حزب الله ما بعد الذروة.. العودة إلى السيرة الأولى

في أدبيات ما قبل حرب "طوفان الأقصى"، كان حزب الله يعد أنصاره بدخول الجليل (المنطقة الحدودية بين جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة). لم يكن ذلك وعدًا عابرًا لأهداف تعبويّة، بل ركناً أساسيًّا في تصوّرات العقل الجمعي لـ"بيئة" المقاومة. 

البيئة التي رأت في ما راكمه حزب الله من قوة وتجربة إقليمية نموذجًا لا يضاهى. خطابات، ومناورات، وغير ذلك من وسائل الإيضاح، استخدمها الحزب لأكثر من عقد بهدف تثبيت “معادلة الجليل” في الوعي. نجح ودخلت المعادلة إلى أذهان الأطفال، وإلى كلمات الأناشيد وأغاني حفلات الزفاف.

عام 2017 وفي حفل زفاف لأحد مقاتلي الحزب من أبناء إحدى قرى البقاع اللبناني، ذكر المنشد وحدات الحزب بالأرقام السرية، ليصل في نهاية مقطع من الأنشودة إلى القول “والله بالحرب الجاية بدنا نحتل الجليل/ هات وخود وخود وهات/ وللذلة قلنا هيهات/ ولك ضربنا بوارج/ بدنا نوقع طيارات”. المقطع منتشر على منصة يوتيوب منذ سنوات، ولا يعكس الشعور بفائض القوة والنشوة تجاه إنجازات متوقعة فحسب، بل يعكس الارتياح لمسارات المستقبل، والتعامل مع الحزب كجيش نظامي بات كل ما لديه علنيًا ومشخّصًا. برغم أنها كانت احتفالية عابرة، لكنها لحظة سوريالية إلى درجة تجعل من هذه الأنشودة اليوم، نقطة مرجعية، رمزيًا، للذروة التي وصلتها حالة حزب الله في الإنفلاش والإنكشاف.

بين 17 و27 أيلول/سبتمبر 2024 انطلقت الحرب الإسرائيلية من ذروتها. كانت لحظة الصدمة والترويع التي افترض صانع القرار في إسرائيل أنها ستسقط حزب الله بالضربة القاضية، حتى وإن لم يكن ذلك ضمن الأهداف المعلنة للحرب. لقد تعلّم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من تجربة حرب تموز 2006، وتحديدًا من الخطأ الذي ارتكبه رئيس الوزراء حينها إيهود أولمرت بتحديد القضاء على حزب الله كهدف للعملية. وضع نتنياهو أهدافا غير خيالية، لكنه في خطواته يبدو أكثر طموحاً وساعياً لتغيير وجه الشرق الأوسط، أو كما أسمى عملية اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله: تغير الترتيب. اغتالت إسرائيل خلال تلك الفترة أعضاء من المجلس الجهادي للحزب، وقادة في قوة “الرضوان” وقائدي وحدتي الصواريخ والطائرات المُسيّرة. استهدفت إسرائيل مستويات مختلفة في هيكل الحزب، سلسلة القيادة، والقيادة والسيطرة، والبنية التحتية العسكرية، والعلاقة بين الحزب ومناصريه والثقة المتبادلة بينهم، والبنية التحتية الأمنية بطبيعة الحال. منطقيًا، وباستهداف كل هذه المستويات يتضعضع الهيكل ويصبح آيلا للسقوط، وهذا ما ذهب كثر إليه كنتيجة لتحليل الوقائع.

حزب الله ليس انتحارياً

في الساحة السياسة اللبنانية، بدأ البناء على نتائج الإنهيار المتوقع في صفوف حزب الله، وتشبيهه بمشهد انهيار حزب البعث في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003. وفي القراءة الغربية أيضا، عكس الانطباع الأوليُّ توجّهًا للتعامل مع انكسار كبير سيدفع الحزب للاتجاه نحو تجرع السم والطلب عبر الوسطاء وقف إطلاق النار لجمع شتات نفسه. يقول دبلوماسي غربي في حوار هاتفي: بحسب التقييم كان المشهد الأكثر منطقية هو أن يحذو من تبقى من قيادة حزب الله حذو آية الله روح الله الخميني في العام 1988، فيعلن وقف الحرب من جانب الحزب من أجل ضمان البقاء. ويضيف الدبلوماسي: “هم ليسوا جماعة انتحارية، لطالما اثبتوا عن عقلانية فريدة وسط الجماعات الإسلامية الاخرى، والقبول بفصل الجبهات بشكل مباشر، والتراجع مسافة 40 كيلومترا عن الحدود لا يفترض أن يكون قاتلا بالنسبة لهم.”

كان للحزب تقييم آخر. تطلب الأمر أيامًا عدّة كي يتمكن من التقاط أنفاسه، ثم إعادة ترتيب هيكله بما يتناسب مع اللحظة الأخطر في تاريخه. بحسب مصدر مطلع على وضع الحزب، استعاد الحزب نسخة قديمة منه بدلًا من محاولة ترميم نسخته الأخيرة التي اثبتت الوقائع إنها برغم قوتها وتقدمها بالعتاد والسلاح والذخيرة، إلا أنها قد لا تكون مناسبة لمثل هذه الحروب. يمكن وصفها بالنسخة الآمنة والتقليدية. كلما زاد حضور منصّات التواصل بين أيدي عناصر الحزب، أصبحت هذه المنصات عبئا أكبر عليه، نظرا للصعوبة التي تقارب المستحيل في ردم الفجوة التكنولوجية الكبيرة بين الحزب وإسرائيل.

يمكن القول إن الحزب على مستوى التواصل قد دخل كهفاً لم يدخله منذ زمن المقاومة ضد الإحتلال الإسرائيلي خلال العقد الأخير من القرن الماضي. كذلك الأمر على مستوى العمل الميداني، إذ استبدل الحزب أدواته التي كان يعوّل عليها للانطلاق نحو الجليل، بأدوات الدفاع عن الأرض والاستنزاف الطويل والإيلام المتراكم والمتوازي عبر أنساق مختلفة.

التحولات في إيران سمحت لحزب الله بتشكيل مسار خاص ترسخ بتولي أمينه العام التاريخي السيد حسن نصرالله القيادة لثلاثة عقود كاملة. كانت تلك مرحلة تعمقت خلالها آلية اتخاذ القرار أكثر وتلبننت (أصبحت لبنانية) الأهداف والرؤى، ولعل اغتيال نصرالله وغيابه الآن عن المشهد سيكون اختبارا لمآلات هذه الآليات: هل تمأسست أم أنها خضعت لشخصية القائد وعلاقته مع الإيرانيين وثقتهم المطلقة بقراراته؟

الثورة الإيرانية.. لاعب جديد

في مفصل غير مسبوق من حياته، استحضر الحزب لحظات كان فيها نحره على السكين. يوم كانت انطلاقته كمجموعة من رجال الدين والشبان الغاضبين المنشقين عن حركة أمل وحزب الدعوة وحركة فتح وغيرها من التنظيمات الناشطة على الساحة اللبنانية، إيذانا بتحوّل جذري في لبنان والمنطقة في النشاط العسكري ضد إسرائيل، بالتوازي مع التحول الذي كرّسته الثورة الإيرانية في العلاقات الدولية والإقليمية والصراع في الشرق الأوسط. كان مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله روح الله الخميني قد طرح نظريته للحكم تحت عنوان “ولاية الفقيه”، وجاءت الثورة التي قادها لتفتح مسارا للفقيه باتجاه جبهات قتال مختلفة على امتداد المنطقة وأبعد قليلا. محمّلًا بتاريخ من الصدمات والخشية من الاندثار، لم يأت الخميني إلى الحكم في لحظة استثنائية فحسب، بل إن التوقيت الذي وصلت فيه ثورته إلى الذروة في شباط/فبراير 1979 كان أكثر من مناسب لحركة تاريخية تريد أن تصنع تحولا، لا على مستوى المذهب الشيعي فحسب، بل على مستوى مجمل الصراع.

دخلت الثورة الإيرانية على ترتيب المنطقة الجديد الذي انطلق مع نزول الرئيس المصري أنور السادات في مطار دايفيد بن غوريون في تشرين الثاني/نوفمبر 1977 كلاعب معطّل. بل إن الخميني في لحظة “ايفوريا” ثورية، أعلن الحرب على النظام الوستفيلي بأسره، برغم أن تركيب دولته وإطارها العام وبروتوكولاتها الدبلوماسية كان “وستفيليًّا” للنخاع. لكنها ربما الثنائيات التي احترفتها الجمهورية الإسلامية منذ ما قبل ولادتها كدولة، منذ أن اجتمعت العمامة مع السياسة، ومنذ أن تزاوجت الجمهورية مع الإسلام، ومنذ أن أنضج الخميني مبدأ الثورة في مدرسة دينية اعتقدت لقرون بالإنتظار الصامت للمخلّص. ولعل هذا الذي تجلى إيرانيا بعد الثورة في خلق حرس ثوري مواز للجيش، وفي تولّي منصب رأس الدولة الولي الفقيه برغم وجود رئيس للجمهورية، ولاحقا حضور المجلس الأعلى للأمن القومي في صناعة السياسة الخارجية الاستراتيجية برغم وجود وزارة للخارجية.

إقرأ على موقع 180  ماذا لو توقفت الدولة اللبنانية عن تسديد فوائد الدين العام؟

لم يكن الخميني حقيقة سوى خلاصة رحلة الحوزة من الصمت الكامل إلى الإيماء إلى الهمس وصولا إلى النطق وأخيرا الصراخ. حزب الله المتشكل في رحم لبناني، ومن نطفة نظرية ولاية الفقيه المتلاقحة مع جغرافيا سياسية محورها الصراع مع إسرائيل، لم يكن إلا واحدة من صرخات هذه الرحلة التي صنع محطتها الرئيسية في لبنان رجل الدين الإيراني اللبناني الأصل السيد موسى الصدر. لكن حزب الله تماما كجمهورية الخميني الإيرانية، كان مسكونا بالثنائيات التي ظلت لفترة طويلة مختبئة داخل عباءة حركة المقاومة، برغم تعبير خصومه دوما عنه بأنه دولة داخل دولة. الحقيقة أن ما من لحظة في تاريخ الحزب لم تكن تحمل ازدواجية، لكن الصراع مع إسرائيل لعقدين تقريبا منذ سنوات التأسيس حتى لحظة التحرير أعطى الحزب نوعا من حرية التجربة والخطأ. بل إن التحولات أيضا في إيران سمحت له بتشكيل مسار خاص ترسخ بتولي أمينه العام التاريخي السيد حسن نصرالله القيادة لثلاثة عقود كاملة. كانت تلك مرحلة تعمقت خلالها آلية اتخاذ القرار أكثر وتلبننت (أصبحت لبنانية) الأهداف والرؤى، ولعل اغتيال نصرالله وغيابه الآن عن المشهد سيكون اختبارا لمآلات هذه الآليات: هل تمأسست أم أنها خضعت لشخصية القائد وعلاقته مع الإيرانيين وثقتهم المطلقة بقراراته؟

ثنائيات حزب الله

طفت ثنائيات حزب الله على السطح خلال الحرب في سوريا. فإغراء التوسع والإنطلاق نحو الإقليم ولعب الأدوار المختلفة في غير ساحة، وتحديدا العراق واليمن، جعل الحزب يتحول من جماعة عسكرية تخوض الحروب غير المتماثلة إلى جيش جرّار هجين يجمع بين النظامية وحروب العصابات، أو ما يصطلح على تسميته في المدارسة الغربية (hybrid warfare). وصل حزب الله إلى حدّه الأقصى في مثل هذا النظام لجهة الانتشار وتثبيت مواقع في سوريا ولبنان، ولا سيما على الحدود في مواجهة إسرائيل. أوقعت هذه الخطوة الحزب في نقاط ضعف القوات النظامية التقليدية لجهة الاستعانة بسلاسل توريد بعضها مكشوف، وهو ما سمح لإسرائيل بالدخول عليه من أبواب قاتلة كما في حادثتي “البيجر” والأجهزة اللاسلكية.

لم تكن هذه الثنائية وحدها التي حكمت مسار حزب الله ما بعد حرب تموز 2006 وحرب سوريا. قبل ذلك كان الدخول إلى التنظيم محصورا بشكل حديدي بنخبة عقائدية، تخضع منذ لحظة استقطابها لمرحلة تحضيرية ودورات ثقافية تجعل من الشخص المستقطبِ جنديا “اسبرطيا” جاهزا لولوج المرحلة الثانية والتي ستدخله الحزب كعنصر تعبوي، وبالتالي تُفتح أمامه أبواب الدورات الثقافية المتقدمة والعسكرية المؤهلة للوصول إلى بوابة التفرغ في قوات الحزب العسكرية. تحول الحزب تدريجيا إلى حزب عقائدي مطعّم بحالة شعبوية، ومجددا حالة هجينة ليس فقط على مستوى الأداء العسكري بل في الجسم التنظيمي، وهكذا سيتعايش المبدئي المؤطر عقائديا، مع الشاب الراغب في القتال والمشترك في الآخرين من رفاقه في الإنتماء إلى البيئة الشيعية. هذه العبارة التي اختصرت تحول مجتمع المناطق الشيعية في الضاحية والجنوب والبقاع وبعض البقع الأخرى على امتداد الخريطة اللبنانية إلى ما يشبه الغيتو المغلق، وهو الذي سهّل لاحقا على إسرائيل عملية الاستهداف المباشر لهذه المناطق بينما يشاهد أهالي المناطق الأخرى، بمن فيهم الشيعة القاطنين خارج المربعات الحمراء، القصف من على شاشة التلفاز.

باختصار، كانت حرب سوريا معركة حزب الله لحفظ رأسه. كانت حربا وجودية للدفاع عن شريان الدعم والسلاح والأوكسجين. نجح الحزب في ذلك، لكنها كانت حربا خسر فيها روحه الأصلية، وتحولت كما في حالة العسكر والسياسة والدور إلى روح هجينة. هذه الروح التي دفعت التنظيم ليس لممارسة فائض القوة في السياسة والإجتماع فحسب، بل في أكثر المساحات حساسية وهي حربه مع إسرائيل، تلك التي كان حريصا لعقود ماضية على التقليل من أخطائه فيها، لأنه كان يدرك جيدا أن الخطأ فيها مكلف إلى حد كبير. استعراضات ما قبل الحرب خير دليل على ذلك.

حزب الله درة تاج المحور

جاءت حرب غزة في 6 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وبدأت معركة الإسناد في جنوب لبنان. وبينما الحزب وقيادته على قناعة بالقدرة على ضبط سقف الحرب، بحسب المصلحة، بتلقي الضربات في الصدر وبشكل نسبي في جغرافيا البيئة الشيعية المحاذية للحدود وبعض العمق في حالات الإغتيال، أخذت حسابات إسرائيل منحى آخر. هكذا وقع المحظور، وقلبت إسرائيل الطاولة على الحزب فيما يشبه لحظة 5 حزيران/يونيو 1967 المصرية. لكن حزب الله سلك مسارا مختلفا. فهو ليس دولة كما كانت مصر في عهد جمال عبد الناصر، لذا كان أيسر الحلول هو استيعاب الضربة والعودة التدريجية للعمل، بما تسمح به الظروف الميدانية والعسكرية من جرأة وإقدام، لكن بروح مختلفة.

تخلى الحزب بشكل سريع عن شخصية “سوبرمان” المقاومة التي لطالما ألهمت الفصائل المسلحة على امتداد المحور. فحتى لحظة الصدمة والترويع الإسرائيلية كان حزب الله درة تاج المحور، مصحوبا بآلة اعلامية تطبيلية تسبق أي خطوة يخطوها. هذه الآلة ما زالت تعمل حتى اللحظة بالأدوات التدميرية نفسها التي احترفت لسنوات العمل بها، وكانت جزءا من عملية تقويض الروح الأًصيلة التي نشأت على ازدراء الاستعراض، وحمت نفسها بالكتمان والتواضع. لعلَّ ما نُقل سابقا عن القائد العسكري التاريخي للحزب عماد مغنية بأن “الذي يقاتل فينا هي الروح” يعطي صورة عما حصل. فالروح التي كانت تقاتل سابقا تهجّنت وحلّ مكانها شعور مبالغ فيه بالقوة. شعور لا يشبه حزب الله الأصلي. الآن، وربما في ظل الظروف الموضوعية والبيئة الإستراتيجية والتحول الذي وقع عليها، يمكن لحزب الله استعادة سيرته الأولى، وروحه الأولى، او خلق روح جديدة تتقاطع مع الأولى لكنها قطعا ليست تلك التي سادت في العقد الأخير واعجبت كثيرين من المصفقين. لكن هل سيكون حزب الله الخارج من المعركة، بغض النظر عن طريقة خروجه منها، قادرا على إغراء الجماهير التي كانت ترى فيه البطل الهمام القادر على فعل كل شيء؟

يطرح هذا السؤال وسط معركة يخوضها اليوم بكلفة باهظة، بدأت بقائد المقاومة وقادة تاريخيين من الصف العسكري الأول. لذلك، فإن الإنجاز الحقيقي لحزب الله لن يكون نصر ميدان بقدر ما هو عبور في مساحة جهاد النفس وصياغة مشروع يضمن رفع المجتمع إلى مستوى الأهداف الإستراتيجية على كل الأصعدة لا التقهقر بالمعايير للوصول إلى الغاية.. هكذا يكون الخروج الآمن من النفق المظلم عبر السير مجددا في طريق ذات الشوكة.

(*) بالتزامن مع “جاده إيران

Print Friendly, PDF & Email
علي هاشم

صحافي وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الحريري ولغم باسيل: تعديل أو تغيير وزاري