوليات تلقى على عاتقها، ولا يشعرون كم تحتاج إلى يد حنونة تأخذ بيدها. تربت على كتفها. تحتاج إلى من يصغي لها او حتى يؤنبها. الوحيدة هي شقيقة نفسها وصديقتها وعدوتها في آن معاً.
زمن الكورونا كشف لنا الكثير من خبايا أرواحنا. وضعنا في مواجهة أنفسنا بأسئلة وأفكار لم تخطر يوما على بالنا أو لربما كنّا نتجاهلها عمدًا في ظل زحمة الحياة واليوميات.
ما أشبه حياتي اليوم ومن مثلي بمطلع أغنية الفنان أحمد قعبور الأخيرة:
“ما في حدا بيدق عبابي.. والروح غابة عم تحترق ع مهل”.
العائلة حضنٌ دافئ .. أحضنوا أحبابكم يا أحبتي.