حراك فلسطين الأوروبي.. حتى لا يكون مجرد فولكلور ترفيهي!

"ندعو الحراك الداعم لفلسطين الى لقاء خاص، نناقش فيه أوجه المناصرة السلمية والبنّاءة والخلّاقة في النمسا" (أندرياس بابيلر، رئيس حزب "إس بي أو" (SPOe) الداعم لإسرائيل في النمسا).

عملياً؛ يدعو رئيس حزبٍ نمساوي مناصرٍ لإسرائيل إلى استيعاب الحراك الداعم لفلسطين، تزامنًا مع إعلان دخول غزّة “المستوى الخامس من المجاعة”، لا ليقضي على ما تبقّى من أمل في انتظامٍ سياسيٍّ جاد، بل ليحوّله إلى عنصرٍ آخر من عناصر الترف والسياحة في فيينا؛ إلى لوحةٍ جدارية إضافية، إلى سيمفونيةٍ تُضفي لمسةً من التنوّع والرقي على جانبَي نهر الدانوب، فتستثمر السلطة في مآلاتها الرمزية، وتنعُم بمنظر التعدديّة، دون أن تمسّ جوهر الواقع أو تتجرأ على النظر في بنيانه المادي ناهيك عن مواجهته.

في التاسع من الشهر الجاري، شهدت العاصمة النمساوية فيينا انعقاد المؤتمر التاسع لمنظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك)، وهي تكتل اقتصادي تأسّس عام 1960 بهدف تنسيق السياسات النفطية بين الدول الأعضاء وضمان استقرار الأسواق العالمية.

وللمرة الأولى، نجح الحراك الداعم لفلسطين في تنسيق حضور أكثر من 12 منظمة وحزبًا وقطاعًا شبابيًا (نمساوي، عربي، إيراني، كردي)، في محاولة لتحويل نداء “وقف الحرب على غزة” من مجرد شعار أخلاقي إلى مطلب جيوسياسي ملموس، من خلال المطالبة بإغلاق المضائق في البحر المتوسط وبحر العرب، وفرض حظر على تصدير النفط إلى مراكز القرار الاستعماري في الغرب في تلميح الى الحظر النفطي الذي قادته السعودية في سبعينيات القرن الماضي.

كانت هذه التظاهرة أول تحرك سياسي من هذا النوع منذ عامين على اندلاع حرب الإبادة في غزة. وقد تميزت بأنها انطلقت من رؤية جيوسياسية تحاول جمع مكونات جماعات الرفض القاعدية المنتشرة في عموم أوروبا، واضعةً نصب عينيها الربط التحليلي العملي بين النضال المناهض للإبادة والنضال ضد بُنى السيطرة الاقتصادية لاقتصاد الإبادة.

في التطبيق، حاول منظمو التحرّك الجمع بين التظاهر والاعتصام، وسعوا إلى إغلاق شارع “الرينغ” الحيوي، الواصل بين بوابة قصر هوفبورغ – حيث ألقى هتلر خطابه الشهير حول “الأنشلوس” – ومركز بلدية المدينة حيث موائد عشاء قادة النفط والسلطات النمساوية. وبينما كان المنظمون يتهيأون ليومهم الثاني (المؤتمر النفطي كان مقرراً على مدى يومين متتاليين) وفي ظل تخاذل القاصي والداني، تسللت أخبار عن هجوم ليلي على مقرّ منظمة “أوبك” من قبل جماعات مجهولة، ما أضفى على الفعل الشعبي طابعًا تصعيديًا، يتجاوز الرمزية إلى إرباك الميدان. لكن تبقى الحقيقة أن الجمهور “المناصر” قرّر التخاذل عندما تغير شكل الاحتجاج من فولكلوري أخلاقوي الى سياسي ميدانيّ.

لكن لم ينجح المتظاهرون في إرباك جدول أعمال المؤتمر، فكان أن فشل التحرك فشلاً ذريعاً. للأسف، قوبل هذا التحرك بحالة من التخاذل من جانب معظم أطياف الحراك ‘المناصر لفلسطين’، بفعل جهود عكسيّة هدفت إلى تفريغه من امكانه العملي وبذلك اماتت بعده السياسي الجدي، وحجمت طابعه الجذري تحت ذرائع تنظيمية أو أخلاقوية ومخاوف أمنية تجلى فيها عمق الجبن المستشري في حراك “مناهض” لا يعرف تقدير لحظات الاستحقاق الحقيقية ومواقع التضحية الفعالة لا النجومية النرجسيّة. وانتهى المطاف باعتقال 6 من المنظمين على الأرض.

لن نزعم أن هذا التحرك كان خاليًا من الرمزية، لكنه – وللمرة الأولى – مثّل مسعى جادًا لربط غضب الشارع المعلَن بخطاب سياسي متكامل، متجذّر في فهم مادي لتوازنات القوى العالمية، وفي إدراك عميق لحروب الاستنزاف التي تتجاوز حدود غزة (الحرب الإسرائيلية الايرانية والحرب الإسرائيلية السورية)، نحو بنية النظام الدولي ذاته.

رسم معالم العدو

إن رسم معالم العدو ليس خياراً بل فرضاً وفريضة في تاريخ الفعل المقاوم، وهو الخطوة التي تسبق ما تسميه المقاومة في غزة بـ”الهندسة العكسية”. لكننا، في السياق الأوروبي، نمارس هذه الهندسة العكسية على قواعد التضامن الليبرالي ذاته، لا على الاحتلال فقط، بل على البنية السياسية والاقتصادية التي تحميه وتمنحه شرعيةً في المركز.

فبدلاً من اجترار سياسات النجومية والانكشاف الفردي، بات من الضروري الانخراط ضمن منطق التنظيمات المحلية والقيادات المجتمعية المستندة إلى معرفة ميدانية ورؤية طويلة الأمد، لا إلى نَفَس استعراضي قصير المدى. وبدلاً من انتظار مأساة جديدة في أرض المعركة لنحشد غضباً مؤقتاً، أو الاكتفاء برد الفعل على مواقف حكومات نعيش تحت سطوة أنظمتها المتطرفة، علينا المبادرة إلى بناء خرائط دقيقة للفاعلين السياسيين والعسكريين والاقتصاديين والأكاديميين. تلك الخرائط تمكّننا من التحرك الواعي، لا بوصفنا شهوداً عابرة بل كقوى قادرة على فرض معادلات تفاوض جديدة، تساند الفعل المقاوم في الميدان ها هناك.

علينا تجاوز الانتظام الأفقي الهشّ الذي ترفعه شعارات “اللاقيادة” وكأنها تجسيد للديمقراطية الآنركية أو ما إلى هنالك من مسميات، بينما هي في الواقع آلية لإفشال الفعل السياسي. فلا بد من بُنى قيادية مرنة، تُستخرج من داخل التنظيمات الشعبية وتُفعّل حين يستدعي الظرف ذلك. كما أن انتظار “نضوج البنية المادية” كما يردّده بعض الماركسيين، ليس إلا وصفة للشلل السياسي. المطلوب اليوم هو افتعال الصدع، لا انتظاره؛ توسيع التناقضات الأمنية والاقتصادية في الواقع الأوروبي من الداخل، لا التنظير لها من بعيد.

في أوروبا، تمتلك الأحزاب اليسارية قواعد مادية متفاوتة، لكنها قائمة. والمشكلة ليست في غيابها، بل في قرارٍ سياسي داخل هذه الأحزاب يعتبر أن الإبادات – وعلى رأسها ما يجري في غزة – ليست “أولوية” ولا قوة دفع تاريخية. فهذه الحروب، من منظورهم، لا تُحدث تحوّلاً جوهرياً في بنية الاقتصاد العالمي، ولا تستفزّ وعي الطبقات العاملة بالشكل الكافي. ذلك أن كثيراً من هذه الطبقات لم تعد هشّة أو مُفقَرة، بل تنتمي إلى طبقة “البروليتاريا الأرستقراطية” – صفوة عمّالية متحالفة موضوعياً مع النخبة الحاكمة.

في النمسا، على سبيل المثال، سارعت الحكومة بعد حرب غزة إلى زيادة رواتب العاملين في قطاع الحديد، وتوسيع المنشآت الترفيهية وتقديمات الرعاية، تحديداً للعمال الذين يشكلون العمود الفقري لصناعات السلاح، ولا سيما لشركة “راي ميتال” المتمركزة في الحي الثالث والعشرين من فيينا. جاءت هذه الامتيازات بعد أن رفعت مجموعة طلابية بقيادة طلبة من جنسيات أوروبية وثلاث جنسيات من الجنوب العالمي وجنسية فلسطينية شعارًا يدعو لتشكيل جبهة من عمال المواصلات والحديد وطلاب الجامعات، بهدف التفاوض مع الحكومة النمساوية لوقف علاقاتها العسكرية والتكنولوجية مع الكيان الصهيوني وزيادة رواتب العمال دون زيادة ساعات عملهم (وهو ما كان يحدث منذ الحرب الأوكرانية الروسية). تحالف كان يستطيع تعطيل المدينة في لحظة تفاوض مع السلطات سواء لدعم ملف اقتصادي اجتماعي أو سياسي ما فوق محلي كسؤال اقتصاد الإبادة في غزة.

إقرأ على موقع 180  حزب المصارف.. الحاكم الفعلي للبنان

سارعت الدولة إلى قمع هذه المبادرة الناشئة أولاً باعتقالات مؤقتة، محاكمات، وتهديدات قانونية طالت أفراداً ضمن الحركة. بالتوازي، عملت الدولة على استقطاب القطاعات العمالية المستهدفة عبر تحسين شروط عملها كما ذكرنا آنفا، بما في ذلك قطاع التعليم والحضانة، لفصلها عن القاعدة الطلابية. وكانت الرسالة واضحة: أي التحام محتمل بين البحوث الأكاديمية والتعبئة العمالية هو خطر يجب وأده.

انتقلت السلطات إلى تجنيد “الثورة المضادة” بشكل ناعم (ميزة فذة في النمسا خصوصاً وضمن السوق العالمية عموماً)، لإغواء فروع طلابية أخرى بالمنح والتمويل المشروط، لتُحوَّل مناصرتها لفلسطين إلى مشاريع فنية وترفيهية “توعوية”، لا تؤذي الصهيونية في شيء. بل إن بلدية فيينا، ذاتها التي اعتقلت الطليعة الطلابية، هي من موّلت تلك المشاريع ومن بينهم بعض من تلك الطلائع. الفن والكتابة مرحّب بهما طالما أنهما مُنفصلان عن الفعل البنيوي؛ فالصهيونية لا تخشى المعارضة ما دامت محكومة بجماليات سوق الترف العالمي.

وفي السياق ذاته، سمحت البلدية بانعقاد مؤتمر يهودي “معادٍ لجرائم الصهيونية”، استناداً إلى خطاب صهيوني-ليبرالي، تحت شعار “لا تقتلوا باسمنا”. مؤتمرٌ رحّب به الدكتور مصطفى البرغوثي دون أن يُحيله إلى حقيقته: مشروع تهدئة وإعادة تأهيل للرأي العام ومحاولة لتبرئة الحركة العالمية من خذلانها لا لفلسطين وحسب بل لمن يحاول الانتظام في الشمال العالمي، لا أكثر، ولا أقل! ولهذا تعقيب مفصل آخر.

تدرك السلطات أن المشكلة ليست في مناصرة فلسطين، بل في معاداة الصهيونية. فهذه الأخيرة موقف سياسي واضح ومادي، يُعرّي المؤسسات والأسواق ومراكز القرار التي تُشرعن الاستعمار وتحمي أدواته. إن معاداة الصهيونية بشكلها الجاد دعوة لربط النظرية بالفعل، ولتفكيك علاقات الهيمنة بين الفاعلين الاجتماعيين، وإعادة هندسة الواقع بما يتيح إنتاج أدوات تفاوض حقيقية تُحدث أثراً في مصير من بقي حيًّا في أرضنا.

أن تكون معادياً للصهيونية يعني أن تمتلك إطارًا تحليليًا قادراً على فهم الحركة الصهيونية كمنظومة استعمارية فاشية – لا فقط كعدو أخلاقي – بل كهيكل سلطة يجب تفكيكه لأنه يُهدّد مصير البشرية. هذا موقف يتجاوز العاطفة نحو معرفة دقيقة لبنية الصهيونية: نشأتها، أدواتها، شبكات تمويلها، آليات عقابها، وكيفية تحديدها لحركة الأفراد والدول والمنظمات ضمن نظام دولي معولم.

الركون إلى الجانب الأخلاقي وحده في الدفاع عن قضايا عادلة لا يُنتج إلا استهلاكاً لنرجسيات فردية وأزمات وجدانية، بينما معاداة الصهيونية كمنهج نقدي، تحوّل الغضب الشعبي إلى قاعدة مادية لتقويض أدوات السيطرة، وإلى رافعة لاستكمال مشروع المقاومة الشعبية بأقل الخسائر، وضمن فضاء الإمكان.

لا بد أن يُبنى الانحياز السياسي للفرد على خلفية الاقتصاد السياسي الذي يحكم موقع هذا الفرد: ما هي وظيفته في بنية النظام؟ وما هي المهام التاريخية التي يمكن أن يضطلع بها؟ من خلال التمرد على وظيفته ضمن هذا النظام لا كفرد بل كجماعات. هذا التحديد ليس لغوًيا بل ضرورة استراتيجية، لأن التعاطف العاطفي وحده لا يخلق مقاومة، بينما معاداة الصهيونية وحدها هي القادرة على إنتاج وعي نقيض للهيمنة – مقاومة تتكلم بلغة القوة، وتفكر بلغة التحرير.

لكن انظروا إلى هذا النص،

منبثقٌ من محاولةٍ أخرى لإعادة تدوير الأفكار ذاتها،

أفكارٌ عجزنا عن ترجمتها إلى بنى واقعية، إلى ساحات اشتباك حقيقية،

وأهلنا يتهافتون في شوارع غزة من الجوع،

كم من فلسطينيّ اليوم لم يشقّ دروب السَّجى؟

لقد طبّعنا مع موتكم، مع محوكم.

نحن المتعاطفون،

نحن المتظاهرون،

نحن الباكون على مأساتكم،

نبحث لأنفسنا عن نصيبٍ من ملاحمِكم،

عن حقٍّ في شهاداتكم،

لننام بقلوبٍ قريرة،

قائلين في سرّنا: “نحن أيضًا من شعب الجبّارين”.

نتغنّى بتحوّل الرأي العام في مراكز القرار،

حيث تُطوّر تكنولوجيا السلاح دون انزعاج،

نتغنّى بالكوفية وفولكلور الشعوب الآيلة للانقراض،

باقتصاد الإغاثة،

وبدوائر اجتماعية تُبنى على تعاطفٍ نرجسيٍّ محض.

أخطأ نزار قباني حين خاطب حكّامنا،

أساء لعمق مسعاه الشعري،

فمشكلتنا لم تكن في الأنظمة،

بل فينا، نحن،

نحن الذين بتنا بنيةً وظيفية متكاملة،

تتجدد حقيقتها مع كل انقلابٍ عسكري،

ومع كل انتفاضةٍ تُحصد ثمارها على يد المنظمات غير الحكومية،

التي تجيد الضجيج بلغةٍ لا تُرهق سلطات الطغيان.

نحن موضوع الساعة، لا أنظمتنا.

نحن الساعون إلى راحة الضمير،

إلى الترف، إلى الغربة، إلى الطمأنينة.

نحن المتظاهرون هباء، نحن المعتصمون في كل الأمكنة الخطأ،

نحن الطامحون إلى النجومية،

دون عزيمةٍ على الانتظام،

ولا هِمّةٍ للتفكيك وبناء الجبهات.

“تحريرها كلّها قد بدأ”، يقول تميم.

لكن، واللهِ يا تميم،

ألم تخطئ مائة مرة في إيمانك بجبهة الإسناد؟

أما كان تحليلك عاطفةً مغتربة،

بعيدة عن البنيان الواقعي،

عن التحليل المادي؟

وقلتها أخيرًا لهم:

إن أردتم أن تضربوا، فاضربوا،

ودعوا عنكم حجة الصبر وأحجية التكتيك.

“تحريرها كلّها قد بدأ”؟

وأيّ تحريرٍ هذا؟

تحت نير نرجسيةٍ عالمية

تأبى فتح جبهات هجومية واعية،

تستقي هندسة مواقعها

من فيض المعرفة المتاحة،

المبثوثة في أثيرٍ إلكترونيٍّ بلا حدود؟

يفتح للخذلان مناصي جديدة

نحن يا نزار، نحن، لا طغاةُ أوطاننا،

نحن أبناء القبيحة.

وما أشرفنا.

Print Friendly, PDF & Email
مايا نشأت زبداوي

باحثة فلسطينية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  قبّتان حديدية وصاروخية تتواجهان.. ماذا عن "القبة الثالثة"؟