36 سنة على اتفاق الطائف.. وهذه رواية “دولة السيد”

في صباح يوم الأربعاء الحادي عشر من كانون الثاني/يناير عام 2023، فارقنا الرئيس حسين الحسيني، فاضت روحه إلى بارئها، وترك وراءه فراغًا كبيرًا في الحياة السياسة اللبنانية.

كلما اقتربت ذكرى رحيل “السيد”، يجد المرء صعوبة بالغة في التعبير عن الحضور الدائم لشخصه، ذلك الحضور الذي كان سيدًا متوجًا في كل لقاء أو حديث، حيث لم يكن مجرد سياسي أو مفكر، بل كان “دولة السيد” بحق، رمزًا للرصانة والموضوعية، وشخصية استطاعت أن تجمع بين المرجعية الدستورية والعمق التحليلي والإنسانية الصادقة. وهكذا، وجدت نفسي أمام هول رحيله، محاولًا الهروب من سكب حبر ممزوج بالحزن والأسى، إلى رواية بعض ما قيل عن مؤتمر الطائف، من مقدماته وظروفه ومداولاته وصولًا إلى نتائجه، محاولةً تقديم النص بطريقة تعكس الأحداث بدقة وتخفف من إلحاح الباحثين على نشر المحاضر الدقيقة، مع الإشارة إلى أن اتفاق الطائف أُقر رسميًا في 22 تشرين الأول/أكتوبر 1989، في مدينة الطائف السعودية وأقره البرلمان اللبناني في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر 1989، وهو التاريخ الذي أدخل لبنان في حقبة تاريخية جديدة.

كان الرئيس حسين الحسيني يؤكد في أحاديثه دائمًا:
“ليس هناك أدنى أهمية لما يسمى بالكواليس، المهم ما يحدث على خشبة المسرح وليس خلف الستار. تستطيع أن تقول ما تريد في الكواليس، ولكن الفعل السياسي، بما هو فعل سياسي علني، يجب أن يكون على خشبة المسرح، فالعلنية أساس القرار وتأثيره”.

بهذه الرؤية، كان الرئيس الحسيني يشرح المسار الذي أوصل اللبنانيين إلى اتفاق الطائف:
“اتفاق الطائف هو نتيجة تضافر وتنافس إرادات عديدة، محلية وعربية ودولية، ومن الصعب جدًا أن يدعي أي شخص أنه كتب فقرة معينة بخط يده وأن الآخرين صُعقوا لذلك. هذا الكلام ببساطة كذب”.

الحقائق والأوهام

وخلال أيام مؤتمر الطائف، كان “دولة السيد” يوضح أن الاتفاق يتكون من نصين: نص واقعي يتناول الواقع السياسي والاجتماعي، ونص خيالي له تأثير لا يقل عن النص الواقعي في تشكيل التوجهات والقرارات المستقبلية. مثال ذلك التوزيع الطائفي للرئاسات الثلاث، الذي يُشاع أنه كُرّس في الطائف، بينما النص الفعلي لم يشر إليه، بل يتم تفسيره بشكل خاطئ عبر مواقف وأحداث لاحقة. وقد استشهد الرئيس الحسيني بعدة أمثلة لتوضيح ذلك:

  1. السفارة الأميركية في بيروت كانت تصدر سنويًا تقارير عن حقوق الإنسان تضمنت، في بعض السنوات، أن اتفاق الطائف كرّس التوزيع الطائفي للرئاسات، ولكن بعد توضيح الحقيقة تم تصحيح هذه التقارير.
  2. العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله كان يُعبّر عن عتبه على الرئيس الحسيني، ظنًا منه أن الطائف كرّس هذا التوزيع، لكنه عدّل موقفه بعد التوضيح.
  3. المؤرخ اللبناني كمال صليبي ذكر ذات الأمر، وعند توضيحه له لم يستنكر، بل أعرب عن استغرابه فقط.
  4. الشاعر سعيد عقل، في مناسبة عشاء، توجه إلى الرئيس الحسيني ليعبّر له عن عتبه على إدراج نص يقول بعدم جواز أن يكون رئيس الجمهورية إلا مارونيًا، فأوضح له الرئيس الحسيني أن ذلك لم يُدرج، وأكد الرئيس سليم الحص صحة ذلك.

ويصف الرئيس الحسيني ردة فعل الشاعر سعيد عقل بأنه الأصدق والأكثر تأثيرًا، لأنه عبّر عن إحساسه مباشرة، قائلاً:
“عجيب من وضع لي هذه الفكرة في رأسي”، مشيرًا إلى أن النص الخيالي له تأثير طويل الأمد على التجربة السياسية اللبنانية، وهو ما يسمّيه الرئيس الحسيني “النص الخيالي”، الذي غالبًا ما يبتلع النص الواقعي، ويصوغ إدراك المجتمع للأحداث.

كما أشار الرئيس الحسيني إلى أن النص الخيالي ليس مجرد وهم أو خيال، بل جزء من التجربة السياسية اللبنانية، مثال ذلك ميثاق 1943، الذي لم يُكتب حرفيًا في وثائق، لكنه شكل قاعدة سلوك سياسية وتأثيرًا طويل الأمد، وكأن له وجودًا فعليًا. وأضاف:
“لكل حدث عدة روايات ممكنة وموضوعية، وليس هناك رواية واحدة، لأن الأحداث تُرى من زوايا مختلفة، وتتفاعل مع مصالح وأبعاد متعددة”.

يشرح الرئيس الحسيني كيفية تشكيل لجنة الصياغة في الطائف (لجنة العتالة)، وكيف تم وضع الوثيقة النهائية في آخر اجتماع قبل الإعلان الرسمي، مع الإشارة إلى أن شقيقه طلال الحسيني استمر بالاحتجاج على تسمية اللجنة بـ”لجنة العتالة”، دون أن يُؤخذ باحتجاجه، واستمر في ترداد الاسم، وهو جزء من التباين الشخصي داخل عملية صياغة الاتفاق، لكنه لم يؤثر على الجوهر السياسي للوثيقة.

وعقد المؤتمر عدة جلسات عامة على مدى خمسة أيام، قدم خلالها النواب خطاباتهم ومطالبهم، ووصلت الأمور أحيانًا إلى حد اتهام رئاسة المؤتمر بالمماطلة والتواطؤ مع الحكم السوري، إلا أن الحجة الأقوى جاءت على لسان طبيب وبرلماني لبناني (شارك في مؤتمر الطائف) متخصص بالأمراض النفسية:
“إذا جاءني أحد ليتحدث معي، فلا يجب أن أغلق فمه، بل يجب أن أستمع إليه لأعرف ما يؤلمه، لأن في ذلك فهمًا للحقيقة ومعالجة للأزمات”.

الطائف.. إستثنائي بكل معنى الكلمة

إقرأ على موقع 180  تركيا "تنتصر" سورياً.. هل تشتبك مع إسرائيل؟

عُقِدَ مؤتمر الطائف على مدى عشر جلسات خلال خمسة أيام، وخرجت كل جلسة بمحاضر دقيقة تسجل آلام النواب وآمالهم ومطالبهم، لتُشكّل المسودة التجريبية التي أخذت بالاعتبار كل هذه التفاصيل، وتمت الموافقة عليها من قبل الرئيس الحسيني والبطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير وثلاثة من رؤساء الوزراء السابقين (من المشاركين في المؤتمر وهم صائب سلام ورشيد الصلح وامين الحافظ)، بمتابعة حثيثة من الرئيس السوري حافظ الأسد، لضمان التوافق الإقليمي والدولي عليها.

في هذا الوقت، لم يكن النواب منقطعين عن العالم، بل كانوا على اتصال دائم بالقيادات السياسية اللبنانية والعربية والدولية، وكان العماد ميشال عون وسمير جعجع ونبيه بري ووليد جنبلاط على متابعة مستمرة من خلال عدد من النواب الحاضرين، فيما كان حزب الكتائب ممثلًا برئيسه جورج سعادة. وكان السوريون، السعوديون، الأميركيون، والفاتيكان على اطلاع دائم على مناقشات المؤتمر ومسوداته، بينما كانت إيران الأبعد عن كل تفاصيل مؤتمر الطائف.

توزعت الاجتماعات بين جلسات عامة وجلسات لجنة الصياغة واجتماعات جانبية بين المجموعات المختلفة، بالإضافة إلى اجتماعات بين رئاسة المؤتمر واللجنة الثلاثية العربية برئاسة الأخضر الإبراهيمي، لمناقشة المحاضر الدقيقة والموافقة على أي اتفاقات جزئية، مع التأكيد أن معظم النقاشات الحقيقية حدثت خارج الاجتماعات العامة، حيث لعبت لجنة الصياغة دورًا حاسمًا في تسويق مقترحات تم التوصل إليها في الاجتماعات الجانبية.

ويشير الرئيس الحسيني إلى أن ما يثير الدهشة حقًا أن مؤتمر الطائف عقد بينما كان لبنان يعاني من الحرب والدمار، حيث لم يكن بالإمكان الاجتماع بسهولة داخل لبنان، وإنما سافر النواب إلى الطائف لتوفير الظروف المناسبة لإعادة بناء الدولة وإنهاء الحرب. وبرغم كل الصعوبات، تمكن المجتمعون من التوصل إلى أفضل نتيجة ممكنة في ظل الحرب، مع إدراكهم أن كل نص، سواء كان واقعيًا أو خياليًا، له أثره على القرارات السياسية والاجتماعية في لبنان لعقود طويلة.

وأكد الرئيس الحسيني أن مجتمعًا لا تكافأ فيه المحسنات ولا تُعاقب فيه المسيئات هو مجتمع في طريقه إلى الانحلال، فالحقوق الدستورية هي علاقة بين إرادات متعددة، وما تحقق في الطائف كان استثنائيًا في ضوء الظروف المحيطة به. وبرغم أن لبنان ما زال محكومًا من المنظومة نفسها، فإن حلم تطبيق الدستور وتحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية لم يمت، بل يتحقق تدريجيًا، خطوة خطوة، انطلاقاً من المعادلة التي ظل يعشقها الرئيس الحسيني حتى الرمق الأخير: لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، عربي الهوية والانتماء.

هؤلاء هم نواب الطائف.. ومن غابوا عن الطائف
النواب اللبنانيون الـ62 الذين أعدوا وثيقة الطائف وصوّتوا عليها هم:
حسين الحسيني، عادل عسيران، صائب سلام، رشيد الصلح، امين الحافظ، رينيه معوض، جورج سعادة، بطرس حرب، بيار حلو، مخايل الضاهر، ادمون رزق، الياس الهراوي، اوغيست باخوس، الياس الخازن، عبد اللطيف الزين، محمد يوسف بيضون، محمود عمار، علي الخليل، انور صباح، رفيق شاهين، كاظم الخليل، نزيه البزري، جميل كبي، زكي مزبودي، طلال المرعبي، عبد المجيد الرافعي، صالح الخير، نجاح واكيم، زاهر الخطيب، توفيق عساف، فريد جبران، عبد الله الراسي، جوزف سكاف، البير منصور، ميشال معلولي، طارق حبشي، نصري المعلوف، حسين منصور، خاتشيك بابكيان، بازايك مانوكيان، ملكون ابلغتيان، سالم عبد النور، احمد اسبر، عبد المولى امهز، شفيق بدر، هاشم الحسيني، نديم سالم، منيف الخطيب، موريس فاضل، يوسف حمود، حميد دكروب، عثمان الدنا، فؤاد نفاع، حسن الرفاعي، ادوار حنين، علي العبد الله، بيار دكاش، فريد سرحال، صبحي ياغي، جبران طوق، حبيب كيروز، وميشال ساسين. أما النواب الـ 11  الذين غابوا فهم: كامل الأسعد، ريمون اده، البير مخيبر، سورين خان اميريان، رائف سماره، اميل روحانا صقر، راشد الخوري، عبده عويدات، باخوس حكيم، ارا يروانيان، وفؤاد الطحيني.
Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  النّزول في دار كارل بوبر.. هل ينفع الفكر الإسلاميّ جذريّاً؟ (2/2)