السير إلى المقصلة في وضح.. النهار

"عندما علت صيحات الحرب، ونفر نفيرها، وقُرعت طبولها، استدعى الأسد، زعيم الغابة، كل الحيوانات، ومن بينهم الحمار والأرنب، الأمر الذي دعا جنرالات الأسد للاحتجاج، وزعموا بأن لا انتصار يُرجى بحضور الحمار الأبله، والأرنب الخواف! حينئذ تأكد الأسد أن الملأ من حوله تنقصهم الخبرة فقال: الحمار الذي يملك صوتاً أقوى من صوتي أحقّ من ينفخ الأبواق، والأرنب هو أسرع من يوصل الرسائل". (قصة منقولة)

تعيش منطقة الشرق الأوسط، بكل شعابها وشعوبها وجهاتها، على ضجيج أصوات الطائرات وتحركات الجيوش وتهديدات “القادة”، فلا يكاد يمر يوم يشبه الذي سبقه، فلكل وقت أوان وخطاب وأمر يومي، وكما يُقال “قبلة يصلي عليها”. الصراع القائم في المنطقة منذ قرن ونيف من الزمن لم يحط أوزاره بعد، فيزداد القتل. الخطابات التي تُبث بتهديدها ووعيدها أصبحت يومية كتمرين صباحي. وحالة الانكار الفعلية منها أو المقصودة باتت خبز الصباح لشعوب أضنتها الحروب ومشقّات العيش في العوز الدائم أو التوتر المستدام.

أما فلسطين فتلفظ أنفاس الحياة بتقطع ظاهر. تنفض غبار معركتها، التي طالت لتلامس القرن، لتتحضّر لأخرى ربما ستكون أقسى؛ فحاكم العالم لم يرتوِ بعد من دماء الشعب الفلسطيني. ولبنان الغارق في مستنقعات طوائفه ومذاهبه يُنازع اللحظات الأخيرة قبل أن تصعد روحه إلى حالة الفوضى، ينتظر الترياق الذي لن يأتي، فالاتكال على القاتل لن يجلب إلا القتل، وداعم العدوان لن يوقفه، فلماذا المراهنة الخاسرة من أساسها؟

الفوضى العارمة تقتات من تناقضات المشهد؛ لن تكون الضحية مع قاتلها في حالة وئام، كما لن يكون العدوان مدخلاً لسلام موهوم. فنحن أمام عصفورية معلومة الاتجاهات مجهولة المآلات. الخيارات وإن كانت محدودة لكنها واضحة؛ حالة عدوان تجتاح المنطقة بكاملها، دول تتقسّم وكيانات بدأت إرهاصات تبلورها بالظهور. تحالفات تُركّب على عجل وباصطناع موصوف. التركيبة القادمة واضحة المرتكزات إلا أنها تُبنى فوق رمال متحركة، الأفق وإن بدا مسدوداً غير أن ثمة منافذ لدخول النور. نحن أمام مرحلة انتقالية كبيرة وغير مسبوقة منذ سايكس بيكو؛ الخرائط بدأت بالتبلور والرسم بدأ بخطوط من الدماء والنار.

المأساة أن الكل متضررون لكنهم لا يحتجّون أو حتى يسألون. السير إلى المقصلة يتم في وضح النهار وعلى مرأى الجميع وتحت نظرهم؛ يُهلّلون للضحية الأولى وينتظرون أدوارهم؛ عصفورية مستمرة، لا براء منها. حالة الانكار معطوفة على عجز متأصل لا يؤدي إلا إلى ما نعيشه، فهل ثمة صراط ممكن السير عليه؟ الجواب ربما يكون أحجية يصعب حلّها؛ هي ليست مسألة نوايا ولا إرادات ولا فعل… بل موازين قوى يجب تعديلها أو تكوينها من خلال كسر بعض المحرمات-العوائق

فلسطين: بدأت مشوار انهاء قضيتها، فتآخي الجميع كي يستبيحوا حلم أبنائها؛ أوصياء الدم والقربى والجغرافيا غدروا بمئة عام من حلم مستحيل التحقيق؛ أزهقوا الأموال والأرواح وأطاحوا بالأحلام وما برحت القضية تصغر والأرض تصغر والناس يقلّون.

لبنان: وإن بدا دوماً على خط الدفاع الأول عن قضيته المزدوجة، إلّا أن المفارق فيه أصبحت واضحة المعالم والاتجاهات، فتذهب كلّ ملّة نحو وجهتها غير آبهة بما سيأتي.

سوريا: تعيش نقيضها، فقلب العروبة أصبح اليوم صاعقاً من الممكن أن يفجر الكيانات الموجودة إلى ملل تستجلب البسوس وداحس والغبراء كي تعيد رسم الخطوط فوق الرمال. أمّا البقية الباقية فمنذ زمن بعيد أسدلت الستارة على القضايا كي تتفرغ لأوهام البناء فوق الرمال وعلى المسطحات المائية.

نحن أمام سوريالية مرسومة بتناقضات يصعب تبيان أولها من آخرها؛ تتقاطع المتاهات بطرقها وتضيع باتجاهاتها. فأطول سندويشة لم تعد مقياس الكرم بل التباهي بمن يستطيع نزع الشعوب من قضاياها ليشغلها في التفاهات اليومية و”كفى المؤمنين شر القتال”. نحن أمام وضعية صعبة الحلّ وضيقة الخيارات ومحفوفة بمخاطر الضياع المطبق أصلاً على العقول قبل القلوب. فكل طرف يريد مصالحه، الكل متناقض وعليه لن تكون الخيارات في مصلحة الشعوب التي دأبت دوماً على تحمل النتائج.

ما يُطرح اليوم كخيارات أمام شعوبنا ودولها وأنظمتها هو كسر “اتفاقية سايكس بيكو” بكل مندرجاتها وما انتجت. هنا، تُصبح المسألة إيجابية لو أن البديل هو العودة إلى الوحدة العربية، أو أقله إلى إطلاق خيارات الشعوب العربية من سجن “القولبة” نحو خيارات أكثر حداثة وتحوّطاً. لكن هل فعلاً هذا ما يريدون؟

المطلوب اليوم أميركياً هو انهاء مفاعيل “سايكس بيكو” بدولها وحدودها وما انتجت، ولكن بأي ثمن وما البديل؟

الأميركي، ومن خلال سفرائه ومندوبيه، الذين يزرعون المنطقة ذهاباً واياباً، يعملون من أجل العودة إلى “نظام الملل العثماني” الذي كان سائداً في زمن تسيد السلطنة على منطقتنا؛ نظامٌ غلبت عليه الانتماءات العائلية والدينية والمذهبية. هنا مكمن الخطر الذي يدخل من باب إعادة تكوين المنطقة من أساسها وفق مناظير مختلفة. ولعل الخطورة في هذا الطرح تكمن في العودة إلى ما قبل الدولة الوطنية التي كانت البديل الذي فرضته “الأنوار” على الواقع السياسي الأوروبي، واستُكمل، وإن بطريقة مشوّهة، في بلدان عديدة بفرض الوجود المباشر من خلال بدعة “الانتداب”. ما تحاول فعله اليوم القوى المهيمنة هو تثبيت تقدمها المحقق في المنطقة وتحويله إلى حالة ثابتة؛ الاشراف أميركي-غربي، القيادة صهيونية، انهاء القضية الفلسطينية بمنح الفلسطينيين كيانات بحجم بلديات مع حكم محلي، تحت اشراف أمنى صهيوني ومالي غربي – عربي، وتعميم الحالة كي تُصبح المنطقة كما كانت مع بدايات القرن العشرين مع “حكم الرعيان”، المتوارث منذ موقعة مرج دابق وما تلاها من تبدلات وتقسيمات.

إقرأ على موقع 180  الإيروتيك العربي.. الذكورية والسلطة والكبت (2)

وماذا بعد؟

هي ليست أحجية مطلوب حلّها، بل واقع أصبح بجّله معلوماً: الجميع قال كلمته وفعل فعله ويتابع. المأساة أن الكل متضررون لكنهم لا يحتجّون أو حتى يسألون. السير إلى المقصلة يتم في وضح النهار وعلى مرأى الجميع وتحت نظرهم؛ يُهلّلون للضحية الأولى وينتظرون أدوارهم؛ عصفورية مستمرة، لا براء منها. حالة الانكار معطوفة على عجز متأصل لا يؤدي إلا إلى ما نعيشه، فهل ثمة صراط ممكن السير عليه؟ الجواب ربما يكون أحجية يصعب حلّها؛ هي ليست مسألة نوايا ولا إرادات ولا فعل… بل موازين قوى يجب تعديلها أو تكوينها من خلال كسر بعض المحرمات-العوائق التي توضع أمام الجمع والالتقاء، فمتى نستشعر الخطر الفعلي يسهُل علينا كثيراً فهم الأمور وتدبّرها فتصبح سهلة المنال، أو لنقل فيها شيء من الواقعية المرتكزة على تقديم الأساسي على الثانوي. فهل من يسمع ويتحرك ويتطلع ويفعل؟

Print Friendly, PDF & Email
حسن خليل

أكاديمي وكاتب سياسي، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  قصفُ القنصلية الإيرانية بدمشق.. المواجهة تدخل مرحلةً جديدةً