الشاهد أنّ المقارنة تكاد تنعدم تماماً بين ما كانت تقدمه الدراما العربية للمتلقِّي بالأمس القريب وما أصبح عليه الحال اليوم من تدنٍ ملحوظ في المحتوى وجودة الصنعة، ولا تنسى الذاكرة الجمعية للمشاهد العربي وعلى مستوى العالم مجموعة من الأعمال الفنية الكبيرة والهادفة بل التي يمكن ان نسميها مدارس مفتوحة من حيث تقديم المادة العلمية بثوب درامي راقٍ، منها المسلسل التاريخي الفتوحات الإسلامية الذي أنتجته المملكة العربية السعودية بالاشتراك مع مصر في العام 1981 وهو من الأعمال الدينية الهامة وتناول فتوحات الرسول للبلدان ونشر الإسلام؛ كما أن السعودية نفسها لها مبادرات رائدة في الإنتاج العربي والتاريخي مثل مسلسل (الفارس الحمداني) إنتاج 1969 من التلفزيون الحكومي بالرياض وهو ناطق بالعربية الفصحى وذو قيمة فنية انتبهت للتراث العربي مبكراً.
ومن الأفلام التاريخية الهامة كذلك الفيلم العربي فجر الإسلام لمؤلفه عبد الحميد جودة السحار في العام 1971 وهو كاتب معروف بكتابة السيرة النبوية والدراسات الإسلامية وقد ناقش الفيلم بداية ظهور الإسلام وصراع الجيل الجديد المتطلع لقيم الحق والجيل القديم الخاضع للتقاليد الموروثة.
وهنالك أيضاً الإنتاج الدرامي التاريخي الإسلامي الضخم لفيلم الرسالة وهو انتاج ليبي مصري في العام 1976 من إخراج مصطفى العقاد وهو مخرج سوري أمريكي الجنسية، والفيلم من نسختين في نفس التوقيت إحداهما عربية من بطولة الممثل المصري عبدالله غيث والأخرى إنجليزية قام بالدور الرئيسي فيها أنطوني كوين وترك الفيلم إنطباعاً إيجابياً في وقته ونال حظاً وشهرة كبيرة حيث تمت ترجمته لأكثر من 12 لغة فتأمل ما يمكن أن تحققه الدراما في المفاهيم الدينية والتاريخية بكل سلاسة.
ومن قائمة الأفلام العربية التي تركت بصمتها في نفوس الملايين فيلم الشيماء إنتاج العام 1971 ويتناول قصة النبي الرضيع في ديار بني سعد والشيماء أخت الرسول وانتشار الدعوة الإسلامية.
فيلم هجرة الرسول إنتاج الستينيات هو كذلك من الأعمال التاريخية التي ناقشت حياة العرب في مكة وظهور الدعوة الإسلامية وهجرة الرسول الكريم إلى المدينة المنورة، وقدم الفيلم صورة نمطية لا تزال راسخة بالأذهان عن المشركين وفي مقدمتهم أبي لهب وأبي جهل، كما قدم مادة تاريخية ودينية ثرية جداً عن تلك الفترة المفصلية في تاريخ الإسلام.
من الأعمال الدرامية في عهد الإنتاج الدرامي الذهبي المسلسل الديني محمد رسول الله وهو من خمسة اجزاء كبيرة إنتاج حقبة نهاية السبعينيات، ويروي قصة عدد من الانبياء بدءاً من النبي إبراهيم إلى خاتم الأنبياء والمرسلين ويحتوي مادة دينية وتاريخية كبيرة وسهلة الفهم للمشاهد مقتبسة من القصص الإسلامية.
ومن الأعمال الدرامية التي لا تُنسى في ذهن المشاهد العربي عمر بن عبد العزيز (الراشد العمري) وأبي حنفية النعمان وعمر المختار وجمال الدين الأفغاني والإمام الشعراوي وهي تروي أقاصيص وسيراً ذاتية وأعلاماً تركوا تأثيرهم في الوجدان العربي والتراث الإسلامي القديم والمعاصر.
حتى الأعمال الدرامية العادية كانت تقدم مادة تخدم قيم المجتمع وتماسكه قبل طوفان التفاهة الذي اجتاح الدراما مؤخراً حتى في مسلسلات رمضان، وهو أمر يجب أن تنتبه له قنوات الإنتاج الفني لمراعاة قيمة الشهر الفضيل الذي بات والحال هكذا وللأسف مضماراً للسباقات في انتاج الغث والهزيل واجتذاب المشاهد كيفما اتفق.
سابقاً كنا نرى دراما عالية المستوى أو دراما تعليمية مثل بائع العصافير بطولة “بابا عبده” (عبد المنعم مدبولي) وكان عملاً رصيناً بث مبادئ سلوكية وتربوية وتعليمية بين النشء في الثمانينيات الماضية، ولعلنا نذكر حتى اليوم افتح يا سمسم الإنتاج المشترك لدول الخليج العربي وهو برنامج تعليمي تثقيفي محكم ولا أظن أنّ أحداً من أطفال الثمانينيات والتسعينيات لا يتذكر نعمان وأنيس وبدر وغيرهم من شخصيات المسلسل المشهور في الوطن العربي، فأين ما كان من ذلك الجهد المشكور وما يدور اليوم في كواليس الدراما التجارية هنا وهناك.
ومن أيقونات الدراما التاريخية المسلسل الإذاعي المصري ألف ليلة وليلة من إنتاج سنوات الستينيات وهي سرديات عربية قديمة مزيج بين النوستالجيا والفانتازيا إستمرت ستة وعشرين عاماً وفيها براعة الحكي وجاذبيته لكنها لا تخلو من التعريف ببعض الميراث العربي في وجوه متعددة ومن أشهر سرديات ألف ليلة وليلة، علاء الدين والمصباح السحري، وعلى بابا والأربعين لصاً، ورحلات السندباد البحري السبع، وغيرها وغيرها من الأقاصيص ذات الطابع العربي بأبعادها التاريخية والثقافية والدينية والقيمية.
المسلسلات الرمضانية لم تكن فريسة للابتذال الذي صار فيما بعد سمةً ملازمة على النحو المسيء الذي نراه في السنوات الأخيرة. كانت الدراما الرمضانية تحرص على الانتاج الديني والتاريخي بما لا يجرح مشاعر الصائمين والمشاهدين عموماً وكانت المادة المقدمة تحرص على إضافة قيمة للمجتمع ولذلك كانت تترك أثرها البائن في الذاكرة الجمعية، حتى بعد الموجة التي دشنتها الدراما السورية وتبنتها القنوات العربية مثل الجوارح والفوارس والكواسر وغيرها فقد تميّزت بعرض فضائل الفروسية والفراسة والشجاعة والشهامة عند العرب، وربما كانت هذه الموجة هي آخر ما قدمته القنوات وتركت أثراً تربوياً وتعليمياً وقيمياً في نفوس المشاهدين بالإضافة للتاريخ التراكمي للدراما التاريخية الإسلامية والعربية ودورها التثقيفي في المقام الأول، بعدها تم ابتذال المجال بواسطة أعمال درامية إجتماعية قاصرة المحتوى متشابهة في تفاصيلها غير الواقعية بل أشاعت الكثير من القيم السلبية بين فئات المجتمع، وغابت تماماً تلك الدراما الرسالية الملتزمة بأدوات الجودة والتي طالما أسهمت في بناء وعي المشاهد العربي بل ونافست في المحافل الدولية لتزيل الكثير من التغبيش الذي ألحقه بعض المستشرقين عمداً بتاريخ العرب والمسلمين.
آن الأوان لكي تنهض الدراما العربية والتاريخية والإسلامية من كبوتها لتعود لمنصة التأسيس وهذا لن يكون مواتياً إلا بدعم التلفزيونات الرسمية والإنتاج العربي المشترك كما كان في السابق الزاهر وأن لا ينسحب الجميع تاركين المجال لدراما المقاولات الرخيصة.