“مفهوم عدم التّيقّن في الإسلام”.. كتاب جديد لمالك أبو حمدان

يعالج هذا الكتاب مسألةً مُحدَّدة هي "الغَرَر" في الفقه الإسلاميّ. والغَرَر مفهومٌ أساسيّ في فقه المعاملات، يدلُّ على حالةٍ من عدم اليقين أو الغموض أو المخاطرة المُفرطة في العقد، بما قد يفضي إلى ظُلمٍ[1] بين الأطراف. ومن هذا المُنطلق، حرَّم الفقه الإسلاميّ بيع السّمك في الماء أو بيع الثّمار قبل نضوجها. فمثل هذا البيع، الذي يُسمَّى «بيع الغَرَر»، قد يفضي إلى نِزاعاتٍ وتقاسُمٍ غير عادلٍ للأرباح.

في كتابه، (Le Concept d’incertitude en Islam) يبحث مالك أبو حمدان في مسألةٍ هي – أيضاً – من مسائل القانون المدنيّ تتمثَّل في استحالة بيع شيءٍ مجهولٍ أو غير موجود، ويستنتج منها خصوصًا حظرَ معاملات بورصيّة معاصرة يشوبها قدرٌ كبيرٌ من عدم التّيقّن، بما يعكس مطلب الشَّفّافية بأشدِّ صُورها صرامةً وأخلاقيّة.

لنكن واضحين: نتحدَّث هنا عن مفهومٍ بعينه في الاسلام. وكثيرٌ من المفاهيم والأفكار والأحاديث – بل حتّى الآيات – موضعُ تفكير نقديّ لدى الفقهاء المسلمين أنفسهم. ومن ثَمَّ يتناول الكتاب مسألةً ماليّة، وهو ما يُبرِّر عنوان الجزء الأوَّل: « المالية الإسلامية، ادارة المخاطر وتَصَوُّر (المخاطرة المباحة)». في هذا الجزء، نجد اجاباتٍ دقيقة وشافية عن جملة أسئلة: علاقة الشّريعة بالمال، والمبادئ الكبرى لفقه العقود الإسلاميّ، واشكاليّات نظريّة المخاطرة.

لنفتح قوسًا هنا نعترف من خلاله بفضل أكبر مُنظَّري نظريّة المخاطر: ليون دوغوي، في عمله «القانون الرّومانيّ: عن مبدأ نظريّة المخاطر في الالتزامات؛ القانون الفرنسيّ: عن تنازع التّشريعات المتعلِّق بشكل العقود المدنيّة» (دوراند، بوردو، 1882).

***

العمل مُتقَنٌ، لا سيَّما في الجزء الثّاني حيث تحظى مسائل كثيرة باجاباتٍ واضحةٍ ووافية. ويُلاحَظ أنّ الكتاب في متناول القارئ غير المُتخصِّص، على خلاف الأساليب المُعقَّدة التي يُفضِّلها ـ عن قصد ـ بعض الكُتّاب الفرانكوفونيّين الأجانب، أكثر مِمَّا يفعله الفرنسيون أنفسهم.

هنا، يتَّسم الأسلوب بالبساطة وبالتّواضع، بعيدًا عن أيّ استعراض (اعذروني إنْ لم يكن لفظ «الماتوفيّة» موجودًا!).

يتعمَّق المؤلِّف في مفهومَي «المخاطرة المُحرَّمة» و«المخاطرة المُباحة[2]»، مُستندًا إلى التّراث الفقهيّ الاسلاميّ الغنيّ، ومُستفيدًا من أدوات تحليلٍ نوعيّةٍ وكمّيّة، مُستوحاةٍ من منهجيّة ماكس فيبر[3].

ويرصد المراحل والمصادر الكبرى لِلتَّشريع الإسلاميّ، وفي مُقدَّمِها القرآن والسُّنَّة، بوصفهما مَصدَرَي الفقه الأساسيَّيْن.

***

الهدف الرّئيس للمؤلِّف-الباحث هو محاولة فهم مدلول/معنى الغَرَر وغاياته في نظر العلماء المسلمين، مع محاولة تبيُّن الآثار المعاصرة الممكنة لهذا الفهم/التّأويل. ويُبرز تَنوُّع الآراء داخل الفكر الإسلاميّ، فيُفكِّك فكرةً مُسبقةً أُخرى خاطئة: إذ يزخر الفقه الإسلاميّ بالمدارس وبالاتّجاهات المختلفة. ولقد خَلُصتُ، بعد تَعَمُّقي في هذا الموضوع ضمن بحوثي في فلسفة القانون، إلى أنّ عددًا غير قليلٍ من مفاهيم التّأويل القانونيّة الغربيّة ـ مثل القياس أو الاستدلال بالخِلاف ـ يجد جذوره في الفكر الإسلاميّ.

فمفاهيمُ مثل الاجماع، والقياس، ودلالة النّصّ، ومفهوم المُوافقة (“الاستدلال بالأحرى”)، ومفهوم المُخالفة (“الاستدلال بالخِلاف”) شاهدةٌ على ذلك.

ولا نَزعم البتَّة أنّ تلك المفاهيم سُرِقت من النّصوص الاسلامية، لكن، يَستوقفنا غياب أيّ اشارةٍ ـ ولو تلميحًا ـ إليها في المراجع القانونيّة الغربيّة الكبرى… وهو ظُلمٌ صارخ.

***

لا نجد في هذا الكتاب أيّ ادِّعاءٍ (على غرار ما يفعله بعض الكُتّاب العرب) بأنّ الاسلام قد قال كُلَّ شيء. على العكس. يَتحلّى مالك أبو حمدان بالتّواضع وبالعقلانيّة؛ إذ يَبدو أنّ غايته عَرْض الوقائع بلا تَعالٍ. لذلك يَمتلئ الكتاب بالمساءلات وبالشّكوك حول مستقبل مفهوم الغَرَر ونظائره في الغرب (نظريّة المخاطرة).

فلا يُقدِّم المؤلِّف سوى أفكارٍ مطروحةٍ للنّقاش والتّقويم فيما بعد، مع اقراره بنسبةٍ من عدم اليقين، وهي خَصلةٌ مَحمودةٌ في أيّ باحث، خاصّةً حين يُعالج أدوات ادارة المخاطر البديلة، مُعتمدًا على دراساتٍ ميدانيّةٍ ومَنشوراتٍ ماليّة.

إنَّ عدم اليقين ينبغي أن يكون نَمَط تفكيرٍ وأخلاقيَّة حياة، وهي فكرةٌ يُبرزها الكاتب في مواضع شتّى من كتابه. وللعلم، يُشكِّك باحثون كُثُر في دعائم الماليّة الاسلاميّة ذاتها. فالبعض يرى أنّ عمليّات الاحتكار في السّلع الأوَّلية صارت ركيزةً من رَكائز نشاط المصارف الاسلاميّة، بما يُتيح لها تحقيق أرباحٍ تتجاوز مهمتها الأساس… أي استثمار الودائع.

ومع أنّ مفهوم الغَرَر وجيهٌ ومُتأصّل، فهو ليس حِكرًا على الاسلام. إذ نجد له نظائر في الغرب، لا سيَّما في القانون المدنيّ والاداريّ (“نظريّة الظّروف الطّارئة” أو “غير ممكنة التّوقّع”). أمّا مسألة القرض بلا فائدة فلا تزال مَثار شَكٍّ، فبغية البقاء في دائرة المشروعيّة الاسلاميّة، طَوَّرت المصارف الاسلاميّة والفروع الاسلاميّة في المصارف التّقليديّة آليّات قانونيّةً وماليّةً للتّحايُل على حظر سعر الفائدة مع مُكافأة مُمَوِّل رأس المال.

وتعتمد هذه الآليّات على صِيَغٍ مثل المضاربة والمشاركة والمُرابحة والاجارة بلا فائدة في المصارف الاسلاميّة. فإذا ما وفّق الكاتب في التّعمُّق في كلّ أبعاد هذه الاشكالية، فسوف يُحقِّق انجازَيْن معًا: أوَّلهما التثبُّت من مَشروعيّة القرض بلا فائدة في الاسلام أو نفيها، وثانيهما فَضْح التّلاعُب واسع النّطاق الذي تُمَارسه المصارف الغربيّة.

[1] أو عدم التّوازن الظّالم (المترجم).

[2] أو “المسموح بها” (المترجم).

[3] ومحمّد باقر الصّدر (المترجم).

(*) النص الأصلي بالفرنسية في “لوريان لوجور“؛ الترجمة إلى العربية فريق 180 بوست.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  حين تُصبح الجغرافيا عاصمة للقرار.. تُكتب السياسة باقتدار
Avatar

أستاذ في الجامعة اللبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الحضارة الإسلامية لليهود: ماذا فعلنا لكم؟ (2/1)