المهاجرون في أمريكا.. سرُّ عظمتها

عظمة أمريكا كانت وما تزال باحتضان المهاجرين الذين يتدفّقون إليها سنويّاً بعشرات الآلاف، ومعظمهم من المتعلّمين الذين يُثرون مؤسساتها وشركاتها وجامعاتها ومصانعها ومصارفها وإعلامها، وبالتالي يُساهمون في توطيد هيمنتها على العالم. ومع ذلك، يستمرّ الحديث عن "خطر" المهاجرين، في خطاب شعبوي هو مزيجٌ من الهوس المرضي (فردي وجماعي) والعنصريّة والدجل السياسي الخبيث!

لا يمكن أن يمرّ يوم لا يتحفنا فيه سياسي أو رجل دين أو معلّق إجتماعي أمريكي برأيه التافه (وللأسف، رأي مؤثّر) عن المهاجرين – “شرعيّين” أو “غير شرعيّين” – وعن خطرهم على حاضر أمريكا ومستقبلها. هذا الأمر ينقسم حوله المجتمع الأمريكي بين مؤيّد لسياسة صارمة حيال المهاجرين ومعارض لها، لكن الأغلبيّة تؤيّد درجات من الصرامة في التعامل مع موضوع الهجرة. والدليل على ذلك أنّ ترحيل المهاجرين “غير الشرعيّين” في فترة رئاسة دونالد ترامب كان مطابقاً – استراتيجيّةً وأسلوباً ووتيرةً وعدداً – لما كان عليه في فترة باراك أوباما، واستمرّ الأمر على نفس المنوال في فترة جو بايدن الحاليّة. ويتقاطع رجم المهاجرين مع إشكاليّة مفادها أنّ أمريكا تعلم أيضاً أنّ مستقبلها متعلّق بالمهاجرين (شرعيّين أم غير شرعيّين)، فهؤلاء ـ وهنا المفارقة أو التناقض ـ يؤمّنون استمراريّة نظامها المبني على رأسماليّة متوحشة بكل معنى الكلمة.

***

موضوع المهاجرين هو موضوع دسم سياسيّاً ويمكن توظيفه في خدمة أهداف سياسيّة خبيثة حتّى عند من يعرفون جيّداً أنّهم من دون هذه الشريحة لا يمكن للكماليّات والإمتيازات التي يحصلون عليها أن تستمرّ. خطورة الأمر تكمن في وجود إرادة عند السياسيين الرافضين له بعدم ايجاد حل له، ليس لأنّهم عاجزين عن ذلك، بل لأنّهم يستخدمونه لأجل التلاعب بعواطف الناخبين عامّةً والمؤيّدين لهم خاصّةً (بغضّ النظر عمّا إذا كانوا مع أم ضدّ الهجرة).

وما دفعني لإثارة موضوع المهاجرين هو الآتي: ذهبتُ، قبل أيام قليلة، بصحبة زوجتي لمشاهدة عرض موسيقي لفرقة “ماسالا جاز” (Masala Jazz) في مقهى النعجة السوداء في بلدة أمهرست القريبة من مدينتنا. الفرقة مؤلّفة من الصديق ميشال مُشَبّك من أصل فلسطيني (من القدس). ولد في لبنان وهاجر منه إلى الولايات المتّحدة في سنة 1979 للدراسة وبقي فيها. ميشال هو من وجوه الجالية العربيّة في أمريكا، وقام مركز أكسس (Arab Community Center for Economic & Social Services) بتكريمه بوصفه “شخصيّة العربي-الأمريكي للعام 2024”. هو كاتب وناشر يملك دار إنترلينك (Interlink) للنشر في نورثهامبتن في ولاية ماساشوستس. هو أيضاً موسيقي بارع، ويلعب آلات الإيقاع ببراعة عالية وآلة العود أيضاً، ومن مؤسّسي “فرقة ليالي” للموسيقى العربيّة والتي تقيم حفلات كثيرة في أمريكا، خصوصاً في منطقة نيو إنغلند. له ألبوم “الأغاني الفلسطينيّة المفقودة” (Lost Songs of Palestine) وبعض الكتب أيضاً.

دخلنا المقهى ووجدنا أعضاء فرقة “ماسالا جاز” يلعبون موسيقى الجاز الأمريكي. ميشال يطرق بأصابعه على صندوق الإيقاع، وبقربه أيضاً دف وطقم الدرامز يتنقل بينهم وفق متطلّبات كل لحن موسيقي. إلى جانبه، جلس سيرينام سينغ خالصة يلعب على الغيتار الإلكتروني. وسيرينام هو مدرّس ثانوي، متخصّص في تعليم اللغة الإنكليزيّة، وهو أيضاً مهاجر من إيطاليا، اعتنق الديانة السيخيّة عندما ذهب إلى الهند بقصد الدراسة. وما يُميّز سيرينام، علاوة على براعته في اللعب على الغيتار الإلكتروني، عمامته ولحيته الطويلة البيضاء التي يعتني بها جيّداً. وكان يساعدهم شاب أمريكي يلعب على غيتار إلكتروني أيضاً، لكن دوره اقتصر على اتباع النغم العام لكل قطعة لعبوها، بينما قام ميشال وسيرينام ببعض الإرتجالات الموسيقية، وهذا الأمر في صلب موسيقى الجاز.

الهجرة إلى أمريكا ليست دائماً تجربة رائعة، وليست أيضاً نتاج خيارات مفتوحة ووفرة ماليّة. معظم المهاجرين كانوا مجبورين على الإنتقال من بلادهم بحثاً عن حياة أفضل لهم ولعائلاتهم، أو هرباً من الحروب والتمييز أو عوامل أخرى. سخرية القدر هنا أنّه في معظم الحالات، هذه العوامل هي نتاج للسياسة الأمريكيّة الخارجيّة، تحديداً في أمريكا اللاتينيّة

استوقفني هذا المشهد واستوقفني أكثر نوع الموسيقى التي كانوا يلعبونها، ليس لغرابته بل لمضامينه لا سيما أنّه يحصل في بلدة أمهرست تحديداً. هذه البلدة تتميز بتاريخ غير مشرّف، لكن حاضرها مختلفٌ. تأسّست أمهرست في سنة 1759 وسميّت نسبةّ لقائد الجيش البريطاني في أمريكا الشماليّة في وقته، اللورد جفّري أمهرست (1717 – 1797)، وهو مشهور بأنّه كان يُسمّم الأغطية بوباء الجدري ويهديها إلى “الهنود” في منطقة نيو إنغلند، الأمر الذي أدّى إلى مقتل الآلاف منهم. لكن أمهرست الحاليّة هي بلدة تقدّميّة، تعترف بتاريخها الأسود وترفض عنصريّة أمريكا والمشاكل التي تحصل نتيجة لسياساتها (في الداخل والخارج)، ولها أيضاً موقف رائد في موضوع إرث نظام العبوديّة في أمريكا وضرورة الإعتراف به والتعويض عن المتضرّرين.

هذا التغيّر في أمهرست لم يحصل صدفةً، بل لعب المهاجرون دوراً كبيراً في تأسيسه وتطويره وتراكمه.

المفارقة الأخرى أنّ فلسطيني-لبناني-أمريكي وإيطالي-هندي-أمريكي وأمريكي (لم أعرف بقيّة تفاصيله) كانوا يجلسون سويّةً؛ يلعبون موسيقى اخترعها المُستعبَدون السود في أمريكا. بمعنى آخر، موسيقى الجاز هي موسيقى المهاجرين. ومن الواضح لمن يعرف ميشال تحديداً أنّه فخور بأصله وبالموسيقى العربيّة الكلاسيكيّة والشعبيّة (أضف إلى حبّه لموسيقى الجاز، الفلامينكو، وغيرهما). إذاً، هم ليسوا كارهين لأصلهم، ولا مُتصنّعين لحضارة تريد سلب هويّاتهم وفرض هويّات أخرى عليهم. على العكس من ذلك، باختيارهم للجاز، هم يقولون إنّ الجاز عالميٌ، يتشارك فيه المهاجر الحديث والمهاجر الأقلّ حداثةً والمهاجر القديم وأهل البلاد الأصليّة.

إقرأ على موقع 180  سوريّا.. الخاصرة الهشة في الحرب الكبرى!

تملّكني في تلك اللحظة شعورٌ بالفخر بالمهاجرين في أمريكا وكيف أنّنا كثيراً وبالغالب نجعل من هذا البلد أجمل ممّا هو على حقيقته. فالمهاجرون لا يُغْنون البلد بالحضارات والقدرات والأفكار التي يحملونها معهم فقط، بل يجعلونه بلداً أكثر إنسانيّةً وانفتاحاً. ومع ذلك، فالمهاجرون دائماً في قفص الإتّهام.

***

أنتقل من فرقة “ماسالا جاز” إلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، والحديث المستمرّ عن الهجرة والمهاجرين في سياق الحملات الانتخابية. هذا ليس بأمر جديد أو استثنائي. كما قلت سابقاً، هو موضوع كان دائماً من الأمور الخلافية، غير أن إدارة بايدن تنتهج السياسات القذرة نفسها التي انتهجتها إدارة كل من ترامب وأوباما، وتواجه التحديات ذاتها التي واجهتها الإدارات السابقة: صعوبة في احتواء تدفّق المهاجرين، خصوصاً في الولايات المحاذية للمكسيك؛ مشاكل في مراكز الإستقبال (والتي أُفضّل وصفها على حقيقتها: مراكز احتجاز وتحقير)؛ عدم كفاءة نظام تعقب المهاجرين عندما يغادرون مراكز “الإستقبال”، إلخ. أضف إلى ذلك التحدّيات الكبيرة التي تواجهها مدن كبرى (مثل نيويورك وشيكاغو وبوسطن وغيرها) في استقبال وإيواء المهاجرين.

هذه التحديات مطلوب منها أن تبقى على الطاولة وفي ساحة الاعلام والسوشيل ميديا. والسبب أنّ السياسيّين الأمريكيّين يتعاملون مع الأمر وفق القول الأمريكي المشهور “They want to have their cake and eat it too”، ومعناه أنّهم يريدون الإحتفاظ بقالب الحلوى وأكله في الوقت نفسه.. وهذا قمّة النفاق.

***

الهجرة إلى أمريكا ليست دائماً تجربة رائعة، وليست أيضاً نتاج خيارات مفتوحة ووفرة ماليّة. معظم المهاجرين كانوا مجبورين على الإنتقال من بلادهم بحثاً عن حياة أفضل لهم ولعائلاتهم، أو هرباً من الحروب والتمييز أو عوامل أخرى. سخرية القدر هنا أنّه في معظم الحالات، هذه العوامل هي نتاج للسياسة الأمريكيّة الخارجيّة، تحديداً في أمريكا اللاتينيّة. ووجود المهاجرين في الولايات المتحدة هو في معظم الحالات أمر إيجابي، وذلك لأنهم يوفّرون عمالة رخيصة، ويساعدون في إثراء التنوع العرقي في المجتمع الأمريكي. والأهم من ذلك أن المهاجرين يعملون في مهن يرفض معظم الأميركيين القيام بها، مثل الزراعة والإنتاج الحيواني، جمع القمامة وفرزها، الشحن، البناء، الدهان، العناية بالحدائق، والتعليم إلخ..

وثمة مفارقة أخرى أنّ المهاجرين، خصوصاً من نسمّيهم بـ”غير الشرعيّين” يعملون “على المكشوف” وعلى مرأى من الكلّ. نراهم في كل مكان: في المقاهي والمطاعم والفنادق وعلى الأرصفة (خصوصاً في نيويورك مع انتشار ظاهرة توصيل الطعام إلى المكاتب والبيوت على درّجات هوائيّة يقودها مهاجرون “غير شرعيّين” معظمهم من أمريكا اللاتينيّة أو إفريقيا أو جنوب أسيا). إذا لم يكن هناك مهاجرون مثل هؤلاء للقيام بهكذا أنواع من الأعمال، لكانت كلفتها أكثر بأضعاف.. وفي بعض الحالات والأماكن، من المستحيل العثور على أشخاص مثل هؤلاء للقيام بهكذا أعمال.

***

أختم مقالي بحوار جرى في أوائل شهر أيّار/مايو المنصرم مع تلميذة في جامعتي (سميث) سألتها عمّا ستفعله في فصل الصيف، فأجابت أنّها ستذهب إلى مدينتها في ولاية يوتا لتعمل في مكتب سناتور جمهوري، وسيكون دورها مساعدة المهاجرين غير الشرعيّين. سألتها بنوع من الشكّ: لكن السناتور الذي ستعملين معه معروف بمعاداته للمهاجرين، فكيف يمكن أن يكون له مكتب لمساعدة المهاجرين غير الشرعيّين؟ فأجابت بما معناه أنّ مواقف السناتور هي من ألاعيب السياسة الضروريّة في واشنطن، أمّا في يوتا، فإقتصاد الولاية لا يعمل من دون المهاجرين غير الشرعيّين وهو يساعدهم لأنّ ناخبيه يطلبون منه ذلك.

نعم، عظمة أمريكا هي في مهاجريها.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  تايوان مملكة الرقائق الدقيقة.. ماذا إذا دمّرتها الصين؟