سؤال إلى عزيزي القارىء: المُعتدى عليها، كيف تتصرف؟

في أحيان كثيرة، تكون الأمثلة خير افتتاحيّة وخير مقدّمة.. وربّما خير تفسير لجوهر بعض المفاهيم الأساسيّة. قبل أيّ شيء، لنضع أنفسنا سويّاً في موضع الباحث الرّصين، والموضوعيّ إلى أقصى حدّ، وذي العقل الهادئ، ولنترك الأحكام المسبقة والقِيميّة إلى حين.. ولنتأمّل في هذا المثال، الذي سوف يوصلنا، لاحقاً، إلى النّقاش المفاهيميّ البحت إن صحّ التّعبير. كما يُمكن للقارئ العزيز أن يتخيّل بسهولة: اختيار المثال، وطريقة عرضه وشرحه، قد تمّت دراستهما بالشّكل المناسب قدر الامكان بهدف بدء الوصول إلى المفاهيم والنّظريّات المُحتملة المقصودة.

لنتأمّل ثمّ لنتفكّر سويّاً، إذن.

تخيّل معي أنّ رجلاً مُجرماً، لا أخلاق له في الأعمّ الأغلب كما نقول عادةً، مسلّحاً بسكّين وبمسدّس وربّما بأكثر من ذلك، قويّ العضلات والجسم، متمرّساً في فنون القتال الجسديّ.. بالإضافة إلى كونه ذكيّاً وحذقاً، بل ومتمكّناً إلى حدّ كبير جدّاً من أهمّ حيل التّفاوض والخداع والمساومة..

تخيّل معي، إذن، أنّ رجلاً بهذه المواصفات وبهذه الامكانات وبهذه الحال وبهذا المستوى من الانحطاط الأخلاقيّ كما نقول عادةً أيضاً، قد قرّر أن يدخل إلى بيت فتاة عشرينيّة جميلة، وحيدة، لا أهل لها.. بعد ترقّبها وترقّب حالها لأشهر عديدة. الفتاة، إذن، وحيدة في بيتها، ولم تقترب من الرّجل، ولا علاقة لها به أبداً.. وهي لا تعرفه شخصيّاً.

وهي لم تستفزّه طبعاً، ولم تستفزّ أحداً في الحقيقة منذ مكوثها في هذا الحيّ أقلّه.

وبالتّالي، قرّر الرّجل المُجرم “غير الأخلاقيّ” هذا، وغير ذي الرّحمة، أن يدخل بيت تلك الفتاة عنوةً، متسلّحاً بتفوّق “سلاحه” وبتفوّق “قوّته المادّيّة” وبتفوّق “التّكنولوجيا” التي يحملها بين يديه.. وأن يغتصبها. أي: أن يغتصب جسدها الذي أعجبه، ودون أن يطلب رأيها بطبيعة الحال.

وجدت الفتاة نفسها، إذن، في وسط هذا الموقف، فجأة، في بيتها الصّغير.. أمام غاصبٍ معتدٍ لا أخلاق له، مع توازن قوى “مادّيّ” ليس في مصلحتها أبداً: فهي تملك صوتها، ويديها، ورجليها، وأسنانها، وربّما سكّيناً بدائيّاً خبّأته في مكان معلوم لها في البيت.

لنقف بموضوعيّة تامّة – أو قدر المستطاع – أمام هذا الموقف، ولنسأل أنفسنا حقّاً، ما هي الخيارات الرّئيسيّة التي أمام هذه الفتاة المُعتدى عليها؟

***

من الواضح بالنّسبة إليّ أنّنا أمام خمسة خيارات رئيسيّة:

الخيار الأوّل: وهو ربّما الأقرب إلى البديهيّات التي تربّى أغلبنا عليها.. أي: أن تقرّر هذه الفتاة أن تُقاوم مهما كلّف الأمر، ومهما كانت التّضحيات، ومهما كانت النّتائج المادّيّة، ومهما كان ميزان القوّة المادّيّ الظّاهر. في خيار كهذا، يُقرّر الانسان عادةً أنّ الأساس هو قِيم مثل الشّرف والكرامة وما إلى ذلك، دون اغفال امكانيّة الخديعة والتّفاوض – وكسب الوقت الذّكيّ – من غير تنازلات تمسّ بجوهر هذه القيم: فإن استطاعت الفتاة دفع المعتدي، من خلال القتال والخديعة المشروعة والمفاوضات (إلخ.)، كان به؛ وإن لم تستطع إلى ذلك سبيلا، فإلحاق الأذى قدر الإمكان بالمجرم، ولتكن معركة تنتهي كما ستنتهي.

تحاول الفتاة مناقشة هذا المعتدي قدر الإمكان طبعاً، وتحاول صدّه معنويّاً وعقلانيّاً.. ولكن، من الواضح أنّ خيارها بيّن، وهو أنّ العطب أو الموت مع حفظ الشّرف والكرامة، خيرٌ من السّلامة والعيش في ذلّ وفي هوان.

طبعاً، يُمكن تخيّل أن تُحاول الفتاة لفت انتباه الجيران، أو الاتّصال بأحدهم، ولكن علينا التّذكّر دوماً: أنّنا أمام مُجرم مُتفوّق تكنولوجيّاً وأمنياً وتفاوضيّاً. فقد قام بعمليّته في الوقت المناسب، وبعد التّأكّد من اغلاق جميع أو أغلب سبل التّواصل والاتّصال أمام الفتاة المسكينة.

هذه هي المعالم الرّئيسيّة للنّموذج-المثاليّ الأوّل إن صحّ التّعبير، ولنتذكّر أنّ الفتاة لم تَعتدِ ولم ترمِ بنفسها إلى التّهلكة، بل ابتليت بمُجرمٍ مُعتدٍ مُغتصبٍ قَاتلٍ، لا أخلاق له ولا دين، الّا اشباع رغباته المادّيّة، وإلّا اشباع “أناه” الشّيطانيّ.

الخيار الثّاني: ومن دون أيّ حُكمٍ مسبق أو قِيميّ على فتاتنا حتّى الآن كما أشرنا، فهو أن تقرّر هذه الأخيرة ربّما أنّ الواقع هو الواقع المادّيّ الملموس الذي أمامها، وأنّ ميزان القوّة ليس في مصلحتها أبداً.. وبالتّالي أنّ عليها أن تقبل بـ”الاغتصاب” لجسدها ولشرفها ولكرامتها هذه المرّة، على أمل أن يتركها هذا المُعتدي وشأنَها، وألّا يقتلَها، فتكون بعد ذلك قادرةً على محاولة تغيير ميزان القوّة.. فإمّا أن تستطيع ابلاغ الشّرطة عنه، أو أن تستعين بأصدقاء أو تتجهّز بسلاح مُبين (إلخ.).

ولكنّ الأكيد هو أنّ هذا الخيار يتضمّن: (١) القبول بالاغتصاب اليوم، وهذا مُعطىً مهمّ جدّاً بين أيدي تأمّلنا وتفكّرنا؛ (٢) ومن دون أي ضمانة من زاوية أن يبقيها هذا الغاصب على قيد الحياة أصلاً، أو أن يمكّنها من أن تقوم بأيّ خطوة تجعلها قادرة على دفع الاغتصابات أو الذّلّ أو السّجن (إلخ.) القادمة – أي في زمن لاحق.

الخيار الثّالث: أيضاً من دون أيّ حُكم مُسبق أو قِيميّ، يُمكن لِفتاتنا كذلك أن تُفكّر في اغراء المُغتصب ربّما.. ببديلٍ آخر، يغتصبه بدلاً من جسدها. مثلاً: يُمكنها أن تَدفع إليهِ بمالها، بجزء منه، أو بأغلبه، أو حتّى بكلّه.. علّه يقبل “بتغيير موضوع الاغتصاب”، لا “بتغيير فعل الاغتصاب” نفسه.

عقلانيّاً، دَفعُ الفُلوس للمغتصب “حتّى يتركنا وشأننا”: خيارٌ متاحٌ أمام الفتاة حقّاً؛ ويمكنها أيضاً التّفكير بدفع أيّ شيء آخر ذي قيمة مادّيّة – لمغتصبها – بدلاً من المال في ذاته. طبعاً، هذا الخيار ينطلق أيضاً من موقف مُعيّن تجاه “ميزان القوّة”، يُشبه الخيار الثّاني، وهو يقبل بمفهوم الاغتصاب ابتداءً، مع محاولة تغيير شكله.

إقرأ على موقع 180  القطاع العام صمّامُ أمانٍ.. لا أصل البلاء!

الخيار الرّابع: أيضاً ضمن الاطار البحثيّ نفسه إن صحّ التّعبير، هو أن تعتبر هذه الفتاة أنّها مُغتَصَبةٌ يقيناً، ولا مفرّ من الاغتصاب المُبين. فتقول لنفسها بالتّالي: لِمَ المقاومة والعذاب وقهر النّفس.. فليغتصبْني المُغتصبُ، وبعد ذلك، إمّا أن يتركَني وشأني بقرار منه؛ وإمّا أن يَقتُلَني، ولا حول ولا قوّة لي في كلا الحالَتين.

وقد تُضيف، مُحاوِلةً اقناعَ نفسِها بنفسِها: إذ ربّما، مع قليل من الحظّ، يستلذّ المُغتَصِبُ وتستلذّ المغتَصَبةُ.. ونكون قد خرجنا، أنا وإيّاه، رابحين.

ولِكي نبقى ضمن اطار الايجاز والتّبسيط عينه، لِننتقلْ إلى الخيار الخامس والأخير ونختم معه:

الخيار الخامس: وهو ليس ببعيدٍ كثيراً عن الذي سبقه في الجوهر. وهو ما يُمكن تسميته، أيضاً بلا حُكمٍ قِيَميّ حتّى الآن، بـ”خيار العاهرة” (ومن دون أيّ نوع من الإهانة للفتاة). فقد يخطر ببال فتاتنا أن تقول للمُغتصب.. أن تمهّلْ سيّدي! فأنا أصلاً مستعدّة لأن أُعطيك جسدي، ولا اشكاليّة قِيميّة وأخلاقيّة عندي واقعاً، ولكنّي أبيعك إيّاه بِثَمَنٍ يُمكننا أن نتفاوض عليه.

بطبيعة الحال، إذا قَبِلَ المعتدي بهذا البيع، فإنّ “الثّمن” سيتأثّر بميزان القوّة.. ولكن، سيكون هناك “ثمنٌ” بالتّأكيد. وكما نرى: تكون فتاتنا بذلك، فعلاً، قد حاولت أن تكون ذكيّة، فحوّلت الاغتصاب المؤكّد الحصول إلى ربح مادّيّ مُعيّن، ولم تشغلْ بالها بمسائل الشّرف والكرامة وعزّة النّفس هذه (وما إلى ذلك).

وما يُدريك. لعلّ الرّجل يتركها وشأنها، وتتغيّر الأحوال لاحقاً، وتستطيع الفتاة بعد ذلك: إمّا أن تزيد من ثروتها بهذه الطّريقة، معه أو مع غيره؛ أو أن تبحث عن وسائل ذكيّة لتغيير “ميزان القوّة” (تجاه هذا المعتدي خصوصاً، والذي من المرجّح أن يُحاول تكرار فعلته وبيعه الذي بايَعَها به).

***

من المرجّح أنّك، أيّها القارئ العزيز، قد بدأت بتصوّر المفاهيم والنّظريّات الأساسيّة التي قد أكون أقصدها من وراء عرض هذه النّماذج-المثاليّة المختصرة والمبسّطة بطبيعة الحال.

وفي خضمّ المواجهة ما بين شعوبنا وبين الكيان الاسرائيليّ الغاصب ومن يدعمه بلا قيد ولا شرط، ووسط المواجهة العسكريّة القائمة اليوم في الإقليم.. لا بدّ أنّك قد بدأت بتخيّل مَن يختار ماذا حاليّاً.. ضمن الخيارات المعروضة عموماً.

ومن المرجّح أيضاً أنّك قد بدأت بالتّساؤل عمّن يختار حاليّاً “نظريّة العاهرة” واقعاً: هل هم موجودون حقّاً بيننا؟

الجواب: أعتقد فعلاً، وبموضوعيّة وبلا اهانات، أنّ هناك بيننا من يُنظّر للاستسلام للمُغتصب ومن يدعمه، ومن يُنظّر لقبول الاغتصاب ومن يدعم فعله.. عسى أن يأتينا المغتصبون ببعضٍ من الاستقرار ومن الأمان ومن الاستثمارات ومن المشاريع (إلخ.).

بكلّ موضوعيّة، نعم، هناك من يعرض على شعوبنا وعلى نخبنا، خصوصاً اليوم.. تبنّي “نظريّة العاهرة”. أليس كذلك؟ (نعود لاحقاً إلى هذا النّقاش طبعاً).

وهناك بالتّأكيد من يقول بالاستسلام الكلّيّ.. وهناك من يدعو إلى دفع الفلوس، لتقليل ضرر الاغتصاب على الأجساد والنّفوس.

غير أنّي عند هذا الحدّ، سأتركك وأترك نفسي مع التّأمّل والتّفكّر في هذه الخيارات.. خصوصاً أمام قضيّة مواجهة شعوبنا ودولنا ونخبنا لمشاريع هذا العدوّ الاسرائيليّ المغتصب ومن يدعمه.

وكما أشرت: نعود لاحقاً، إن شاء الله، لتفصيل النّتائج المفاهيميّة والنّظريّة المحتملة لهذه التّصوّرات المعروضة جميعها.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  أساطير أوكرانيا من "القديسة جافلين" إلى "الريغانية"!