كانت الصين، ولعقود مضت، تفضل أن تُبقي صلاتها بدول الشرق الأوسط مقتصرة على العلاقات الاقتصادية والتجارية، وبعيدة عن القضايا الدبلوماسية والأمنية التي غالباً تتفرد واشنطن في إدارتها من دون منازع.
لكن الأمور تغيرت الآن.
إن التقارب السعودي ـ الإيراني إنجاز كبير للدبلوماسية الصينية، وخطوة عملاقة على طريق رأب الصدع الحاصل بين أكبر وأقوى دول ضفتي الخليج. وهذا من شأنه أن يفتح الباب أمام المزيد من التقدم لإنهاء الحرب في اليمن، وحل الكثير من الملفات الشائكة الأخرى في المنطقة.
جاء الاتفاق السعودي الإيراني بعد سلسلة اجتماعات استمرت أسبوعاً بين أمين مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني ومستشار الأمن القومي السعودي مساعد بن محمد العيبان، برعاية عضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ورئيس مكتب اللجنة المركزية للشؤون الخارجية الصينية وانغ يي. وكان العراق وسلطنة عُمان أيضاً قد رعيا محادثات سابقة بين مسؤولين إيرانيين وسعوديين.
تزامن كل هذا مع التقرير السنوي الذي يصدره مجمع وكالات الإستخبارات الأميركية حول التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة، والذي يضع الصين في خانة “الخصم العالمي الرقم واحد”. كما تزامن مع تصويت مجلس الشعب الصيني على منح الرئيس شي جين بينغ ولاية ثالثة، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ البلاد.
في تصريح أدلت به لـ”المونيتور”، قالت باربرا ليف، مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية، إن واشنطن لا تسعى إلى حرب باردة، ولا تطلب من شركائها اتخاذ موقف ضد بكين، ولكنها بدلاً من ذلك ستعطي الأولوية لمنع الصين من الوصول إلى التكنولوجيا الأميركية.
السعودية تلعب أوراقها الخاصة
لا شك أن نجاح الوساطة الصينية قد شكّل نقطة تحول مهمة جداً في العلاقات الإقليمية والدولية. وهذا النجاح يعني أن بكين على استعداد تام لتعميق علاقاتها ليس فقط مع إيران وروسيا، بل وأيضاً للعب دور في مساحات كانت حتى الأمس القريب “مُلزمة” لواشنطن.
الإتفاق هو بالطبع ذو اتجاهين، أو حتى ثلاثي الاتجاهات. وربما رُباعي أيضاً إذا ما اعتبرنا أن روسيا هي أيضاً جزء من المشهد العام.
السعودية، من جانبها، تُظهر نهجاً أكثر استقلالية من خلال طريقتها في اللعب بالورقة الصينية. فقد تزامن الإعلان عن الإتفاق مع نشر صحيفة “وول ستريت جورنال” تقريراً يكشف عن أن المملكة قد سعت من أجل الحصول على ضمانات أمنية أميركية ومساعدات نووية في مقابل إحراز تقدم في ملف تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وفي الوقت نفسه، كان وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، في زيارة رسمية إلى موسكو، وهي علامة أخرى على أن الرياض لا تتخلى عن حليفها الرئيسي في مجموعة “أوبك بلاس”.
روسيا وإيران والصين
تنظر إيران إلى روسيا والصين باعتبارهما عمقها الإستراتيجي، نظراً لعلاقاتها العدائية مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. ومع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية (العام المقبل) تتوقع طهران أن يتخذ الجمهوريون موقفاً أكثر تشدداً تجاهها، خصوصاً وأن المعطيات المتوفرة حالياً تشي بأن التوصل إلى اتفاق نووي مع واشنطن والغرب يبدو بعيد المنال في المدى المنظور.
تعتبر إيران نفسها لاعباً دولياً، وليس مجرد لاعب إقليمي. ودورها يمتد عبر آسيا كما في الشرق الأوسط (…). كما أنها ما كانت لتعتبر السعودية مصدر أي نوع من التهديد لو لم تكن الشريك والوكيل الرئيسي لواشنطن في المنطقة. لذلك، هي تريد؛ من خلال الاتفاق؛ إزاحة “حجر السعودية” من رقعة الشطرنج.
أصبحت روسيا عنصراً محورياً في تعميق التوتر بين واشنطن وطهران، لا سيما بعد الدعم الإيراني لها في حربها ضد أوكرانيا.
وفي هذا الخصوص، قالت ليف لـ”المونيتور” إن “إيران دخلت ساحة المعركة الأوروبية بطريقة مدمرة للغاية، من خلال بيع طائرات حربية مسيَّرة لروسيا”، واصفة موسكو وطهران بـ”منبوذين، تكاتفا مع بعضهما البعض من أجل إحداث فوضى”.
لكن ميخائيل إيفانوفيتش أوليانوف، الممثل الدائم لروسيا لدى المنظمات الدولية في فيينا، نفى؛ في حديث لـ”المونيتور”؛ أن تكون بلاده قد اشترت طائرات حربية مسيَّرة من إيران، واصفاً التقارير التي تتحدث عن هكذا صفقة بأنها “مجرد تكهنات، ولا أساس لها من الصحة”.
مسؤول إيراني كبير: الخطوة التالية بشأن صفقة تبادل الأسرى تعتمد على الولايات المتحدة
كذلك نفى مسؤولون إيرانيون تحدثوا لـ”المونيتور” ان تكون طهران قد زوَّدت موسكو بطائرات حربية مسيَّرة، لكنهم أكدوا إستعداد بلادهم لإجراء محادثات منفصلة بشأن الحرب في أوكرانيا.
إن علاقة إيران مع روسيا أقوى من علاقتها مع الصين. فهي ليس لديها مصلحة حيوية في أوكرانيا، لكن لديها مصلحة في الحفاظ على علاقة متينة مع روسيا من أجل مواجهة الولايات المتحدة معاً. ومع ذلك، لطالما كانت العلاقات الإيرانية-الروسية بمستوى “مصافحة” أكثر منها “احتضان”. كل هذا يتوقف أيضاً على الحرب في أوكرانيا. قد تكون إيران منفتحة على إتفاق أفضل، أو أن تستمر في المسار الذي تتخذه الآن إلى حين التوصل إلى سلام عن طريق التفاوض، وهو ما تقول إنها تدعمه.
تبادل الأسرى
في اتصال هاتفي أجراه مع شبكة “سي. إن. إن.” من سجن إيفين في طهران؛ حيث يحتجز منذ عام 2015، بتهمة التخابر لصالح دولة معادية (أميركا)؛ ناشد الأميركي من أصل إيراني، سياماك نمازي، الرئيس الأميركي، جو بايدن، التدخل لإطلاق سراحه وسراح مواطنين أميركيين آخرين، وأن يضع حياة وحرية الأميركيين الأبرياء فوق كل السياسات ذات الصلة.
وكان نمازي (51 عاماً) يتحدث نيابة عن نفسه وعن مُراد طُهباز (67 عاماً) وهو خبير في البيئة ويحمل الجنسيتين الأميركية والبريطانية، وكذلك عن عماد شرقي (58 عاماً) وهو رجل أعمال ومواطن أميركي. وهذان الإثنان معتقلان منذ 2018 و2020 على التوالي (…).
وقال مسؤول إيراني كبير، طلب عدم ذكر إسمه، لـ”المونيتور” إن “طهران وافقت على إتمام المكالمة الهاتفية بين نمازي والشبكة الأميركية “من منطلق إنساني بحت”، و”لا يوجد أي هدف سياسي من ورائها”.
ومع ذلك، يمكن الإستنتاج من المكالمة/ المناشدة أن صفقة لتبادل السجناء بين إيران والولايات المتحدة باتت وشيكة وأقرب من أي وقت مضى، ومن المحتمل أن تشمل الإفراج عن ما يصل إلى 7 مليارات دولار من الأصول الإيرانية المجمدة لدى كوريا الجنوبية.
وقال المسؤول الإيراني الكبير لـ”المونيتور”: “من جهتنا، نحن كنا على إستعداد لإتمام صفقة تبادل الأسرى منذ ما يقرب من عامين. يمكنك أن تسأل واشنطن عن الخطوة التالية”.
في كل الأحوال، لقد نجحت المحادثة التي أجرتها شبكة “سي. إن. إن.” مع السجين نمازي في إثارة الجدل وزيادة الضغط على بايدن لتأمين إطلاق سراح الثلاثة. وكان الرئيس الأميركي قد تحدث مع سلطان عُمان، هيثم بن طارق آل سعيد، بشأن هذه القضية يوم الثلاثاء الماضي. وإذا نجح الطرفان في إتمام صفقة لتبادل الأسرى بينهما، فهذا سيمنحهما غطاءً إنسانياً حيوياً وسياقاً مهماً يساعدهما في إتمام صفقة سياسية، خاصة إذا أفرجت واشنطن عن مليارات الدولارات من الأصول الإيرانية المجمدة.
تحول في الملف النووي
في الوقت نفسه، قد يعود الإتفاق النووي الإيراني، وربما تعود خطة العمل الشاملة المشتركة أيضاً.
مرة أخرى، استطاعت طهران تفادي إنذار من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعدما وافقت في بيان مشترك وقعته في الأسبوع ما قبل الماضي مع المدير العام للوكالة رافائيل غروسي، على السماح لمفتشي الوكالة القيام طوعاً بمزيد من أنشطة التحقق والمراقبة عند الحاجة، “ومتابعة القضايا العالقة المتعلقة بترتيبات الضمانات في ثلاثة مواقع”، وهو النزاع الذي أصبح “حجر عثرة” أمام إيران في مفاوضات خطة العمل المشتركة الشاملة.
وكان غروسي قد زار إيران، يومي 3 و4 آذار/مارس، بعد تصاعد المخاوف جراء العثور على جزيئات من اليورانيوم المخصب بنسبة 83.7٪، أي أقل بقليل من مستوى 90٪، في إحدى المنشآت النووية الإيرانية.
وكما سبق لـ”المونيتور” أن كشفت في وقت سابق، فإن إيران ستبقى ملتزمة باجراءاتها الوقائية بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية حتى في غياب خطة العمل الشاملة المشتركة.
ومن المقرر متابعة المناقشات الفنية في إيران في غضون 7-10 أيام، بحسب ما صرح غروسي.
هناك القليل من الوضوح في كل هذا. فقبل عام واحد فقط، اتفقت الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإيران على “خارطة طريق” لحل مسائل الضمانات المعلقة، والتي انهارت لاحقاً. وإيران اشترطت حل هذه القضية قبل استئناف محادثات خطة العمل الشاملة المشتركة.
إذا حققت الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإيران بعض التقدم في ملف الضمانات، فقد يشير ذلك إلى التقدم خطوة باتجاه العودة إلى الدبلوماسية النووية وفق ترتيب “القليل مقابل القليل” في غياب خطة العمل الشاملة المشتركة.
وإذا تم تنفيذ اتفاق الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإيران، “فسيكون ذلك إيجابياً لخطة العمل الشاملة المشتركة، لأنه سيجعل من السهل العودة إلى الاتفاق النووي”، كما قال الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية في الإتحاد الأوروبي، إنريك مورا لـ”المونيتور”.
وهذا ما أكده أيضاً لـ”المونيتور” الممثل الدائم لروسيا لدى المنظمات الدولية في فيينا، أوليانوف، قائلاً: “إذا استؤنفت المحادثات، فلن تكون هناك مشكلة بالنسبة لنا للعمل مع جميع الأطراف الأخرى المعنية”.
وقالت ليف (مساعدة وزير الخارجية الأميركية): “من الواضح أن لا شيء يعتمد علينا.. إيران قدمت تعهداتها، وسنرى ما إذا كانوا سيلتزمون بما تعهدوا به”.
– النص بالإنكليزية على موقع “المونيتور“.
(*) أندرو باراسيليتي، من أسرة “المونيتور”. تولى عدة مناصب أكاديمية وبحثية، منها المدير التنفيذي للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في واشنطن، ومدير البرامج في معهد الشرق الأوسط.