بوتين “يلعبها” في أوكرانيا.. “رابح ـ رابح”!

مع تزايد التوتر على الحدود الروسية الأوكرانية، تناولت المراكز والمجلات والصحف الأجنبية الأسباب وراء حشد روسيا قواتها على حدودها مع أوكرانيا، وتحليل الخيارات المتاحة أمام الغرب للتصدي للتهديد الروسي، وتأثير ذلك على الأمن الأوروبي ومكانة الولايات المتحدة في النظام العالمي.. في ما يلي بعض ما نشرته المراكز والمجلات والصحف الأجنبية.

في بداية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حشدت روسيا قواتها على حدودها مع أوكرانيا وفي شبه جزيرة القرم، فيما يبدو أنه استعداد لغزو أوكرانيا، وفي مرة لا تعد الأولى، حيث نشرت روسيا قواتها بشكل مماثل في مارس/آذار وإبريل/نيسان الماضيين، زاعمة أن حشد القوات جاء لغرض إجراء مناورات عسكرية.

ينظر توماس رايت في مقاله في موقع ذي أتلانتك (10/12/2021) للأزمة على أنها عودة إلى صراعات “توازن القوى” والتي يتم وصفها بشكل عام تحت عبارة “تنافس القوى العظمى”. فهذا التنافس الاستراتيجي من حيث أن تقوم قوة بدفع الأخرى لخلق توازن في القوى في النظام العالمي كان قد انتهى بانهيار الاتحاد السوفيتي وتأكيد الولايات المتحدة هيمنتها. لذلك لم تحرك دولة ساكناً لوقف الغزو الأمريكي للعراق أو حتى دعم صدام حسين. لكن الأمر اختلف الآن، وعادت لعبة توازن القوى مع محاولات روسيا والصين موازنة القوة الأمريكية مخافة من التهديد الذي تفرضه الليبرالية الغربية على أنظمتهما؛ حتى حلفاء الولايات المتحدة يوازنون قواهم، فتركيا تتعاون مع روسيا عندما تكون في حاجة إلى ذلك، والسعودية والإمارات ما عادتا تخضعان تلقائيا للولايات المتحدة وهما تستخدمان قوتهما العسكرية حتى عندما تكون واشنطن غير مؤيدة لذلك. ويرى رايت أن قرار الدول استخدام القوة العسكرية للضغط على الولايات المتحدة هو بمثابة تحول كبير في النظام الدولي.

***

توماس رايت: حتى حلفاء الولايات المتحدة يوازنون قواهم، فتركيا تتعاون مع روسيا عندما تكون في حاجة إلى ذلك، والسعودية والإمارات ما عادتا تخضعان تلقائيا للولايات المتحدة وهما تستخدمان قوتهما العسكرية حتى عندما تكون واشنطن غير مؤيدة لذلك

كيف يمكن تفسير قرار فلاديمير بوتين بحشد قواته على الحدود الأوكرانية؟

يرى الكاتب والتر راسيل ميد في مقاله في صحيفة ذا وال ستريت (13/12/2021) أن بوتين يحظى بأزمة جميلة، سواء لتحقيق مصالحه الداخلية أو الخارجية. تحركات بوتين عزّزت مكانته السياسية وأجندته في الداخل، فالكثير من الروس يهتمون بأوكرانيا، أكثر من اهتمام الصين بتايوان، فأوكرانيا كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية لأكثر من 300 عام، ويعتبرها الكثير من الروس مهد الحضارة الروسية. وفي حين أن معظم الروس لا يؤيدون شن حرب طويلة الأمد على أوكرانيا، إلا أن لفت انتباه العالم لمشاعر الروس تجاه أوكرانيا تقوي من صورة بوتين أمام شعبه. إلى جانب ذلك، تعطي الأزمة الشعور بأن روسيا العظيمة تعود من جديد. فالكثير من الروس يحنون لأيام الإمبراطورية، والأزمة جعلت روسيا تتصدر عناوين الصفحات الأولى من الصحف العالمية. في عيون الكثير من الروس يعد ذلك انتصارا.

أما في ما يخص علاقته بالغرب، فقد ذكرت ناتيا سيسكوريا في مقالها المنشور في مجلة فورين بوليسي (13/12/2021) أن بوتين من خلال الأزمة حدّد الخطوط الحمراء لروسيا، بينما فشل الغرب في ذلك. فأعلن أن روسيا ستتحرك إذا نشر الناتو صواريخ في أوكرانيا، والحشد الأخير للقوات الروسية يرسل رسالة واضحة، أن الخيار العسكري مطروح. طالب بوتين الناتو بضمانات قانونية بوقف توسعاته أو نشر أسلحته بجوار روسيا، وعدم ضم أوكرانيا إلى الحلف. هذا يضع الغرب أمام مفترق طرق؛ إما خسارة مصداقيته أمام حلفائه وتقويض مصداقية التزام الناتو بمادته الخامسة التي تنص على اعتبار أي هجوم مسلح ضد أعضاء الناتو هو هجوم على جميع الأعضاء، أو تبني سياسات أكثر جرأة تجاه روسيا. ويتفق في هذا الكاتب نايجل دايفيس في مقاله المنشور في مجلة فورين بوليسي (9/12/2021)، فيرى أن روسيا التي لا تستطيع إجبار دول الناتو على ترك الحلف، يمكنها خلق أزمة تقوض من مصداقيته، وأيضا من مصداقية واشنطن والتزاماتها الصارمة بسيادة أوكرانيا.

والتر راسيل: الكثير من الروس يهتمون بأوكرانيا، أكثر من اهتمام الصين بتايوان، فأوكرانيا كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية لأكثر من 300 عام، ويعتبرها الكثير من الروس مهد الحضارة الروسية

وأوضحت ناتيا سيسكوريا كيف يحاول بوتين تأكيد سيطرته على المنطقة؛ فليس من قبيل المصادفة أن يتزامن ذلك مع تهديدات الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، غير المعترف به رئيسا من قبل الغرب، بقطع وصول الغاز إلى أوروبا ودفعه باللاجئين إلى الحدود البولندية والليتوانية، مما يزيد من عدم الاستقرار داخل الاتحاد الأوروبي. أزمة بيلاروسيا هي انتقام لوكاشينكو من الغرب، وهي أزمة تستخدمها روسيا لصالحها للفت الانتباه عن أوكرانيا وإضعاف الاتحاد الأوروبي. يحاول بوتين تأكيد هيمنة روسيا على المنطقة.

وفي مقال سابق له بعنوان “الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين”، أوضح بوتين أنه لا يمكن تحقيق سيادة حقيقية لأوكرانيا إلا بالشراكة مع الروس، وألمح إلى إمكانية ضم المزيد من الأراضي الأوكرانية، وبالتالي يريد اعترافا دوليا بأن أوكرانيا تقع ضمن منطقة النفوذ الروسي. وأثبت بوتين من خلال تحليق صاروخين أسرع من الصوت فوق المجال الجوي لبلاروسيا أن الأخيرة تقع في دائرة نفوذه. هذا إلى جانب ما أشارت إليه سيسكوريا من تعزيز روسيا تواجدها العسكري في دول جنوب القوقاز الثلاث؛ فاستمرار عدم الاستقرار بجورجيا، حليفة الغرب الموثوقة، يزيد من نفوذ روسيا، هذا إلى جانب تعزيز روسيا لوجودها العسكري بالمنطقة منذ حرب ناغورنو قره باخ الثانية في عام 2020. وأضاف دايفيس أن تحقيق روسيا للأسبقية في أوكرانيا سيوسع من النفوذ الروسي، ويفرض تهديدات جديدة على جيران أوكرانيا المنضمين للحلف؛ مثل رومانيا والمجر وسلوفاكيا وبولندا.

***

سيسكوريا: الدول الأوروبية تنقسم إلى معسكرين: دول تدافع عن سياسة استرضاء روسيا، مثل ألمانيا، ودول أخرى، مثل دول البلطيق، تطالب برد أكثر صرامة على التهديدات الروسية

ترى ناتيا سيسكوريا أن عدم وجود رد حازم من الغرب يعد انتصارا روسيا ويشرذم دول الاتحاد الأوروبي ويؤكد تراجع النفوذ الأمريكي بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان؛ فالدول الأوروبية تنقسم إلى معسكرين: دول تدافع عن سياسة استرضاء روسيا، مثل ألمانيا، ودول أخرى، مثل دول البلطيق، تطالب برد أكثر صرامة على التهديدات الروسية.

إقرأ على موقع 180  في اليمن كابوس سياسي وإنساني وعسكري لا ينتهي

أوضح الكاتب دميترو كوليبا في مقاله في مجلة فورين أفيرز (10/12/2021) أنه سيكون من الحماقة الاعتقاد بأن ضمانة عدم توسع الناتو أو حيادية أوكرانيا سترضي شهية بوتين. ففي الحالتين يفوز بوتين؛ إذا استسلم الغرب يسيطر بوتين على أوكرانيا وعملية صنع القرار في الناتو، إذا رفض الغرب مطالب بوتين، فستكون روسيا سعيدة أيضا لأنها ستجد الأرضية الأيديولوجية لغزو أوكرانيا بالعودة إلى وعود الغرب السابقة في نهاية الحرب الباردة بعدم توسع الناتو.

يرى الكاتب ريتشارد هاس في مقاله المنشور في موقع بروجيكت سينديكيت (14/12/2021) أن إدارة الرئيس جو بايدن تهدف إلى إقناع روسيا بعدم غزو أوكرانيا من خلال توضيح أن التكاليف ستفوق الفوائد، وأن بعض مخاوف روسيا يمكن معالجتها إذا تراجعت. وأوضح هاس كيف رأى البعض أن الرد الأمريكي جاء ضعيفا، إلا أنه يرى أن الجغرافيا والتوازن العسكري يجعلان الدفاع المباشر عن أوكرانيا شبه مستحيل، ويرى أن بايدن محق في استبعاد التدخل العسكري المباشر، ويرى أنه محق أيضا في توفير خيارات دبلوماسية؛ تم اقتراح العديد من الأفكار الجيدة مثل تكثيف المشاركة الدبلوماسية الأمريكية في عملية مينسك الدبلوماسية التي بدأت في أعقاب التدخل الروسي في شرق أوكرانيا في عام 2014، وسحب القوات الروسية والأوكرانية، والاستعداد لمناقشة بنية الأمن الأوروبية مع روسيا. ولكن في حال فشل ذلك وإقدام بوتين على غزو أوكرانيا، سيتعين فرض عقوبات وإلغاء خط غاز نورد ستريم 2 وفرض عقوبات على المؤسسات المالية الروسية والدائرة المقربة من بوتين، مع زيادة قوة حلف الناتو ومد أوكرانيا بالأسلحة. هذا ما يتفق معه أيضا توماس رايت في مقاله في ذي أتلانتك والكاتب كادري لييك في مقاله المنشور في موقع المجلس الأوروبي للشئون الخارجية (7/12/2021)، فيريان أن تفاقم تكاليف الحرب بسبب العقوبات الاقتصادية يؤدي إلى زعزعة علاقات روسيا مع كل الدول الغربية، ويزيد من تبعية روسيا الاقتصادية للصين ويضعها تحت رحمتها اقتصاديا وسياسيا.

ريتشارد هاس: في حال إقدام بوتين على غزو أوكرانيا، سيتعين فرض عقوبات وإلغاء خط غاز نورد ستريم 2 وفرض عقوبات على المؤسسات المالية الروسية والدائرة المقربة من بوتين، مع زيادة قوة حلف الناتو ومد أوكرانيا بالأسلحة

في مقاله، يقارن ريتشارد هاس بين غزو العراق للكويت، وبعدها الغزو الأمريكي للعراق، مع ما يحدث الآن على حدود أوكرانيا، فتواجد الروس على الحدود الأوكرانية قد ينتهي بشن حرب ستكون روسيا فيها خاسرة مثلما كان الحال مع أمريكا في غزوها للعراق. يتفق كوليبا مع ما طرحه هاس من فرض عقوبات وتعميق المساعدات العسكرية لأوكرانيا ولكن بدون نشر قوى أوروبية على الأرض، إلا أنه لا يرى أن هناك جدوى للدبلوماسية، والغرب يجب أن يوضح أن أوكرانيا جزء من الغرب وعضو مستقبلي في الاتحاد الأوروبي والناتو.

إلا أن الكاتب والتر ميد في مقاله نظر إلى العقوبات بشكل أوسع، موضحا المأزق الذي ستقع فيه الولايات المتحدة من خلال فرضها العقوبات على روسيا. بينما فرضت واشنطن عقوبات على تركيا لشرائها نظام الدفاع الجوي S-400، طلبت الهند من روسيا شراء نفس النظام، وإذا أصرت الهند على قرارها سيكون على بايدن فرض العقوبات، وإذا فرض عقوبات عليها ستغضب الهند، الشريك الرئيسي للولايات المتحدة في استراتيجيتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. إذا لم يفرض عقوبات عليها، فإن النفاق سيثير حنق تركيا ويضعف الناتو بشكل كبير. وبالتالي فإن إصدار بايدن لإعفاءات من عقوبات لشراء الأسلحة من روسيا في وقت تحاول فيه إدارة بايدن حشد الدعم لفرض عقوبات على روسيا سيجعل واشنطن تبدو سخيفة وضعيفة، وهذا هو نوع القرار الخالي من الربح الذي تريد روسيا إجبار الولايات المتحدة على اتخاذه.

والتر ميد: بينما فرضت واشنطن عقوبات على تركيا لشرائها نظام الدفاع الجوي S-400، طلبت الهند من روسيا شراء نفس النظام، وإذا أصرت الهند على قرارها سيكون على بايدن فرض العقوبات، وإذا فرض عقوبات عليها ستغضب الهند، الشريك الرئيسي للولايات المتحدة المحيطين الهندي والهادئ

وإذا أتى هذا الشتاء قارساً مهدداً بتجميد أوروبا بدون الغاز الروسي، سيستخدم بوتين هذا لصالحه، وهنا يتساءل ميد هل سيخاطر الاتحاد الأوروبي حقا بمقاطعة الغاز الروسي؟. وإذا زادت التوترات في الشرق الأوسط وزادت الصين من ضغوطها على تايوان مما يجبر أمريكا على التأهب، فهل سيكون للولايات المتحدة القدرة على التعامل مع الاستفزازات الروسية المنظمة بدقة ضد أوكرانيا؟.

تقول سيسكوريا في مقالها أنه من خلال التعبئة غير العادية للقوات على طول الحدود الأوكرانية، وتسليح تدفقات المهاجرين عبر بيلاروسيا، إلى النفوذ الروسي المتزايد في القوقاز، أثبتت روسيا موقفها العدائي، ويبدو أن بوتين مصمم هذه المرة على استغلال نقاط الضعف الحالية من خلال تأجيج الأزمات على عدة جبهات في نفس الوقت. وبينما يميل العديد من المراقبين إلى النظر إلى روسيا على أنها لم تعد قوة عظمى، فإن الكرملين يثبت أنه يمكن أن يخلق مشاكل ليس فقط في أماكن مثل جورجيا وأوكرانيا ولكن أيضًا على حدود الاتحاد الأوروبي.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
إبتهال أحمد

باحثة مصرية في الشؤون الدولية

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  للفساد والإفساد.. لبنان دليلكم!