تنفجرُ مسرحيّةٌ في الدماغ، ويدبُّ النمل في الأذنين، من السادسة إلى الثامنة، يُدَوّي اللاشيء، ساعتان مخصيتان، بلا أحشاء، مساء بلا نوافذ، الانهيار يبسط نفوذه، ويسطو على الحواسّ، لو عاد المساء وولجَ الساعتين، لو اقتعدت الساعتان مجدداً في مكانهما المنظور على الخط الزمني، سيعلنُ حسّيَ البدائي الأوليّ أن الطوفان انتهى وأنني سأخرجُ من السفينة.
الانهيار، هذا الكاسِرْ الضّخم، تتسعُ له ساعتان من السادسة إلى الثامنة، الانهيار بكلّيته وشموليّته، يصبح انهياراً مدمجاً.
ليست الكتابةُ عن ساعتين بلا كهرباء في المساءْ ترفاً واستجماماً، السطور قالت آنفاً إن انهياراً مدمجاً يستولي على الشعيرات العصبية، تصمتُ ألسنة الحضارة، وأظنُّني لوهلةٍ سلفاً من أسلافي، فأنا ههنا، ممددةٌ على أرجوحتي، في شرفة منزلي، في بيروت، عام 2021، لكنّني أسمع أصوات ديناصورات، أنا في العصر الطباشيري، ثمّ أستعيد لماماً من معلومات المدنيّة، الانسان أصلاً لم يعاصر الديناصورات، اذاً ربّما هو صوت الخيبات والرجاءات يزمجرُ من أعمق نقطة في نخاعي الشّوكيّ.
الانهيار يساكنُني، ككيان، كحاكم، كمتحكّم بأمري، هو يقرّرُ متى أغادر المنزل وأعود إليه، وفقاً لساعات التغذية بالتيار الكهربائي، وأكثر، يحدّد مواقيت طعامي، متى أُسخّنُ وجباتي وآكل، كأنني في مدرسةٍ داخليّة، وليس في بيتٍ مستقلّ
أن تكون في صومعتكَ وحيداً بلا كهرباء وبلا انترنت، أنت اذاً فريسةً شهيّةً للأفكار، تتراقصُ ذكرياتك الخشنة في حلقات متقنة، لا يوجد عشوائيّة في الحزن، الفرح وحده عشوائيّ، غير منظّم، لا تقود ذكرى فرِحة إلى ذكرى فرِحة أخرى، الحزنُ دوماً يودي بنا إلى وديان متّصلة بعضها ببعض، الانهيار مسؤول عن كلّ هذا، أهمسُ لي، أُهدهِدُني، لو كان الانهيار رجُلاً لأحببتهُ ثمَّ قتلته، أحومُ حولَ كُلّي، حولَ ما كان وما لم يكن، ساعتان مرميّتان عن سطحِ الزمان، لو كانت هناك حياة أخرى، سأطالب بساعتين زائدتين، يومياً، تعويضاً.
سأطالب أيضاَ بتمردٍ جديد، فرصة ثانية بمراسم كاملة، كي أختبر اللذَّة والمغزى، بأن تتوِّجَ امرأةٌ تمردّها بالسُّكنى وحدَها، وتؤلّف عالمها الخاصّ، وتعتصرَ اللحظات والساعات، ويكون الفضاء بزمانه ومكانه طوعَ يمينها.
الانهيارُ حيّدَ الوهجْ، قهْقَرَ التمرّد، قيّدَ معصميه بتوقيتِ صادرٍ عن صاحب المولّد الكهربائي، متى يعمل ومتى لا، متى تكون الصّومعةُ وطناً، ومتى تصبحُ عدوّاً وباروداً، الانهيار مسؤول عن كلّ هذا، عن التمرّد الأبتر، عن الوحدة التي قرّر صاحب المُولّد دوامَها الرسميّ.
ليست الوحدةُ أن تسكن وحيداً، بل أن يجتاحكَ الخواء وفق تواقيت مقرّرة سلفاً، والشعور بالوحدة لا يحتسبُ تمرّداً، كل وخزةٍ من الوحدة تبدّدُ ألف ميلٍ من التمرّد.
بل وأكثر، الانهيار يساكنُني، ككيان، كحاكم، كمتحكّم بأمري، هو يقرّرُ متى أغادر المنزل وأعود إليه، وفقاً لساعات التغذية بالتيار الكهربائي، وأكثر، يحدّد مواقيت طعامي، متى أُسخّنُ وجباتي وآكل، كأنني في مدرسةٍ داخليّة، وليس في بيتٍ مستقلّ، وأكثر، متى أقرأ، القراءةُ كفعلٍ يشبه التحليق وتقبيل السّحاب، بات مرهوناً بأغلال الانهيار، أنا لا أعيش وحدي، اذاً، أنا أعيش في بيت له قوانين وسلطة؛ شيخ وأب.
ليس ترفاً أن ننعى تمرّداً في زمن الانهيار، التجارب المُشْبَعة الكاملة، حقّ أيضاً، لو سألني أحدهم ماذا يعني أن يكون الانسان مستقلّاً في مسكنه، أنا بلا جواب، أريد أن أعيد الكرّة بلا انهيار، بعد اثني عشر عاماً، كأحسن تقديرٍ قدّمه الخبراء.
لا أزال ههنا، على أرجوحتي، أبحثُ عن المساءْ، سيعودُ بعدَ قليلْ، سيستعيدُ الوجودُ وجوده، سأوجَدُ أنا، ستتلاشى ساعتان..
إنّها الثامنة الآن.