الحرب التجارية الضارية بين الولايات المتحدة والصين، هي رأس جبل الجليد من صراع أعمق بين أقوى اقتصادين في العالم. إنها معركة السيادة بامتياز على القرن الحادي والعشرين مغلفة بعناوين الرسوم الجمركية، من دون ضمان عدم انزلاقها إلى ما هو أبعد من تبادل الزيادات الفلكية في التعريفات على الواردات من هذا البلد أو ذاك.
يقلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب المشهد رأساً على عقب. يقول إن العالم كان "ينهب" الولايات المتحدة على مدى عقود وليس العكس. ولذا، اقتضى إعلان الثاني من نيسان/أبريل "يوم التحرير" لأميركا من الاستغلال، بفرض أكبر حزمة من التعريفات الجمركية عرفها التاريخ على كل الدول، الحليفة والمنافسة على حد سواء.
يرفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب وتيرة الحملة الجوية على الحوثيين في اليمن، ويدرس فريقَهُ مضمون الرسالة الجوابية التي أرسلتها طهران عبر سلطنة عُمان رداً على الرسالة التي بعث بها إلى القيادة الإيرانية واضعاً إياها أمام خيارين: التفاوض أو استخدام القوة للحؤول دون اجتيازها العتبة النووية.
بسقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي ووصول “هيئة تحرير الشام” إلى دمشق، برز أردوغان منتصراً أول في سوريا، موسعاً ساحة نفوذه أكثر فأكثر، من دمشق إلى أديس أبابا، واقترب من التتويج زعيماً للإقليم، بعد انكفاء إيران المثخنة بخسائر استراتيجية نتيجة الحرب الإسرائيلية. واستفاد من التوتر في العلاقات الأوروبية-الأميركية، على خلفية جهود الرئيس الأميركي دونالد ترامب لحل النزاع الأوكراني، فتحول إلى حاجة أوروبية في سياق البحث عن قوة سلام من “تحالف الراغبين” في حراسة أي اتفاق سلام محتمل.
في هذا المحيط الخارجي المواتي، ليس غريباً أن يفكر أردوغان بتقديم موعد الانتخابات الرئاسية في محاولة لكسب ولاية أخرى، في وقت يمنع الدستور الترشح لأكثر من ولايتين. ولهذا يقتضي الأمر تعديلاً دستورياً لن يكون متاحاً إلا بتوافر ثلثي أعضاء البرلمان.
أول الأمر وقبل الوصول إلى قضية إمام أوغلو، وبهدف التغلب عل عقبة التعديل الدستوري، لجأ أردوغان إلى الورقة الكردية، لأنه يريد أصوات “حزب المساواة وديموقراطية الشعوب” الكردي الممثل في البرلمان، كي يضمن الحصول على الغالبية اللازمة لتعديل الدستور. ومن هنا أتى الانفتاح على الزعيم التاريخي لـ”حزب العمال الكردستاني” عبدالله أوجلان نزيل أحد السجون في جزيرة إيمرالي ببحر مرمرة منذ 1999.
طلبت الحكومة التركية من أوجلان إطلاق نداء إلى “حزب العمال الكردستاني” بإلقاء السلاح من دون شروط. نفذ الزعيم الكردي المطلوب منه، واستجاب الحزب المعتصم بجزئه الأكبر في جبال قنديل بشمال العراق نظرياً، في وقت كان يلمح زعيم الحركة القومية المتشدد دولت بهشتلي المتحالف مع حزب العدالة والتنمية الحاكم، إلى احتمال العفو عن أوجلان.
تتناقض صورة الاقتصاد التركي المأزوم في أعوامه الأخيرة، مع المكانة الإقليمية التي تتبوأها تركيا في الأعوام الأخيرة، أو في أفضل الأحوال لم يستطع أردوغان ترجمة المكاسب الخارجية في النهوض بالاقتصاد التركي، وتالياً ضمان تمتعه بالشعبية التي كان يتمتع بها في الماضي
لكن هذا العفو، سيكون مرتبط حكماً بضمان حصول أردوغان على أصوات نواب “حزب المساواة وديموقراطية الشعوب”، عندما يطرح الحزب الحاكم مسألة تعديل الدستور على التصويت.
القاء “حزب العمال الكردستاني” السلاح، في حال حصوله، سيُعتبر نصراً مؤزراً لأردوغان، يُقفل معه نزاعاً بدأ عام 1984، وعجزت عن حله الحكومات التركية المتعاقبة، بما فيها محاولتان فاشلتان في مطلع الألفية وأخرى عام 2013.
أما أكراد سوريا الذين يعتبرون أنفسهم غير معنيين بنداء أوجلان، فقبلوا تحت الضغط الأميركي والأوروبي، ومرضاة لأردوغان، بتوقيع اتفاق على دمج “الإدارة الذاتية” القائمة في شمال شرق سوريا بالحكومة المركزية في دمشق، على فترة تمتد عاماً. وفي حال إنجاز هذا الاتفاق على رغم الكثير من البنود الفضفاضة التي تضمنها، يكون أردوغان قد حقق مُراده بتفكيك احتمال نشوء “كيان كردي” على الحدود الجنوبية لتركيا.
وبعدما أَمِن أردوغان إلى حد كبير من الملف الكردي، تحوّل إلى المعارضة الداخلية المتمثلة بحزب الشعب الجمهوري، الذي يُعتبر أكرم إمام أوغلو أحد وجوهه البارزة، الذي تمكن من الفوز العام الماضي بولاية ثانية على رأس بلدية اسطنبول، كبرى المدن التركية.
وأهمية إمام أوغلو نابعة من كونه يتمتع بتأييد شعبي حتى من فئات كانت محسوبة على معسكر أردوغان. وارتكب زعيمه السابق كمال كليتشدار أوغلو خطأ كبيراً عندما أصر على الترشح شخصياً في مواجهة أردوغان عام 2023، وتجاهل نصائح من تحالف “طاولة الستة” بإفساح المجال لترشح إمام أوغلو الذي كانت ترجح الاستطلاعات فوزه.
وإلى الآن، يُعتبر إمام أوغلو منافساً قادراً على إلحاق الهزيمة بأردوغان الذي يحكم فعلياً منذ ثلاثة عقود. وكان من المقرر أن يعلن الحزب رسمياً بحلول اليوم (الأحد) عن ترشيح رئيس بلدية اسطنبول للرئاسة في انتخابات 2028 أو في الانتخابات المبكرة المحتملة. وقد أعد لهذه الغاية صناديق اقتراع في أنحاء تركيا، كان يفترض أن يدلي فيها مليون ونصف المليون عضو بأصواتهم في إطار انتخابات تمهيدية تفضي إلى اختيار إمام أوغلو، مرشحاً للرئاسة.
ويخشى أردوغان من إمام أوغلو، كون الأخير يتحدر مثله من ساحل البحر الأسود، ولأن نجاحه في إدارة بلدية اسطنبول، قد يقنع الأتراك بقدرته على إدارة تركيا، وهذه تجربة مرّ بها الرئيس التركي نفسه الذي كان رئيساً لبلدية اسطنبول في تسعينيات القرن الماضي ومنها انطلق في حياته السياسية.
وها هو التاريخ يُعيد نفسه، بعد 36 عاماً، فأردوغان رُمي في السجن في آذار/مارس 1999، وكان رئيساً لبلدية إسطنبول، وذلك بتهمة التحريض على الكراهية الدينية عبر تلاوة قصيدة شعرية وصف فيها مآذن الجوامع بالرماح وقببها بالخوذ، وما أن خرج من السجن بعد أربعة أشهر، حتى اغتنم فرصة حل “حزب الفضيلة” وقرّر انشاء حزب سياسي جديد هو حزب العدالة والتنمية، الذي تمكن من الفوز في الانتخابات النيابية عام 2002 والوصول إلى رئاسة الحكومة في العام التالي، بعد تعديل الدستور وإلغاء الحظر الذي كان مفروضاً عليه، ليحكم تركيا لأكثر من عقدين متواصلين من الزمن.
وفي إجراء استباقي يُذكر بما حصل معه في نهاية التسعينيات، اختار أردوغان أن يُلقي القبض على إمام أوغلو بتهمتي الفساد والإرهاب. وفي وقت سابق من الشهر الجاري، سحبت جامعة اسطنبول منه شهادة التخرج في إدارة الأعمال بمزاعم تزويرها. وينص قانون الانتخابات على أن المرشح الرئاسي، يجب أن يكون حاصلاً على شهادة جامعية.
لقد تخلص أردوغان من حلفاء سابقين ومن خصوم بالصاق تهم شتى بهم، من التآمر على الديموقراطية أو بالإرهاب، بينما كان يمعن في تحويل البلاد إلى نظام شمولي يجمع كل السلطات بين يديه، مع برلمان أشبه بالصوري، وقضاء تعرض لحملة تطهير هو الآخر من كل المشكوك في ولائهم للحزب الحاكم
اعتقال إمام أوغلو، فجّر غضب المعارضة التركية، برغم حظر التظاهرات، إذ نزل أنصارها إلى الشوارع بعشرات الآلاف في اسطنبول ومدن تركية أخرى، احتجاجاً على الاعتقال الذي رأى حزب الشعب الجمهوري، أن دوافعه سياسية، ويرمي تحديداً إلى إزالة عقبة رئيسية من أمام فوز أردوغان بولاية رئاسية ثالثة. وتبع ذلك اهتزاز البورصة التركية وتراجع الليرة إلى مستويات قياسية أمام الدولار الأميركي. وباع المصرف المركزي التركي عشرة مليارات دولار في يوم واحد دفاعاً عن سعر الليرة.
ويُتوّج اعتقال إمام أوغلو حملة بدأت منذ أشهر، عمدت خلالها السلطات التركية إلى كف يد العشرات من رؤساء البلديات الموالين للمعارضة، وتعيين مؤيدين للحزب الحاكم مكانهم.
ومن المحتمل أن يواجه رئيس بلدية أنقرة منصور يافاش، الذي يُعد من أبرز الوجوه في حزب الشعب الجمهوري، والمرشح المحتمل الآخر للرئاسة، مصيراً مشابهاً لمصير إمام أوغلو. وتنقل مجلة “الإيكونوميست” البريطانية عن المحلل التركي إبراهيم أوسلو أن “تركيا تنزلق إلى نموذج تصير معه المنافسة السياسية مستحيلة فعلياً”.
ويُحذّر خبراء من أن القلق على الاستقرار والأمن الاقتصادي في تركيا، يُمكن أن يُلحق الضرر بالتدفقات المالية في وقت تبدو ثقة المستثمرين مهتزة أصلاً، بعدما أمضى صانعو القرار المالي في البلاد نحو عامين من أجل خفض التضخم، فضلاً عن استحقاقات أخرى يواجهها أردوغان سواء على صعيد الملف الكردي أو تعديل الدستور أو ملف اللجوء السوري، وكلها ملفات لا يُمكن بتها بكبسة زر.
والجدير ذكره أن نسبة التضخم ما تزال مرتفعة إذ بلغت 39.05 في المئة في شباط/فبراير الماضي، وهي قضية حساسة يُخطّط حزب الشعب الجمهوري لاستخدامها في حملته الانتخابية ضد أردوغان.
وتتناقض صورة الاقتصاد التركي المأزوم في أعوامه الأخيرة، مع المكانة الإقليمية التي تتبوأها تركيا في الأعوام الأخيرة، أو في أفضل الأحوال لم يستطع أردوغان ترجمة المكاسب الخارجية في النهوض بالاقتصاد التركي، وتالياً ضمان تمتعه بالشعبية التي كان يتمتع بها في الماضي.
لقد تخلص أردوغان من حلفاء سابقين ومن خصوم بالصاق تهم شتى بهم، من التآمر على الديموقراطية أو بالإرهاب، بينما كان يمعن في تحويل البلاد إلى نظام شمولي يجمع كل السلطات بين يديه، مع برلمان أشبه بالصوري، وقضاء تعرض لحملة تطهير هو الآخر من كل المشكوك في ولائهم للحزب الحاكم، ويوجد صحافيون في سجون تركيا أكثر مما يوجد في بلد آخر.
ويرى، غونول تول، الباحث في معهد الشرق الأوسط ومقره أميركا، أن أردوغان يعتقد بأن عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، قد تمنحه الحصانة. وأضاف أن “ترامب قد خلق مثل هذه الفوضى.. ويعتقد الحكام الاستبداديون في الخارج أن في امكانهم فعل ما يريدون”.
على مدى 80 عاماً، عاشت أوروبا تحت مظلة "السلام الأميركي"، لتستفيق على واقع جديد يفرض عليها تدبر شوونها الدفاعية بقواها الذاتية. ويهرع القادة الأوروبيون لوضع الخطط والاستراتيجيات على عجل، والتفكر في خيارات لم تكن متخيلة، قبل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض منذ نحو شهرين.
يمضي العالم، منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، نحو اصطفافات جديدة لم تكن، قبل 80 عاماً، لتلوح في ذهن أحد، كأن يظهر هذا الانقسام الحاد بين الولايات المتحدة وأوروبا في النظرة إلى روسيا، أو أن تتعامل واشنطن مع الحلفاء والخصوم من منطق القوة. ويتجلى ذلك في التهديد بالضم إلى التعريفات الجمركية التي يعتبرها ترامب "أجمل كلمة في القاموس".
حتى في أسوأ السيناريوات المتخيلة، لم يكن وارداً أن ينتهي اللقاء بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، إلى هذه الكارثة في العلاقات بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، بما يُهدد الجهود الأميركية لوقف الحرب الروسية-الأوكرانية ويُعمّق الشرخ بين ضفتي الأطلسي، ويجعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موقع أقوى.
قبل ثلاثة أعوام، ترتّب على اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، إعادة تشكيل المشهد العالمي برمته، وحدثت الكثير من الأشياء التي كانت غير متوقعة، من احتشاد الغرب على نحو غير مسبوق في دعم أوكرانيا ومعاقبة روسيا بقوة، وعودة الولايات المتحدة لتنشيط حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي توسع نحو شمال أوروبا، بينما خابت آمال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في استعادة سريعة لأوكرانيا وتالياً الغرق في مستقنع من الاستنزاف، الذي فرض عليه الإرتماء كلياً في "شراكة بلا حدود" مع الصين.
العلاج بالصدمات، قد يصح وصفاً للأسلوب غير المألوف الذي يعتمده الرئيس الأميركي دونالد ترامب في سياسته الخارجية لحل الأزمات المستعصية من الشرق الأوسط إلى أوروبا، بما يشكل افتراقاً عن السياسات الأميركية التي سادت لعقود.
ثلاثة أسابيع كانت كافية كي يُفجّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كماً هائلاً من المفاجآت، التي أذهلت مؤيديه وخصومه على حد سواء. من الحرب على مؤسسات "الدولة العميقة" في الداخل، إلى الحروب التجارية واستخدام الإكراه الاقتصادي بديلاً من البوارج في السياسة الخارجية، وتدمير كل المقومات التي قام عليها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.