كتبت عن عادات وممارسات عفا عليها زمن من أزمنتي العديدة، عدت أقرأ ما كتبت لأكتشف أنني أهملت، عن غير قصد، عادات وممارسات أخرى عفت عليها نفس الأزمنة وربما أزمنة أخرى. أكتب هنا عن بعض ما أهملت وهو كثير.
كتبت عن عادات وممارسات عفا عليها زمن من أزمنتي العديدة، عدت أقرأ ما كتبت لأكتشف أنني أهملت، عن غير قصد، عادات وممارسات أخرى عفت عليها نفس الأزمنة وربما أزمنة أخرى. أكتب هنا عن بعض ما أهملت وهو كثير.
عند نقطة حاسمة ظهر مَفرِقُ في الطريق، وانقسم المَسار الواحد إلى يُمنة ويُسرة. حَار قائد العربة أيّ فرع يَسلك وأي اتجاه يختار. العلاماتُ الإرشادية مَوجودة؛ لكنها قد تكون مُضللة وفقًا لخبراتِ وتجاربَ سابقة، وقد تُفضي عند اتباعها إلى نهاياتٍ خاطئة، فتهدر الوقتَ والجَّهد وتستهلك الوقودَ الذي بات في حكم الثمين من الأشياء؛ لا ينبغي التفريط فيه بسهولة، وإنما تُحسَب له الحِسابات وتُعدُّ العُدة والترتيبات.
مثلُ كثيرين أحنُ إلى بعض، وليس كل، الماضي. أخشى إن تمنيت عودتي إليه وتحقق التمني أن أجد فيه تفاصيل لم أحبها. أخشى أيضا أن أعود وأنا في هذا العمر وهذا الشكل فينفر من لقائي أصحاب وصاحبات الزمن الذي عدت إليه. أو أعود فلا أجد شجرة الجميز التي غفوت كثيراً من "قيلولاتي" في ظلها، ولا أجد على حافة النهر النخلتين اللتين شدني إليهما عناقهما الصريح والمكشوف، ولا أجد الشاب بائع المثلجات ليحمل لي النبأ السعيد "لقد غيروا العسكري الذي كان يزعج عشاق وعاشقات النخلتين المنحنتين قليلاً في خشوع وجمال". سعيد الصبي البائع بغياب السلطة الجائرة وعودة الخشوع والهدوء الممتع والعشاق إلى المكان.
دائماً ومنذ سنوات مراهقتي ثم شبابي، عشت مغرماً بالمستقبل. أسرني غموضه وغموض كل ما يتعلق به. كم من مرة وقفت وأنا صغير وراء جارة أو قريبة من قريباتي وهي تقرأ الفنجان لأمي أو خالتي. أسمع صفات عن رجل أو سيدة وطفل وصور لقطار أو طائرة لتخلص قارئة الفنجان في النهاية إلى قصة محبوكة وقابلة للتصديق الفوري. صارت إحدى هواياتي متابعة حكايات قارئة الفنجان أو ورق الكوتشينة أو الودع، أستمع بشغف بالغ إلى عمل يدل على براعة في تأليف روايات استناداً إلى "تهيؤات" هي أولاً وآخراً من صنع خيالات خصبة.
سبقني الشاعر فقال "وأتيت مرآتي وعطري في يدي فبصرت ما لا كنت فيها أبصر"، أنا أيضا أتيت مرآة ولا عطر في يدي، ولكن في يدي صور لي وأنا في مراحل عمري المختلفة، قلبت في الصور واحدة بعد الأخرى وعدت إلى المرآة وبالفعل بصرت ما لا كنت فيها أبصر.
للرصيف، قبل أن ينكمش أو يختفي، ذكريات طيبة. أتذكر نفسي في شارع فاروق، طفلا أجلس على كتفي والدي أو عمي غير الشقيق لوالدي، أستمتع بموكب "المحمل" وجنود على ظهور جمال وأحصنة، كلهم وكلها في ألوان زاهية، والموسيقى العسكرية تزيدني متعة. أتذكر أيضا رجالا من الحي الذي أسكنه مع عائلتي الصغيرة يحملوني ونحن على رصيف شارع خيرت لنشاهد موكب الملك فاروق متوجها إلى مسجد السيدة زينب لأداء فريضة أو لمناسبة لا أتذكرها الآن.
كنتُ يومها خارج المنزل ولفت انتباهي زحمة سيارات الإسعاف بأبواقها وأضوائها وأعدادها وكلها تُنذر بحدث كبير. عدتُ إلى المنزل لأُصعق بخبر تفجير أجهزة "البيجرز" التي يستخدمها آلاف العاملين في قطاعات حزب الله المدنية والعسكرية بما فيها الطبية والتمريضية والإنقاذية.
قالت: "صحيح يا أستاذي، لقد كتبت بالفعل عن الميادين". سألت: "ومتى كان"؟ أجابت: "كتبت في أيلول/سبتمبر من العام الماضي". أثارت الإجابة في نفسي فضولا. عدت أسألها: "لماذا هذا الحنين المتجدد إلى الميادين". ولأسألها أيضا ولنفسي، "ولماذا في سبتمبر"؟
كثيرون يخطئون إن ظنوا أن المسنين أقلية بسمات متشابهة وتصرفات نمطية ومطالب أو رغبات متقاربة وطموحات وتطلعات متدنية أو منعدمة، أو أنهم أقلية فى المجتمع بعقول متدهورة الصلاحية، وبقلوب خاشعة أو مستسلمة وصبر سريع النفاذ، أو أقلية بقدرات على تحمل الآلام والصدمات العاطفية ولكن ضعفت حتى تآكلت. عندى الأدلة على أنها فى غالب الأحوال أقلية حكيمة عند اتخاذ قرارات هامة، وأقلية تتحمل بمسئولية وصلابة مصير الخاضعين لها والسائرين فى ركابها بالعرف أو بالعقود والقوانين، تتحملها أيضا بالحب.
كثيرون هم الرجال الذين أثّروا في مجرى حياتي. بعضهم خلف آثارا أثّرت لساعات وأيام. بعض آخر ترك بصمات لا تمحى. بعض ثالث مر مرورا عابرا ولكن بآثار عميقة. كثيرون عبروا عبورا خامدا، لا حس ولا خبر.