يعود بي الزمن إلى العام ٢٠٠٣ وتحديداً في مطار رفيق الحريري الدولي ببيروت. كنا ننتظر الرحلة التي ستقلنا إلى قرطبة لحضور المؤتمر الذي أقامه الراحل الكبير الشيخ عبد العزيز سعود البابطين في رحاب جامعة قرطبة حول شاعر الأندلس إبن زيدون، ومن هناك أكملنا رحلتنا لأجد نفسي في أوروبا فجأة أمام فارس من فرسان الشعر العربي العمودي. فقد اعتلى الشاعر جورج شكّور المنبر القرطبي، ومنه أخذنا إلى العصر الأندلسي. صالَ وجالَ في شعر إبن زيدون. ومنذ ذلك التاريخ وطوال 21 عاماً استمر التواصل بيننا ولم يتوقف إلى ما قبل عام تحديداً عندما اشتد المرض عليه وصرت أطمئن على أخباره من خلال الغالية دولي حبيب شكّور زوجته.. والصديقة الرائعة والمثقفة ليندا غدّار.
امتدت رحلة هذا المبدع الثقافية والفكرية لأكثر من 70 عاماً، اي مذ كان يافعاً.. وفي كل هذه السنين لم ينضب معين هذا الرجل الذي بقي وفيًّا للغة الضاد وأحد أهم المدافعين عنها بشراسة.
كنا نلتقي كثيراً في الندوات التي تقام في معرض الكتاب العربي والدولي في بيروت وتحديداً عندما كان المعرض يحشد المئات من الوجوه الثقافية وتمتلئ قاعاته عن بكرة أبيها ووسط كل هذه الحشود هناك شخصيتان لا بد وأن تعرفهما، أولهما من صوته وهو السيد محمد حسن الأمين رضوان الله عليه فعندما كان يطرب لشاعر في أمسية شعرية يُحمحم كحصان أصيل ويطرب أيما طرب للقريض. وثانيهما هو الطيب الذكر الأستاذ جورج شكّور فعندما يكسر أحد الجالسن على المنصة بيتاً من بيوت الشعر أو يقع في خطأ قواعدي ينبري له الشكّور مستلاً سيف النحو والصرف للدفاع عن حبيبته ومعشوقته الأبدية.. وأقصد بها اللغة العربية التي تشربها من أعظم مصادرها عندما كان يافعاً بقريته شيخان تحت الشجرة المعمرة القريبة من الكنيسة جوار البيت. نعم تشرب جورج من الإنجيل والقرآن الكريم ونهج البلاغة ولعل معرفته العميقة بهذه الأيقونات مهّدت له لاحقاً أن يكتب لنا أربعة ملاحم ببراعة تامة لا تشوبها شائبة: ملحمة المسيح، ملحمة الرسول، ملحمة الإمام علي، ملحمة الإمام الحسين. ومن هنا عُرِف شكّور بـ”شاعر الملاحم الأربعة”.
كان جورج شكّور عابراً لكل الأزمنة ولكل الطوائف والمناطق وكان مؤمناً بفكرة لبنان العيش المشترك، فأسّس لدين وهوية تشبه هوية لبنان سائراً على خطى الإمام السيد موسى الصدر، الرجل الذي تأثّر به جورج شكّور في مسألة وظيفة الدين وكان يُردّد في مجالسه “الأديان واحدة في البدء والهدف والمصير»، داعياً إلى نبذ المشاعر العنصرية وإلى تفاعل الحضارات الإنسانية.
من يكتب عن جورج شكّور لا بد وأن يتوقف عند محطات مهمة في حياته كعلاقته الخاصة والمميزة بالشاعر سعيد عقل الذي كان يحفظ معظم قصائده، فقد كتب سعيد عقل مقدمة ديوان (زهرة الجماليا) واستمرت الصداقة بين الرجلين 50 عاماً عامرة بالود والوفاء برغم صعوبة مزاج سعيد عقل الذي كتب له مقدمة ديوانه:
“لجورج شكّور قصائد تفرضه ذا صولجانٍ سُموَّ خاطرةٍ وجلال إطلالةٍ وترفَ مشاعر”.
وقال عنه أيضاً:
“جورج شكّور لَقِيَّةُ عَصْرٍ”.. و”إذا بولس سلامة نظم التاريخ في ملحمة الغدير، فأنت يا جورج شعرنت التاريخ”.
محطة أخرى تلفتني في سيرة الشاعر وهي علاقته الوثيقة بالمرأة والجمال. كان جورج محباً للجمال بطبيعته الخالصة. حياته في أعالي جبال منطقة جبيل فتحت عينيه على طبيعة خلّاقة فيها البحر والجبل. هناك كانت أولى علائق الرجل بالجمال ومن جمال الطبيعة إلى الجمال الأنثوي تنقل الشاعر بين ملهماته حراً طليقاً يكتب الغزل لمن تشاء وكيف تشاء، بدعم من العظيمة السيدة دولي التي كانت تشرف على سعادته كما أشرفت على عمره البهي حتى آخر ساعة وهي التي تُردّد “مرحباً بكل جميلة تستنطق دواخل جورج شكور”.. وكانت تتباهى بلقبه الثاني شاعر “الجماليا”.
جورج ابن بيئة نقية وعفوية وهي صفات لازمت شعر جورج شكور ومن يتطلع على نتاجه الشعري “وحدها القمر” الذي قدّمه الأخطل الصغير قائلا:
“أخي الذي كولدي، جورج شكور!
من نافذتي – على البستان – تبتسم عيني، وترتاح الى فوضى الأزاهر والأريج، يعبق بها صباح الشعر في بلادي”.
له دواوين شعرية كثيرة بينها: “كلمات للحلوين”، “مِرْآة ميرا”، “عَنْهم وعنّي”، “ذَهَبُ الغزل”، “وَحْي من الوحي”. أما ديوانه الوحيد في اللغة المحكية فهو “همسات الحلوين”.
كان عضواً في المجلس الثقافي لبلاد جبيل واتحاد الكتاب اللبنانيين وانخرط في العديد من الهئيات الثقافية ومَثَّلَ لبنان في مهرجانات شعريّة كبيرة في سوريا ومصر والإمارات والسعودية والكويت والعراق والأردن والسّودان وإسبانيا وإيران. لَحَّنَ له كبار الفنّانين منهم وديع الصّافي، روميو لحّود، الياس الرحباني، وإيلي شويري. غنّت له سلوى القطريب أغاني عدّة أبرزها: “قالولي العيد بعيوني”.
أحب معظم شعراء العرب الكبار وارتبط معهم بصداقات كبيرة مثل عمر أبو ريشة، نزار قباني، الأخطل الصغير وشعراء العراق الكبار مثل الجواهري وأحمد الصافي النجفي الذي كان يلتقي به كثيراً عندما أقام في لبنان ومنه حفظت بيت الصافي النجفي الذي قاله عندما عاد إلى بغداد ضريراً نتيجة إصابته بشظية في الحرب الأهلية اللبنانية:
“يا عودةً للدار ما أقساها
أسمع بغداد ولا أراها”.
كان جورج شكّور يرى العراق منبتاً للشعر ورافداً له وكما يجري نهران في العراق هما دجلة والفرات فإن الجواهري هو النهر الثالث.
في اللقاء الذي أجريته مع الشاعر جورج شكّور في برنامجي “المرصد الثقافي”، حدّثني كثيراً عن فكرة الأخلاق الشعرية وإمارة الشعر التي ذهبت لصالح أحمد شوقي الذي كان معجباً به فحقّق “الموسوعة الشوقية” التي تضم آثار أمير الشعراء أحمد شوقي.
وقياساً بشاعرية شكّور، كان مُقلاً في النشر وهو المتوغل في دراسة التراث الإنساني دراسة عميقة، ولعلّ دقته وتركيبته الذهنية والنفسية والأكاديمية الرفيعة نأت به عن ذلك.
ولا مكان للسأم عند جورج شكّور، مُعاكساً بذلك ثاني شعراء المعلقات زهير بن أبي سلمى:
“سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ
رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ”.
لم يهرم شاعرنا. رحل بصمت محاطاً برفيقة دربه دولي وأولاده لواء وغسان وهالا ومن خلفهم شجرة شيخان المعمرة قرب البيت تودعه بنشيد الأناشيد عبر زقزقة عصافيرها وهمس حفيف ورقها الأصفر المعبر عن حزن أيلول.. الخريفي.. ليرتاح إلى الأبد في الضيعة التي أحب وأنشد فيها شعراً قائلاً:
حُلْوةٌ “شيخانُ”، يا طِيبَ هَواها
عَطَفَ اللهُ عليها، وحَباها
بَلْدَةٌ للشِّعر والفِكْرِ، بِها
نَبَتا بِكْرًا، ولبنانُ تَباهى.