تميزت المرحلة الأولى بإعمار الوسط التجاري، وعودة الكهرباء، وغيرها من البنى التحتية. أما المرحلة الثانية فقد تميزت بخراب عنوانه نكبة المرفأ وبقية العاصمة ثم كارثة عكار. في المرحلة الأولى، كان لبنان محوراً لسياسة خارجية. في المرحلة الثانية صار لبنان منبوذاً وعبئاً على كل سياسة خارجية، وعبئاً على نفسه. كان باستطاعة لبنان أن ينظّم اتفاقاً بينه وبين العدو الاسرائيلي بعد “عناقيد الغضب” (1996). صار لبنان في المرحلة الثانية مسرحاً لاغتيالات متعاقبة، انتهت بما يشبه حرب إبادة جماعية تشنها السلطة ضد الشعب اللبناني.
قبل عام 2005، كان في لبنان ما بقي من التهذيب واللياقة. كانت ملكة التهذيب ما تزال سائدة في المعاملات. كان لبنان يسير نحو ترسيخ الدولة؛ صار لبنان بعدها في عصر تفكيك، وصولاً الى مرحلة تدمير المجتمع. الثلاثون سنة الأخيرة لا تشكل مرحلة واحدة. هي مرحلتان. أولاهما صعود وتحوّل نحو مستويات أعلى من التقدم؛ ثانيتهما هبوط واستفحال الطائفية والتمذّهب. كان الخروج من الطائفية انتهاكاً لأعراف، صار انتهاكاً لميثاق العيش المشترك. من فساد خجول الى فساد وقح. من خفر الى فجور. عهر الطبقة السياسية كان ملجوماً، صار كالدابة الشموس. من سلطة كانت تهتم لحياة الناس، ولو اضطرارياً، ولوجودهم وآرائهم، الى سلطة لا يهمها وجود الناس ولا آراءهم، إلا أن يكونوا أتباعاً مستسلمين لأكباش الطوائف. ارتكبت السلطة في المرحلة الأولى أخطاء جسيمة، استثمر بها الحاقدون فاستطاعوا الوصول الى السلطة على صهوة جواد أبيض اسمه الخلاص، فما حدث إلا العتمة والظلمة.
في المرحلة الأولى كان هناك سياسة. لم تمض ثانية واحدة من الفراغ السياسي أو الفراغ في السلطة. المرحلة الثانية نصفها تقريباً فراغ في الرئاستين الأولى والثالثة، وتجديد أشبه بالفراغ لمجلس النواب ورئيسه. كان الفساد خفراً، ثم أميط اللثام عن فساد قاتل. انتقلنا من الفساد الأصغر الى الفساد الأكبر (بلغة الفقهاء عن الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر).
ما استبيحت كرامة اللبنانيين كشعب كما بعد 2005؛ مصادرة أموالهم، تفريغ جيوبهم، إفقارهم، طوابير الذل. إفراغ الروح، تحطيم الكرامة، وصولاً الى تفريغ الدماغ في الانشغال اليومي بحثاً عن المواد الضرورية
الثلاثون سنة الأخيرة لا تشكّل مرحلة واحدة. هي مرحلتان لا تشبه واحدة منهما الأخرى. الثانية تدمير لما بنته الأولى. يحاول الحاقدون دمج المرحلة الثانية، بعد 2005، بالمرحلة الأولى، ما قبل 2005، لجعل المرحلتين مرحلة واحدة من أجل إخفاء فظاعات المرحلة الثانية؛ هذه المرحلة التي انتهت بما نحن فيه من انهيار الدولة وجميع القطاعات: المصارف بمصادرة أموال المودعين، الطبقة السياسية بتهريب أموالها، الكهرباء بتعطيلها ومنع إنشاء معامل جديدة، مياه الشفة بتسليمها لجماعات البيع بالصهاريج، رفض التفاوض مع صندوق النقد الدولي بالرغم من تنفيذ كل برنامجه المعتاد بتخصيص الكهرباء (مولدات الأحياء)، وتخصيص المياه (البيع بالكميونات)، ورفع الدعم عن المواد الأساسية من وقود البنزين والمازوت، الى فقدان الدواء والرغيف، الى تسكير محلات تجارية عريقة، وذلك الى الأبد، الى تدمير النظام التعليمي، الى تفريغ لبنان من الكادرات التربوية والتقنية، الى ذل الطوابير في كل مكان من أجل كل مادة ضرورية للعيش، الى حروب الإبادة على اللبنانيين كما في مرفأ بيروت وتدمير عاصمة كوزموبوليتية مميّزة، الى كارثة عكار، الى إفقار اللبنانيين عموماً، الى تحصين أعضاء الطبقة السياسية ضد كل مساءلة أو محاكمة، الى الهزء بالقضاء، الى الاغتيالات لمنع الحوار المكشوف وإسكات كل من تسول له نفسه تصوير أو كشف كل حقيقة (ممنوع أن تسمى الأشياء بأسمائها، ممنوع أن يمضي القضاء الى نهايات تحقيقاته)، الى تهديد أصحاب الآراء الحرة.
قبل 2005 كان المجتمع مفتوحاً والحوار مفتوحاً والسيادة منقوصة. بعد 2005، صار المجتمع مغلقاً، وارتفعت مطالب حقوق الطوائف والصلاحيات، وصارت السيادة مفقودة بالكامل، إذ ارتهن لبنان لحروب خارج حدوده بقرارات من خارج حدوده. ما أُهين اللبنانيون شعباً ومثقفين كما أهينوا بعد 2005، وما هُدّدوا كما هُدِّدوا في هذه الفترة؛ فهل للسيادة مكان؟ ما استبيحت كرامة اللبنانيين كشعب كما بعد 2005؛ مصادرة أموالهم، تفريغ جيوبهم، إفقارهم، طوابير الذل. إفراغ الروح، تحطيم الكرامة، وصولاً الى تفريغ الدماغ في الانشغال اليومي بحثاً عن المواد الضرورية. لا فرق كثيراً بين 14 آذار و8 آذار. بدأت المرحلة الثانية بحكومات 14 آذار بأسوأ ما عندها، وانتهت بعهد 8 آذار، مروراً بالعهد الأكثر تفاهة، وفي كل اللحظات سديم ينذرنا بأننا كشعب سنصير لا شيئاً. إذا كانت مرحلة ما بعد 2005 قد ورثت نواقص وثغرات وحتى فساد المرحلة السابقة، فإنها أظهرت أسوأ ما لدى الطبقة السياسية في لبنان؛ طبقة سياسية فككت الدولة لتصل الى تدمير المجتمع. الفاصل بين المرحلتين انفجار أدى في 2005 بمن كان يرمز الى الخروج من الهوة أو المأزق. دخلنا المرحلة الثانية دون صمام الأمان. مساوئ مرحلة ما قبل 2005 قادت الى كوارث المرحلة اللاحقة. المساوئ كان بالإمكان تعديلها، أما الكوارث اللاحقة فهي أشبه بانهيار بنيان يصعب ترميمه.
لم يحدث ذلك التطوّر كأمر حتمي. تفيدنا نظرية المؤامرة في هذا المجال. رأى المخططون الحاقدون في انزلاق المرحلة الثانية الى الهاوية فرصة لتنفيذ برنامج خبيث، كان وما يزال جزءاً منه العودة الى نقطة الصفر لما يسمى الانطلاق من جديد تحت مسمى الجمعية التأسيسية. لا تراكم على ما سبق. تراكم يتم من خلال إزالة الأخطاء وإرساء قواعد الصواب. انتقلنا من حالة رمادية الى حالة ليس فيها إلا اللونين الأسود والأبيض. وكان خيار الأسود هو الذي اتخذته الطبقة السياسية، أو بالأحرى الجزء المسيطر منها. صحيح أن مافيا السلطة واحدة من جميع أطياف الطوائف والمذاهب، لكن لكل مافيا زعيم. رفعت زعامة المافيا شعارات وتفنيصات محاربة الفساد، وكانت تضمر التدمير المنهجي للدولة والمجتمع، والعودة الى نقطة الصفر من جديد. كأن الشعب اللبناني حي بن يقظان نزل في جزيرة مهجورة ليتعلّم من جديد أو يبدأ من الصفر. تقليد الكتابة عن حي بن يقظان قديم ومتكرر في التاريخ العربي. ليس ابن الطفيل وحده، بل ابن سينا أيضا، والسهروردي، وغيرهم، قبل أن تنتقل الفكرة الى الغرب الأوروبي، تحت مسمى روبنسون كروزو.
تريد السلطة حكومة مستقيلة لأن العجز هو ما يراد للبنان. الحكومة المستقيلة تعني عجزاً وقلة حيلة. السياسة مفقودة، صحيح. لكن انعدام السياسة هو سياسة من نوع آخر. العجز صنع أيدينا. هو مفتعل. العجز هو ما يؤدي الى الفناء وأزمة الوجود.. وعلى الدنيا السلام
لكن بذور المرحلة الثانية كانت في الأولى، وإن كان من الممكن تلافيها، أو التخفيف منها، أو حتى تغيير اتجاهها. لنتذكر أن المرحلة الثانية بدأت بحكومة كان على رأسها من كان وزيراً من الدرجة الأولى في المرحلة السابقة. ولنتذكر أيضاً أن معظم الحكومات في المرحلتين هي حكومات وفاق وطني. بمعنى أن الجميع شاركوا فيها. لكن المرحلة الثانية تمثّل أسوأ ما في الأولى. كان طهرانيو المرحلة الثانية شركاء في المرحلة الأولى بطريقة أو بأخرى. عندما تفردوا بالسلطة، بالأحرى بقيادة السلطة، فعلوا ما لم يكن أبطال المرحلة الأولى يجرأون عليه، وهو تدمير الدولة وصولا الى تدمير المجتمع. أوضح تعبير عن ذلك هو تدمير نظام الكهرباء العام بما أدى الى تفريخ مولدات الأحياء في كل مكان. خصخصة من نوع آخر. يقابل الكهرباء خصخصة المياه، وحلول الكميون مع شبكة الأنابيب للتزويد بالمياه. أما رفع الدعم عن الخبز والدواء والوقود، فالأمر يتم الآن عبر طوابير الذل. لم يعد الأمر مجرد إفقار أو لم يعد لدى الشعب اللبناني القدرة على محاولة تحسين الوجود بل صار همه في الحفاظ على الوجود ذاته. لم يعد الأمر كيف نوجد بل هل نوجد أم لا؟ سؤالنا الآن، بيننا وبين أنفسنا، هل نبقى على قيد الحياة؟ نحن في مجاعة ليس سببها النقص في المال أو المواد بل هي برنامج تفتعله السلطة.
لم يشهد لبنان في سالف الأيام ما يحدث الآن. كانت المصارف مكتظة بالمال، ثم فجأة فرغت. المواد كلها موجودة فإذا بها تصير بحكم غير موجودة. الإمكانيات المالية والمادية موجودة، أو يمكن ان تنوجد بسهولة، لكنها لا تصل الى الناس. مجاعة مفتعلة. فهل إذا قلنا مفتعلة مبرمجة نكون مغالين؟ لم يعانِ لبنان أزمة استيراد منذ كان أول وجوده.
منذ ما قبل الحرب الأهلية يطرح البعض تدويل أزمة لبنان، وكنا نعارض ذلك. الآن كل قطاع من قطاعات الاقتصاد والسياسة مدوّل بطريقة أو بأخرى. في الأزمنة الخالية كان استيراد مازوت أو بنزين أو طحين أو غيره يحتاج الى موظف كبير أو مستشار لرئيس. حتى في أزمات الحصار العسكري، كان يجلس الى الهاتف لاستقدام السفن لتزويد لبنان بما يحتاجه. مع كل اضطراب في السياسة خلال العقود السحيقة الماضية، كانت السلطة حريصة على ألا يفقد اللبنانيون المواد الأساسية. أصبح أهل السياسة حريصين على أن يفقد اللبنانيون كل المواد الأساسية.
بعد الحرب الأهلية بدأ الاعمار مباشرة حتى قبل أن تخرج إسرائيل من لبنان. عند احتلال بيروت، بدأ اقتناص الضباط والجنود الإسرائيليين في اليوم الثالث. بعد ذلك إحتُكِرت المقاومة كما هو محتكر كل شيء في لبنان. في المرحلة الأخيرة، احتكرت الوطنية والأخلاق والشرف. وصار الدولار مفقوداً. كان عملة صعبة وصار عملة مستحيلة. اختفى الدولار. عشنا في ظل حكومات وفاقية تضم جميع الأطراف. كلن يعني كلن. حصار أميركي، صحيح. طبقة سياسية فاسدة، صحيح. قلة اكتراث عربية، صحيح. عدم اهتمام دولي، صحيح. لكن الأصح والأهم هو العجز الداخلي. تحدث أزمة في كل قطاع من القطاعات في ظل حكومة مستقيلة. تريد السلطة حكومة مستقيلة لأن العجز هو ما يراد للبنان. الحكومة المستقيلة تعني عجزا وقلة حيلة. السياسة مفقودة، صحيح. لكن انعدام السياسة هو سياسة من نوع آخر. العجز صنع أيدينا. هو مفتعل. العجز هو ما يؤدي الى الفناء وأزمة الوجود.
وعلى الدنيا السلام.