كانت العلاقة بين أيمن الظواهري وأبي بكر البغدادي تدهورت إلى أسوأ حالاتها منذ نهاية عام 2014، بعدما رفض الأخير تنفيذ قرار التحكيم الذي أصدره زعيم “القاعدة” بخصوص الخلاف بين “الدولة الاسلامية” و”جبهة النصرة” آنذاك.
وتراشق الطرفان الاتهامات والإهانات الشخصية على مدى الأعوام الماضية، بل وصل الأمر في بعض الحالات إلى اتهام أحدهما للآخر بالردة عن الدين أو بالخارجية (أي كونه من الخوارج).
ومع ذلك لم تتوقف جهود أحدهما عن محاولة استقطاب قيادات وعناصر الطرف الآخر في منافسة محتدمة بينهما على تصدر المشهد الجهادي في العالم. ويبدو أن غياب البغدادي عن المشهد أسهم في تعزيز آمال تنظيم “القاعدة” بإمكان استغلال هذا الغياب من أجل زيادة فرصها في الاستقطاب والتصدر.
ولكن بما أن الظواهري أهدر جزءاً كبيراً من رصيده الشخصي في الخلاف مع البغدادي، ثم لاحقاً في الخلاف مع أبي محمد الجولاني زعيم “هيئة تحرير الشام” (“جبهة النصرة” سابقاً)، كان لا بدّ من تفويض شخصية جديدة للدخول على الخط من أجل إمساك زمام المبادرة قبل أن تهدأ عاصفة مقتل البغدادي في أوساط “الجهاديين”. ولم تكن هذه الشخصية سوى أبو هريرة قاسم الريمي زعيم فرع “القاعدة” في اليمن الذي أصدر، أمس الأول، كلمة صوتية موجهة إلى خصومه وزملائه في سوريا جاءت تحت عنوان “إلى أهلنا في الشام سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا”.
وأهم ما ورد في الكلمة هي الأفكار التالية: وحدة الصف والحفاظ عليها وعدم السماح بالتفرق ونشر الفتن. التعامل مع الجماعات الأخرى بالرغم من الخلاف المنهجي معها بما يتيح استخدام أي مسلم وأي جماعة تريد المشاركة في المعركة ضد العدو الصائل. وهذا يستدعي بطبيعة الحال الاستفادة من القضاة وطلبة العلم والكوادر ولو كانوا غير منتسبين للجماعة المسيطرة، ولو لم يكونوا يوافقون في المنهج والمدرسة العقدية، وكذلك الابتعاد عن المناهج والأشخاص الذين يعملون على إسقاط الجماعة القائمة بدفع الصائل وكسر الشوكة بحجة الشعارات. ورفض رفع شعار او احتكار الحق في اجتهاد شخص ويتم اتخاذه معيارا للولاء والبراء.
ويمكن اختصار ما أراد الريمي قوله بعبارة واحدة “دعونا نتحالف ونقاتل ضد أعدائنا ونؤجل الخلافات فيما بيننا إلى ما بعد”. ويعيدنا هذا المسعى إلى نهاية عام 2013 عندما قرر الظواهري تفويض ناصر الوحيشي نائبه وزعيم “قاعدة” اليمن في ذلك الحين، بالتوسط لحل الخلاف المتنامي بين “داعش” و”النصرة”، وقد أصدر الأخير عدة تسجيلات صوتية بهذا الخصوص كانت جزءاً من المساعي التي بذلها بين الطرفين عبر مراسلات بريدية أو إيفاد أشخاص.
يمكن اختصار ما أراد الريمي قوله بعبارة واحدة: دعونا نتحالف ونقاتل ضد أعدائنا ونؤجل الخلافات فيما بيننا إلى ما بعد
وقد أكد مصدر مقرب من “حراس الدين” لـ “180 بوست” أن هذا التفويض قد تجدد ولكن كل ما في الأمر أن قاسم الريمي حل مكان ناصر الوحيشي، وأن هناك مساعٍ جدية من قبل قيادة القاعدة من أجل التوسط بين عدة أطراف مختلفة ومتباينة لجسر الهوة فيما بينها، مستندة في ذلك إلى الأجواء التي خلفها مقتل البغدادي، إن لجهة حجم المخاطر التي باتت تواجه الجماعات الجهادية على مستوى القيادة، أو لجهة الضرورات الميدانية والسياسية التي تتراكم فوق المشهد السوري جاعلة تأثير “الجهاديين” في أدنى درجاته.
وحسب المصدر سوف تتركز جهود الريمي على ثلاثة محاور: الأول هو ترميم العلاقة بين تنظيم “القاعدة” و”هيئة تحرير الشام” ومحاولة إيجاد صيغة للتغلب على أزمة النكث بالبيعة التي يُوجه اتهام إلى الجولاني بافتعالها لتحقيق أهداف لا تنسجم مع مقتضيات السياسة الشرعية. وسوف يكون الحد الأقصى المطلوب هو محاولة إقناع الجولاني بتجديد بيعته للظواهري والعودة إلى أحضان “القاعدة” ولو بشكل سري ومن دون إعلان. أما الحد الأدنى فسوف يقتصر على محاولة تأمين الأرضية المناسبة لتناسي الخلافات الهامشية والفرعية بين مختلف التشكيلات والسعي لانشاء تحالف عسكري بين الجولاني و”حراس الدين” وغيره من التنظيمات القاعدية في سوريا، على قاعدة أن “جهاد الدفع” يتطلب غض الطرف عن الاختلافات العقائدية.
ويقوم المحور الثاني، على التقريب بين غرفتي عمليات “وحرض المؤمنين” المشكلة من تنظيمات قاعدية، وغرفة عمليات “الفتح المبين” التي تشارك فيها “هيئة تحرير الشام” مع “الجبهة الوطنية للتحرير”، والعمل على تنفيذ رغبة الظواهري التي طالما عبّر عنها في تسجيلاته الصوتية، أي إعادة تشكيل “جيش الفتح” الذي استطاع في العام 2015 السيطرة على كامل محافظة إدلب.
أما المحور الثالث، وقد يكون الأهم، فسوف يركّز على جانبين: الأول العمل على فتح قنوات اتصال مع قيادة تنظيم “داعش” الجديدة لجس النبض حول مدى تأثير غياب البغدادي على إمكانية تجاوز الخلافات بين الطرفين بعد زوال البعد الشخصي منها. والثاني: هو مواصلة مساعي الاستقطاب، وبشكل خاصّ لقيادات وعناصر “داعش” التي انشقت عن التنظيم وهربت إلى تركيا بهدف تعزيز كوادر القاعدة ورفدها بخبرات جديدة.
وأشار المصدر إلى أن النقطة الوحيدة التي يمكن أخذها على الريمي أنه تجاهل مقتل أبي بكر البغدادي تماماً في تسجيله الصوتي ولم يتطرق إليه من قريب أو بعيد، وهذا يخالف ما دعا إليه من الوحدة وتجنب الخلافات، مشيراً إلى أنه “حتى قتلى الخوارج يجب دفنهم والصلاة عليهم كعامة المسلمين، بل ويجوز الاستغفار لهم” وبالتالي فإن تجاهل مقتل البغدادي سيعطي إشارة سلبية إلى قيادة “داعش” الجديدة قد تؤدي إلى وأد مساعي التقارب في مهدها.
واضاف المصدر أنه “علينا انتظار معرفة توجهات داعش بعد مقتل البغدادي” لافتاً إلى أنه في حال صحت التوقعات بأن الزعيم الجديد هو “حجي عبدالله” مؤلف كتاب “فقه النوازل” (من دون أن يؤكد أنه هو نفسه عبدالله قرداش)، قد يكون هذا مؤشراً على تراجع “داعش” عن غلوه في التكفير مما قد يفتح الباب أمام احتمالات التواصل معه.