يا جناب المستشار.. صَهْ!

أكتبُ هذه المقالة وأنا أسابق الوقت. إذْ لا يمضي أسبوعٌ علينا بلا ذعرٍ كبير. فلبنان موعود بانهيارٍ وشيك. لا وقت، إذاً، للانشغال بـ"تفاهات". لا وقت لبعثرة الحروف في مواضيع "خفيفة"، على مقياس ريختر للزلازل اللبنانيّة. في مواضيع "لايت"، إذا ما قورنت بتلك التي يُتقِن حُكّامنا اجتراحها. "يُدَوْزنونها"، لتأتي على مستوى الأوجاع المبتغى إثارتها.

لكن، ليس أكثر إيلاماً من تسيُّد التفاهة في مواقع القرار. من تحكُّم التافهين بمصير الأمم والأوطان. ونحن نعيش، يا أصدقاء، في أَوْج عصر التفاهة الوطنيّة. فبات عقْد الزواج أهمّ من الحبّ. ومراسم الدفن أهمّ من الميت. واللباس أهمّ من الجسد. وقدّاس الأحد أهمّ من الله، كما يستنتج إدوارد غاليانو عملاق الأدب الأورغويّاني. ووسط أحزان وطني الصغير الدائم الصخب، إخترتُ اليوم، أن أُوَلّي وجهي شَطْرَ مقرّات حُكّامنا. حيث تتخفّى حزمة من الأشخاص، يسمّونهم “مستشارين”. وضمن هذه التسمية، تندرج تسميات عديدة. إختصرها المستعمِر التركي بتسمية واحدة: “باشْكاتب”. أي، بلغتنا العربيّة، “كبير الكتّاب” أو “رئيس الكتّاب في الديوان الأميري”.

لنتّفق بدايةً، أنّ “المستشار” هو الشخص الذي يقوم، غالباً، بوظيفة وهميّة. فعلى حدّ علمي، لا يحوي أيُّ دستورٍ أو قانونٍ في العالم، ما يشير إلى اختصاص “مستشار”. ولا إلى مسألة تعيينه. هذا التعيين الذي يرتكز، حصراً، على ثقة الجهة التي تختاره ليكون إلى جانبها. ليُسدي لها النُصح، من وحي معرفته وعلمه وخبرته. ليُغدِق عليها من حكمته وآرائه المفترض أنّها صائبة، على الدوام. فـ”المستشارون”، هم المجنَّدون، دائماً وأبداً، للخدمة العامّة من باب المشورة والاستشارة من قِبَل “رجل السلطة”. ومجالات نصائحه واسعة وسع المدى؛ الأعمال التجاريّة. الاقتصاد والمال. القانون والعدالة. التربية والتعليم. الامتثال التنظيمي والموارد البشريّة. التسويق والعلاقات العامّة. التمويل والرعاية الصحيّة. العسكر والأمن. و…السياسة وإدارة شؤون الحُكم. إنّما “المستشارون السياسيّون”، هم المقصودون بالنداء اليوم. مَن هم هؤلاء المستشارون، بعامّة؟ ومَن هم في لبنان، بخاصّة؟

يخلص مكيافيلّي إلى نصيحةٍ تقول: “إنّ أوّل ما يجب فعله لتقدير مستوى ذكاء الحاكم، هو النظر إلى المحيطين به”

عبر تاريخ المجتمعات الإنسانيّة، شكّلت الاستعانة بالمستشارين أمراً معهوداً. وهدفت، عموماً، إلى استقدام حضورٍ مفكِّر (انتلجنسيا) إلى جانب أصحاب القرار. صحيحٌ أنّ المستشار غالباً ما يكون خبيراً ومحترفاً ومتمرّساً في مجالٍ معيّن ولديه معرفة واسعة به. غير أنّه لا يوجد مؤهِّل واحد ليصبح الإنسان مستشاراً (أو استشاريّاً). قد يملك درجة علميّة مرموقة في اختصاصه. أو خبرة عمليّة عالية في مجال مهنته. لكن، قد يصبح بعض الأفراد مستشارين، تتويجاً لمسيرةٍ مهنيّة طويلة ومتميّزة (كقائدٍ تنفيذي أو سياسي). من هنا، تصبح خبرة هؤلاء الإداريّة أو السياسيّة، “أوراق اعتمادهم” الأساسيّة لدى مَن “يوظّفهم”.

بطبيعة الحال، يختلف مفهوم “المستشار السياسي” باختلاف الثقافات. فالمستشار في الغرب. ليس كنظيره في الشرق. ولا في الدول المتخلّفة، مثل حال بلدنا. في كتابه المرجعي “الأمير”، يشرح مكيافيلّي “أبو النظريّة السياسيّة الحديثة”، أنّ القاعدة الأساسيّة في كلّ حكمٍ هي أن يلجأ الأمير (الحاكم) إلى طلب الاستشارة من أيّ جهةٍ كانت. حتّى يضمن لقرارته أن تكون صائبة، وحتّى يظهر دائماً بمظهر الأمير الحكيم. ويخلص مكيافيلّي إلى نصيحةٍ تقول: “إنّ أوّل ما يجب فعله لتقدير مستوى ذكاء الحاكم، هو النظر إلى المحيطين به”. هل من داعٍ لتفكيك ما تعنيه هذه النصيحة؟ إطلاقاً.

وتحت عنوان “حُكّام بلا عروش..”، خصّصت صحيفة “الغارديان” البريطانيّة (في كانون الأول/ ديسمبر 2019) تقريراً، أضاء على أدوار ستّةٍ من المستشارين الأكثر شهرةً في العالم. يصف التقرير هؤلاء، بـ”مُمارسي السلطة من وراء العرش”. يجب تتبّعهم، يقول سيمون تسيدال مُعِدّ التقرير، لأنّهم يهمسون وراء الكواليس في أُذُن السياسيّين البارزين. فدورهم محوريّ، في رسم سياسات بلدانهم. وفي تعبيد الطريق للرؤساء لإدارة البلاد. ووجودهم أساسيّ، للتخطيط ولتصويب المسارات. ولمساعدة الحُكّام على عدم الإنحراف السياسي. ولنجدتهم عندما تراودهم مباهج السلطة ومغانمها عن أنفسهم، فلا يستعصمون. ماذا عن المستشارين في الديار العربيّة؟

لم يعرف تاريخ الرؤساء، الذين تعاقبوا على حُكم لبنان، نماذج شبيهة بأعضاء “فرقة حسب الله للفنون الاستشاريّة” السهرانة على سمعة “العهد القوي”

تنضح كواليس التاريخ العربي بالحكايا البشعة، عن دور المستشارين السيّء. وعن تأثيرهم السلبي على دورة الحياة السياسيّة. فهُم، وإن كانوا مجرّد موظّفين داخل “البلاط” يأتمرون بأوامره ويخدمون أجنداته، لكنّهم غالباً ما ساهموا في إضعاف الحُكم. وضرْب مصداقيّة كلّ ما يمكن أن ينتج عن العمل السياسي، أمام الرأي العام. بحيث، تحوّل القرب من “المحيط” الملكي أو الرئاسي، إلى أسرع طريق للوصول إلى مغانم السلطة. وأدّى هذا “المغناطيس” إلى جذب كوادر الأحزاب السياسيّة واستقطاب نخب المجتمع، إلى جنّات السلطة وقصور الحُكّام. أمّا القلة القليلة من المستشارين العلماء والحكماء، أي مَن غرّدوا خارج السرب، فكان مصيرهم السجن أو القتل. ومستشارو حُكّامنا في لبنان، كيف حالهم؟ طمئنونا عنهم.

نادرة هي الأدبيّات التي تحدّثت عن “المهمّة الاستشاريّة” في لبنان. ولعلّ تضخّم نفوذ “المستشارين” منذ الـ 2016، هو ما أعاد هذه الظاهرة إلى الواجهة. إذْ لم يعرف تاريخ الرؤساء، الذين تعاقبوا على حُكم لبنان، نماذج شبيهة بأعضاء “فرقة حسب الله للفنون الاستشاريّة” السهرانة على سمعة “العهد القوي”. أو بأركان “كتيبة المستشارين” المتأهّبة لمساعدة رئيس حكومتنا “المنصرف”، على إنجاز نسبة الثلاثة بالمئة المتبقّية من إنجازاتٍ غير مُنجَزة (البروفسور حسان دياب أعلن أنّ حكومته أنجزت 97% من إلتزاماتها في أوّل 100 يوم من ولوجه السراي الكبير).

إقرأ على موقع 180  الأب بيار مُداناً.. لأنّه "متحرش" أم مؤيد لفلسطين؟

فالرئيس دياب، ومنذ الشهور الأولى لولايته، أحاط نفسه بما يقارب الأربعين مستشاراً. ويُروى، أنّه كان كلّما تعرّف إلى شخصيّة اقتصاديّة وتبادل معها بضعة أفكار، كان يسارع إلى ضمّها إلى “كتيبة مستشاريه”! إذا لم تستحِ.. فأنجِزْ ما شئت. هكذا “لَبْننَّا” المثل الشعبي المعروف. أمّا الاستشارات النيّرة، فهي التي يشعّ ضوؤها من القصر الجمهوري. فلكلّ ضوءٍ ظلٌّ يدلّ عليه. وماذا تفعل ظلالنا في حضرة الضوء الرئاسي؟ لا شيء. في الحقيقة، الشعب اللبناني وشعوب انطاكيا وسائر المشرق وباقي شعوب العالم التي “تسمع” بنا، واقعون تحت سحر مستشاري رئيس البلاد والعباد. ما وراءكِ يا بعبدا؟

ما لا نرى وجوده لا ينفي وجوده. هناك تعبير بالفرنسيّة، لا تفيه الترجمة العربيّة حقّه. تعبيرٌ يُقال، عندما يسأل أحدهم أحداً عن “المصدر” الذي عثر فيه على إنسانٍ أو شيءٍ ما، où l’as-tu déniché؟ وهذا السؤال يُسأل لرئيس البلاد، والذي بدأ شقّ دروب التألّق السياسي منذ الـ 2005 على يد “مستشاره الملك” السيّد جبران باسيل. يومها، إختار صهره سند ظهره على أساس أن ينفِّذ له مقولة ابن المقفّع: “كلّ ما يحتاج إليه الحاكم من مستشاره رأيان: رأيٌ يقوّي سلطانه.. ورأيٌ يزيّنه بين الناس”. لكن باسيل فَهِم المقولة “بالشقلوب”. فإمّا لم يستوعب معناها. وإمّا لم يهضم معناها. والله أعلم.

يقول رفيق الحريري في مشهد من سرديّة حياته وحكايته مع السلطة، إنّه في الأشهر الثلاثة الأولى لتولّيه أوّل حكومة (عام 1992) أصيب بالغرور. لماذا؟ لأنّ مستشاريه، وكلّ المقرّبين منه، كانوا يوحون له أنّه الأذكى والأكثر حكمة والأخفّ ظلّاً

ماذا عن سائر المستشارين (فرقة حسب الله إيّاها)؟

لكلّ فعلٍ، فكرٌ ينطلق منه. نتاج مخزونٍ طويل من التجارب. والقراءات. والمشاهدات. وهذا ما جعلنا نتفكّر، في الفكر الذي “يضخّ” كلّ ما نشهد عليه من مشورات وآراء ونصائح تُقدَّم إلى سيّد القصر. فيسلك سلوكاً يتبدّى عبره، وكأنّ الرئيس استأنف حروبه على الجبهات. لماذا يا ترى، تغيب مكنونات الحكمة عن قصر بعبدا؟ بماذا يوشوش وُعّاظ البلاط في أُذُن ميشال عون؟

تقول العصفورة، إنّ “الجنرال” عندما وطأت قدماه القصر الجمهوري (بعد طول اشتياق)، قرّر إحاطة نفسه بنوعيْن من المستشارين. الأوّل، ليكون كالقوّة الناعمة المسوِّقة لأفكاره ورؤيته “الإصلاحيّة”. والثاني، ليكون مُشكَّلاً من “أبالسة”. بمعنى، ليكون كالقوّة الباطشة بكلّ مَن عرقل تحقيق حلمه بالرئاسة. وأفسد وخرّب ومنعه من تعميم التغيير والإصلاح. نام الجنرال واستفاق الرئيس. فإذا بكلّ وُعّاظ “البلاط” يقفون في صفّ الصنف الثاني. أي أناسٌ، من دون فكر أو حكمة وكلّ مندرجاتهما. وانعدام خبرتهم وبصيرتهم، دفعهم باكراً في طريق الضياع. فباتوا يقدّمون الاستشارة حيث لا داعي لها. ولا ينصحون حين تجب النصيحة! اختلطت عليهم الأمور، إذاً. فلم يروا مخرجاً لعجزهم، إلاّ عبر خلق المتاعب. لم يجدوا سبيلاً لتقطيع فراغهم، إلاّ “فقفقة” بذور اليقطين وإشعال الحروب الوهميّة.

ولأنّهم، أصلاً، يفتقرون إلى الكفاءة، صار شغلهم الشاغل خلْق المشاحنات والسجالات في البلد. فمعظمهم مصابون بلوثة السياسة. بل بمتحوِّرات فيروسها الخطير. تحوّلوا سريعاً إلى مستوزرين ومستنوبين. هذا سلوك غريزي لمعتنقي “إيديولوجيا البلاط”. صدّقوا أنفسهم في هذه المعمعة. وبغياب رئيس البلاد عن سدّة الحُكم، شرعوا بتكييف السياسة والدستور والقوانين، على هواهم. أقنعوا الرئيس أنّ أهدافهم سامية. تتلخّص في إنقاذ السمك من الغرق (ربّما الرئيس أيضاً يصوّب على هذا الهدف؟).

كلمة أخيرة. في سنة 2000، أخرج المخرج السوري عمر أميرالاي فيلم “الرجل ذو الحذاء الذهبي”. ذاك الرجل كان اسمه رفيق الحريري. وكان يومها خارج كرسي الحُكم ورئاسة الوزارة. يقصّ الفيلم حكاية رفيق الحريري “العصامي” الذي بنى نفسه بنفسه. فغدا واحداً من أغنياء العالم، وأحد كبار سياسيّي لبنان. يقول الحريري في مشهد من سرديّة حياته وحكايته مع السلطة، إنّه في الأشهر الثلاثة الأولى لتولّيه أوّل حكومة (عام 1992) أصيب بالغرور. لماذا؟ لأنّ مستشاريه، وكلّ المقرّبين منه، كانوا يوحون له أنّه الأذكى والأكثر حكمة والأخفّ ظلّاً. وأنّه لولا وقفته “النقديّة” مع ذاته، لغَرِق في غروره. وكان يُعرَف عن الحريري أنّه عندما كان يريد عزل شخص، يعيّنه مستشاراً. كانت طريقة ذكيّة ولبقة للاقتصاص من المعزولين. بجعلهم ممّن كانت مهنتهم “الّلامهنة”!

هَزُلت كثيراً، وإلى حدٍّ إقتضى فيه الترحُّم على زمن رفيق الحريري. لا بل، على زمن “الجزمة السوريّة” وكلّ الجزمات المحتلّة!

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  ماذا عن الحرب الغربية ضد غزة ولبنان؟