دَفَعَ أهل غزة، ومن خلفهم أهل الضفة، الثمن، أغلى ثمن يُمكن أن يدفعه مواطن للدفاع عن أرضه، ودَفَعَ أبناء الشريط الحدوديّ في الجنوب ثمنًا باهظًا طيلة عامِ من الإسناد ومئات الشهداء من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ. وهذا كلّه بقيّ بالنسبة إلينا، كمُقيمين في الضاحيّة الجنوبيّة، بعيدًا نسبيًا عنّا؛ فقد كنا نلتقي أهل القرى الحدوديّة المُهجرّين ونتضامن معهم، كما نتضامن مع غزة وأبنائها وضحاياها ونسائها وأطفالها فنبكيّ ما يصل إلينا عبر الشاشات، ونلعن العدو عبر “الواتس آب” و”الفايسبوك”.
ما بعد 27 أكتوبر/تشرين الأول، أو بالأحرى ما بعد 31 تموز/يوليو، يوم اغتيال القيادي الكبير في حزب الله السيد فؤاد شُكر في عقر دارنا في الضاحيّة شعرنا بهزة عنيفة أيقظتنا من سبات التضامن الافتراضي الطويل، وسلبتنا أمان البيت والذهن والفكر وكلّ أمان.. حينذاك، بدأ البعض من الجيران يُفتّش عن بيت آمنّ في مكان آمنّ في لبنان.
لكننا صمدنا كعائلة وبقينا في بيتنا مُصرّين على الصمود والصبر وعدم إعادة تجربة العام 2006 بالتهجير؛ تجربة كشفت الوجوه و”الوطنجيّة” والشعارات والتكاذب والنفاق، وجعلتني أعاهد نفسي بعدم الخروج من المنزل ولو كان الثمن الموت تحت حجارته، لكن رعب أصوات 27 أيلول/سبتمبر أحرجني وأخرجني.
بيتي مركز لجوء
كانت قد لجأتْ إلى منزلي، الذي كان حتى 27 أيلول آمنًا، عائلتان من سبعة أشخاص تركتا منزليهما المُهددين، وكيف أنسى أميّ الهاربة من ضيعتنا بعد تعرضها وساحتها للقصف بدءًا من 23 أيلول/سبتمبر، وصولاً إلى ارتكاب مجزرة فيها في 20 أكتوبر/تشرين الأول، ذهب ضحيتها أربعة أقارب ودُمّرت 3 طوابق على رؤوس الهاربين إليها، كأننا لم نكن نعرف أنّ هذا العدو مجرد وحش وقاتل وأعمى.
كان كلُّ شيء يبدو على قلق: الأكل، النوم، الحركة اليوميّة، الأخبار. الحياة كلّها تحوّلت ما بعد 31 تموز/يوليو، يوم اغتيال القيادي فؤاد شكر إلى أيام قلق وخوف. استفقنا على يد إسرائيل الطولى، وعلى نكثِ وعدٍ بعدم ضرب الضاحيّة وبيروت قطعه للمسؤولين عنا كاذبٌ صهيونيٌ يجُول بيننا كحمامة سلام، هو “فيليب حبيب الجديد”؛ يُهدّد ويتوّعد، إلى أن أتى اليوم الموعود من خلال مجزرتي “البايجر” و”اللاسلكي” المَهولتين (17 و18 أيلول/سبتمبر) اللتين هزّتا المجتمع اللبناني بأكمله من الجنوب إلى البقاع إلى الضاحية إلى بيروت، وما تلاهما من مجزرة “حي القائم” التي ذهب ضحيّتها العشرات من المدنيين، ومعظم قيادة “فرقة الرضوان” وعلى رأسها إبراهيم عقيل (الحاج عبد القادر).
إلى هنا كنا ما زلنا في “السَليم”، إلى أن حلّ مساء السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر، يوم مَقتَلتنا المفتوحة. أكثر من خمسَ عشرة ضربة صاروخية مُرعبة دفعتنا للهرولة خارج منزلنا بثيابنا المنزلية، وعلى طول خط الحدث العام المخنوق بالسيارات الخارجة من حيّ السلم والمريجة، مرورًا بحيّ الليلكي الهادئ كأن شيئًا لم يكن، رَصدْنا شابًا يربط شعره كالفتيات، يقف وسيارته في منتصف الطريق، مُطلقًا العنان لأغنية أجنبية لم أفهمها، وذلك في لحظة شماتة علنيّة من شعب ارتعب من بضعة صواريخ ليتها أصابتنا وقتلتنا قبل أن نسمع الخبر المشؤوم الذي جاءنا بعد ساعات ونحن نفترش مقاعد الدراسة في “الثانوية العامليّة” في رأس النبع بعد أن وصلنا إليها ليلًا كضيوف عند أقارب كانوا يفترشون فيها غرفة صغيرة اتسعت لنا جميعًا (17 شخصًّا).
رحلتنا في “العامليّة”
وصلنا مَوهُولين إلى العاملية في “رأس النبع” من دون أن نحمل شيئًا، سوى رعبنا وخوفنا، إذ لم نكن نعلم أنّ حبيبنا قد رحل ساعتئذ.. حملنا مفتاح البيت.. حملنا أجسادنا المُثقلة بالقلق والخوف من التهجير والرعب من مجرم لم يتوانَ عن “التجزير” بأهل غزة منذ عام وأكثر، ولم يتحرك جفنُ أحدٍ من المسؤولين العرب والمسلمين.. لم تمضِ أربع وعشرين ساعة على الضربة حتى جاء الخبر الذي كذّبه الجميع، كذّبه بالصراخ والعويل والبكاء والرصاص وكلّ أشكال الرفض والإنكار، إلى درجة أنّ رسالة “واتس آب” قديمة من أحد الصحفيّين أُعيد إرسالها “بلؤم” قد تم تصديقها مباشرة وعلى وقع الزغاريد.
نعم جاء الخبر المشؤوم والقاتل الذي ذبحنا وأصابنا في الصميم، ولم نستوعبه حتى اليوم، ألا وهو خبر اغتيال السيد حسن نصرالله. خبرٌ دفعَ العديدين إلى البكاء والصراخ والأنين والوجع.. وأيُّ خبر هذا الذي أتانا وأصاب افئدتنا؟.
لم يكن لدينا أيّ مجال للتعبير عن حزننا، ولم نكن نريد لأحد منا أن يُصَدّق الخبر، برغم النعيّ الرسميّ الصادر عن قيادة “حزب الله”.
أصوات القصف على الضاحية ترتفع ساعة بعد ساعة، وقلقنا يزيد. مُحيط منزليّ دُمّر بالكامل. قُتلت قيادات أخرى. إنّه الهلاك، وما بقيّ من سند ومن مُعين. مع إبراهيم عقيل ورفاقه “الرضوانيين” قُتل العشرت، ومع فؤاد شكر قُتل أيضًا العشرات، ومع “السيد” قُتل العشرات، ومع الشيخ نبيل قاووق قُتل العشرات، ومع السيد هاشم صفيّ الدين قُتل العشرات.. فعلًا إنّه عام القتل؛ عام محاولة القضاء على شُعلة المقاومة، هذه المقاومة الوحيدة في المنطقة، مع توأمها في غزة.
آلام النزوح
لا وجود للفرد في النزوح المدرسيّ. ثمة أوقات للطعام والنوم، وللخروج والدخول. ينسحب الإنسان من فرديته وخصوصيّته وينتسب تدريجياً إلى حالة مشاعيّة. سؤاله الدائم يتصل بالخدمات والتقديمات ومواعيد توزيع الدواء وزيارة طبيب الصحة العامة. “أنت فقير إذن أنت شخص عمومي”. حاجاتك تصبح شأناً عاماً، فالجميع في الحمام يتنصّتون عليك، ويشاهدون صحنك الملّيء بالطعام، وهذا الطعام ليس سوى “كبتولة” برغل أو رز أو أي شيء آخر. النازح يخضع للإدارة الفعليّة للمدرسة، كما هو حال الشعوب الفقيرة التي تنتظر المساعدات الغذائية الأمميّة بالطوابير.
لا بد من استدراك ضروري. هذا ليس التهجير الأول وحتماً لن يكون الأخير. البعض تهّجروا مرتين خلال سنة واحدة، الأولى منذ عام، أيّ منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نحو قرى أكثر أمنًا وأماناً بعيداً عن قرى الحافة الأمامية. ثم حلّ موسم النزوح المليوني الكبير في الثالث والعشرين من أيلول/سبتمبر 2024. كتلة بشرية تهجرت خلال ساعات قليلة من الجنوب باتجاه الشمال وبيروت والجبل والشام والنجف.
ولو دققنا في سيرة المئات من هؤلاء، لوجدنا أن حكاياتهم مع التهجير بدأت في القرى الجنوبية الأمامية (حولا وميس وبليدا والخيام وكفركلا والعديسة ويارون ومارون إلخ..) منذ نهاية الستينيات الماضية. بعض العائلات أصابها التهجير أكثر من ست مرات. بالفعل أدمن الجنوبيون التهجير، ولا سيما منذ اجتياح العام 1978.
من المدرسة إلى الفندق!
النازح إلى مدرسة، هو مواطن درجة عاشرة، ليس لأنه ترك بيته، بل لأنّه شخص فقير يعمل ليعيش، وطالما أنّه لا يعمل، لن يتمكّن من الإنفاق من جيبه، فيضطر لتحمّل متطلبات النزوح المدرسي التي غالبًا ما تكون حازمة.
من ضربة مقر السيد حسن إلى الضربة قرب “الثانوية العاملية”، ترج الطوابق كلّها بصراخ الأولاد والكبار والصغار والنساء والشباب. الكلّ يُهدّأ الكلّ، والكلّ ينزل الأدراج كيوم القيامة. لم أشعر سوى أن قوة خارقة تدفعني نزولًا من الطابق الرابع إلى الأرضي. الجميع يترك المدرسة إلى وجهة غير معروفة. خلال دقائق باتت المدرسة فارغة إلا من حُرّاسها. تطاردنا إسرائيل أينما هربنا. كانت ضربتا “النويري” و”البسطة” كافيتين للقضاء على تجربة نزوحنا إلى المدارس. ومجدداً إلى نزوح جديد، وتشريد جديد، مع قلق على المُحبين والإخوة والمقاومين والمجاهدين والانتصارات، لكن الاغتيالات قصمت ظهرنا، وأشعرتنا أن عدونا ينام في سريرنا. موجود في قلب التقنيات التي تُبهرنا، والتي ننشّدُ إليها دومًا، هي فخُنا الذي أمَاتنا موتًة لئيمة. لم تشفع لنا التكنولوجيا لتنصرنا، بل لتقتلنا. هو الغرب الذي يمدّنا باختراعاته وبتقنياته ليُحاربنا بها بعد أن يجعلنا عبيدها.
ومن رأس النبع إلى رأس بيروت. تشتَتت أفكاريّ وأياميّ وأوقاتي فلم أعد أسجّل يومياتي. لم أكتب تعليقًا واحدًا على صفحتي على “الفايسبوك”، ولم أكن أهتم بأمر “السوشيل ميديا”، ولم تعد تعنيني التحليلات، ولم أعد أصغي لمن يُحلّل ولا من يُحللون. كلّ هميّ أن أعود إلى حياتي الطبيعيّة، إلى الروتين الذي كنت أشكو منه، إلى نش السقف، وزبالة الشارع، وعجقة السير، وغلاء الخضار، وسائقي “الفان رقم 4″، وابداعاتهم في رفع البدل يوميًّا.
في رأس بيروت، وتحديداً في محلة فردان، إنتقلنا إلى أوتيل مرتب ونظيف، لكن مرتفع البدل. كنت مضطرة للجوء إليه بعد استضافتنا ليومين في أوتيل بالروشة عند مهجرين من الضاحية الجنوبية. صرتُ فجأة من أبناء الطبقة الوسطى. رفعت الحرب مستواي الإقتصادي والإجتماعي، فتخيّلت نفسي في مكان جميل برغم الحرب، وكم رغبتُ أن أنسى الحرب، لكنها كانت تطاردنا في يومياتنا.
“ضاحيويّة” في بيروت
الحرب تسكنني أينما رحتُ. صرتُ أتجوّل في بيروت، وأشعر أننيّ أراها للمرة الأولى، كأني لم أرها يومًا من قبل. مدينة حزينة، بليدة، مُكتظة، غير حنونة. أنا لا أعرفها إلاّ ناشطة لها ناسها وروحها، ولا تقبل بسهولة تغيير هواها. اليوم بيروت في حالة نوم سريريّ، لا أنشطة، حتى الداعمة منها غائبة، فالكلّ مشغول بالتقديمات والنازحين، وكأن النازح والمُهجر لا يفكر إلاّ بالطعام: لا. نحن المهجرون نفكر بالحماية والخصوصيّة والاحتضان والقَبول والتقبّل والعودة والبيوت والأرض.. لسنا حيوانات تعيش لتأكل. بل نحن بشر لنا خصوصياتنا التي تُنتهك كلّ فترة زمنيّة.
سرّ مصائبنا
دائماً أسأل نفسي عن سر مصائبنا. أقصد نحن أهل الجنوب. يجيبني زميلي “إنها ديكتاتورية الجغرافيا يا سلوى”. هذه الجغرافية اللئيمة التي وضعت أهل الجنوب على تماس مع الغول الإسرائيلي. أتصور مثلًا لو أنني ولدت في أقاصي عكار أو المنية أو كسروان أو بعبدا؟ ماذا لو أن إبن جبيل ولد في بنت جبيل أو أن إبن عيناتا الأرز تبادل السكن مع إبن عيناتا الجنوب.. حتمًا كانت مصائر الناس لتتغير ولكانت الأثمان مختلفة وربما لم نخض تجربة التهجير لا مرة ولا مرتين ولا ثلاث مرات في أسبوع واحد، فكيف على مدى أكثر من سبعة عقود من عمر هذا الكيان الغاصب؟