مقولة “الأفول” الأمريكي.. “النموذج” بلا جاذبية!

إن الحديث عن "التراجع" أو "الانهيار" أو "الانحدار" الامريكي بات موضوعًا متداولًا في الأدبيات السياسة العالمية، ومنها الأمريكية، منذ مطلع الألفية الثانية تقريبًا، علمًا أن هناك من يبدأ التأريخ لعملية التراجع من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية كالمفكّر السياسي الأمريكي، نعوم تشومسكي.

تتوافق هذه الرؤية مع ما طرحه الأكاديمي الأميركي، بول كينيدي، عام 1987، في كتابه “صعود وسقوط القوى العظمى” حول أفول العصر الأمريكي. وقد قام كينيدي بمقاربة شبيهة لما قام به الفيلسوف العربي، عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406) في مقدمته الشهيرة التي أسّست لعلم الاجتماع، وتناول فيها صعود الحضارات وسقوطها. ومثلما تحدّث الأخير عن مسار انهياري للدول بعد مسارها التصاعدي عند بلوغ نقطة معينة من ذروة النفوذ والقوة، فقد خلص كينيدي إلى أنّ أفول بلاده يكاد يكون حتميًّا بسبب التوسّع الزائد عن الحد (overstretch) في فرض النفوذ، حالها في ذلك ما أصاب غيرها من الدول قبلها.

لاحقًا، تتالت الكتابات التي تضع احتمالات تدهور مركز الولايات المتحدة في العالم موضع بحث وتحليل. ولعلّ كتاب منظّر الحرب الناعمة، جوزيف ناي، “هل انتهى القرن الأمريكي”؟ من أبرز الكتب التي سعت لتفنيد مقولة الانهيار الأمريكي. غير أنّ الحديث عن موضوع “الأفول” ليس مجرد ترف نظري بل يستند إلى وقائع علمية، وثمة طروحات أمريكية تدعمها استطلاعات “مركز بيو للأبحاث” في العام 2014، والتي قالت إن 28% فقط من الأمريكيين يعتقدون أن بلدهم لا يزال محافظًا على مكانته في صدارة العالم، وهذا يؤشر إلى انخفاض ملحوظ عن نتائج عام 2011 التي بلغت 38%، آنذاك.

على الرغم من أن نسبة تعداد سكان الولايات المتحدة تبلغ 4.4% من نسبة سكان العالم، إلا أنها تملك 42% من الأسلحة الفردية، وتحتل المركز الأول بين دول الدخل المرتفع بمعدلات الموت بالسلاح الفردي

ولعل من أوضح ما قيل حول الانحدار الامريكي هو التحذير الذي أطلقه سكرتير الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عام 2018 في مقابلة مع “ذا أتلانتيك” بقوله “إن جاذبية المجتمع الأمريكي التي كانت عاملًا مسيطرًا منذ عقود عدة قليلة أصبحت اليوم أقل وضوحًا”. يومها علّق الكاتب الأمريكي، ألكس وورد، على العبارة في مقال له على موقع فوكس بتاريخ 14 أيلول/سبتمبر 2018، بعنوان “انحدار قوة أمريكا في عبارة واحدة”، بالقول إن بريق المجتمع الأمريكي لم يعد مقنعًا للعالم كما كان يومًا، ما يؤدي إلى إضعاف قوة أمريكا. وليس بعيدًا من غوتيريش، استبق أستاذ التاريخ في جامعة ويسكونسين، البروفسور ألفرد وو. ماكوي، الإقرار بتلاشي القوة العالمية الهائلة لواشنطن في مقالته، “المعنى الخفي للانحدار الأمريكي” في أيار/مايو 2018.

يتوزّع منطق تفسير هؤلاء الباحثين والكتّاب ما بين عوامل خارجية، من قبيل نشوء القوى الصاعدة وانتهاء القطبية الآحادية، وأخرى داخلية شكّلت عوامل مساعدة كسياسة الرئيس دونالد ترامب والتوجهات الانعزالية في الساحة العالمية.

في السياق الاجتماعي، لا خلاف حول تأثير الأزمات المجتمعية الداخلية في تضاؤل قوة الولايات المتحدة، علمًا أن أغلبية المحللين تركّز على تأثير أحداث السنتين الأخيرتين من عهد ترامب في ازدياد وتيرة فقدان “البريق” الأمريكي لا سيما مع سياسات التخبط والازدواجية والفساد والفشل في إدارة جائحة كوفيد-19 داخل الولايات المتحدة وخارجها.

إنّ ما سجّلته الاحتجاجات الأمريكية على مقتل المواطن الأمريكي من أصل أفريقي، جورج فلويد، من تشابه وتماثل مع مضامين نزاعات الحقوق المدنية التاريخية في ستينيات القرن الماضي، رأى فيه بعض الخبراء نقطة تحوّل في تاريخ الولايات المتحدة. فقد كشفت تلك التظاهرات حدّة الانقسامات الاجتماعية في المجتمع الأمريكي، كما ترجمت مدى تجذّر مفاهيم العنصرية والتمييز العرقي واللامساواة في المجتمع الأمريكي الحديث؛ لتسقط بذلك زيف الهالة الأمريكية في ادّعاء الديمقراطية والمطالبة بحقوق الإنسان والمساواة والحرية. ومع انزلاق “هيبة” بلد قدّم نفسه على أنه “منارة للديمقراطية” حول العالم ومع تداعي ما يدّعيه من مُثل وقيَم يريد أن يحققها في العالم في وقت هو يفتقدها ويعاني من خلل بنيوي في مضامينها، يتبيّن حجم الفقاعات التي عملت واشنطن لعقود على تعليب سياسات الهيمنة والتحكّم بمصائر الشعوب بها.

تطول لائحة الأزمات المجتمعية في الولايات المتحدة، في وقت ما زالت فيه واشنطن تعيش وهم قيادة العالم والقدرة على الانطلاق من جديد بعد معالجة أولويات الداخل. ويشاهد العالم مؤخرًا أبشع سيناريوهات العنف خارج عالم السينما أو العالم الافتراضي مع جرائم إطلاق النار الجماعي التي تحدث يوميًّا في مختلف الولايات المتحدة، وأبشعها الجرائم ضد الأطفال وفي حرم المدارس والأماكن العامة المفترض أنها آمنة. قد يكون صادمًا ما يورده موقع “ريديرز دايجست”، نيويورك، من احصائيات حول عنف السلاح، ومنها أنّ عدد القتلى الأمريكيين يبلغ 40 ألفًا سنويًّا منذ العام 2016، ما يكلّف الدولة الأمريكية 229 مليار دولار سنويًّا؛ تتوزع بين تكاليف صاحب العمل والدخل المفقود والرعاية الصحية ونفقات الشرطة والعدالة الجنائية. وعلى الرغم من أن نسبة تعداد سكان الولايات المتحدة تبلغ 4.4% من نسبة سكان العالم، إلا أنها تملك 42% من الأسلحة الفردية، وتحتل المركز الأول بين دول الدخل المرتفع بمعدلات الموت بالسلاح الفردي.

إقرأ على موقع 180  دماء على طريق الصين وروسيا إلى "معادلة القمة"!

تُشبّه دوافع الجرائم ببناء متعدد الأبعاد تتداخل فيه العديد من مفاهيم النمذجة والتعلّم والتقليد والتجربة والخطأ والتقدير الذاتي وتكييف السلوك، وهي تختلف من فرد لآخر، وعلى اختلاف المدارس ما بين علم النفس والاجتماع. الأولى ترى في جرائم العنف ظواهر نفسية سلوكية تعود لكوامن خاضعة لاختلال معين في عناصر شخصية القاتل أو الظروف المحيطة به؛ ما يجعل الحالة العقلية في حالة اعتلال غير سوي واضطراب. أما الثانية فتأخذ بالاعتبار العوامل الخارجية المؤثرة في ارتكاب تلك الجرائم، سواء البيئة أو الظروف المحيطة أو نمط الحياة السائد. وفي هذا المستوى الكلي والعام من التحليل، يمكن رصد ثغرات عدة في المجتمع الأمريكي تساهم باتجاه رفع نسبة الجريمة لما تولّده من اعتلالات داخلية وخارجية على حدّ سواء، تدفع نحو فقدان السيطرة، وتاليًّا، تؤدّي تدريجيًّا وبشكل غير مباشر إلى المزيد من “الانحدار” أو “الأفول” الأمريكي، وتعكس أكثر فأكثر تلاشي القوة وضعف النفوذ.

ترتبط الجرائم بظروف المجتمع وخصائصه، بعيدًا عن وجود حالات شاذة مرضية وإن كان لها مرجعية مجتمعية نسبية، ويكاد لا يخفى على أحد ما يعانيه المجتمع الأمريكي من انحلال في المستويات الثقافية والأخلاقية والقيَمية في مقابل انشغال أقصى بالحياة المادية، ما يؤدي إلى تفكك أسري ينبئ بتفكك المجتمع؛ الخطر الذي دفع الى رفع الصوت في ضرورة كبح التفلّت الأخلاقي بكل مظاهره. في هذا السياق، يحذّر الكاتب تيرنس جيفري في مقال له في موقع “ديلي سيغنال”، في شباط/فبراير 2022، بعنوان “40%.. أمة بلا أب”، من أن الولايات المتحدة الأمريكية تسير باتجاه خاطئ معاكس للطبيعة، فقد ارتفعت نسبة الأطفال من أمهات غير متزوجات منذ العام 2008 وحتى العام 2020 فوق 40%، متسائلًا عن تأثير جيل سيبلغ سن الرشد مفتقدًا للحياة الأسرية التقليدية.

لا يمكن لأحد إنكار الخلل الموجود في تشريعات السلاح وفق القانون الأمريكي، لكن الخلل الأكبر هو في فقدان العاطفة الأسرية وإهمال الإشباع العاطفي وتوالد الرغبة بالانتقام والثأر والتعبير العنيف. وتمتدّ هذه الاعتلالات وتنضج في المجتمع الأوسع خارج محيط العائلة؛ المجتمع المزدوج المعايير الإنسانية والحقوقية والمتعاظمة فيه ثقافة العنف والتنمّر وتقبل تعنيف الأضعف التي تغذّيها تجارة الإنتاج الإعلامي العنيف لحصد أعلى نسب الأرباح، بالتوازي مع حياة عبثية تفتقد الهدف في كثير من الأحيان، ما ينمّي الشعور بالسلبية ويدفع باتجاه فقدان السيطرة وارتكاب أبشع الجرائم.

عدد القتلى الأمريكيين يبلغ 40 ألفًا سنويًّا منذ العام 2016، ما يكلّف الدولة الأمريكية 229 مليار دولار سنويًّا؛ تتوزع بين تكاليف صاحب العمل والدخل المفقود والرعاية الصحية ونفقات الشرطة والعدالة الجنائية

إنّ المؤشرات الاجتماعية في اعتلال المجتمع الأمريكي، والظاهرة في جرائم العنف والكراهية والعرقية، لا يمكن تجاوزها والقول بأن الكلام عن مسيرة “أفول” الولايات المتحدة وانحسار نفوذها تقييمات غير واقعية. فالمجتمع الأمريكي أمام تحديات هائلة وينتظر البدائل في المعالجة، التي إن لم تتوفّر قد تضع المجتمع برمّته أمام تحوّل نوعي في المرحلة المقبلة. وتاليًّا، قد يكون التاريخ الحديث على موعد مع انتهاء حقبة الهيمنة الأمريكية في كيّ الوعي الجمعي في التعامل مع الولايات المتحدة على أنّها “الإمبراطورية” النافذة السلطة والطاعة. ولعلّ من أهم عوامل المصير الحتمي في انفكاك القوة الأمريكية، إذا ما تمّ تطبيق منطقيْ ابن خلدون وكينيدي، كما مرّ أعلاه، هو افتقار الولايات المتحدة إلى الثوابت الحضارية والمرتكزات الفكرية المتلائمة مع متطلبات النفس الإنسانية في حياتها البشرية، وفي مقدمتها العائلة التقليدية والتماسك العائلي نواة المجتمع الناجح.

خلاصة القول، إنّ الريادة العلمية التي تفتقر إلى الانسجام والاتساق مع المعايير الثقافية السويّة تُنشئ حيزّا من التناقضات والتضادّات يكون المجتمع والإنسان ساحة الصراع في ما بينها، ما قد ينجم عنه انهيار ذاتي من الممكن أن تتسارع وتيرته أحيانًا أو تبطأ أحيانًا أخرى.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

أستاذة جامعية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الصحافة الإسرائيلية عن "حرب الظلال": ما بعد "القنصلية" ليس كما قبله!