تكمن خطورة هذا الحدث في أنه استهدف مركزاً دبلوماسياً يحظى بالحصانة الدولية، إلى جانب اغتيال شخصيات عسكرية إيرانية بداخله، وهذا يُؤشر لسلوك إسرائيلي أكثر تهوراً في التعامل مع أطراف جبهة المقاومة في إطار إستراتيجية “الصدم والترويع” التي ينتهجها العدو منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر والتي خرجت عن كل قواعد السلوك العسكري المقبولة دولياً. واعتبرت مصادر إسرائيلية أن الهجوم على القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية هو ردٌ على مجموع السلوك الإيراني المناهض لإسرائيل بعد السابع من تشرين/أكتوبر.
وسبق أن خسرت إيران مجموعة من القادة العسكريين رفيعي المستوى في سوريا في سلسلة غارات شنّها العدو على دمشق ومحيطها في الشهور القليلة الماضية، شملت أبنية مدنية ومزارع أقام فيها الضباط الإيرانيون، لكن استهداف القنصلية بغارة جوية نهارية بهذا الوضوح هو شيءٌ جديدٌ تماماً على الساحة الدولية.
استناداً إلى حصيلة ردود الفعل الإيرانية على استهداف القنصلية في دمشق، لن تتمكن إيران من “ابتلاع” هذا الإعتداء واعتباره مجرد تضحية ضرورية تُقدّمها على طريق تحرير القدس. وتمثل المكانة والهيبة عاملاً مؤثراً في اتخاذ القرار، إلى جانب المزاج الشعبي العام في إيران الذي يدعو صراحة للرد بالمثل
تاريخياً، تعاملت الجمهورية الإسلامية مع التحديات الأمنية التي استهدفتها بطرق عدة. ويحضرنا هنا نموذجان:
النموذج الأول؛ هجوم حركة “طالبان” على القنصلية الإيرانية في مدينة مزار شريف شمال افغانستان عام 1998، والذي أدى إلى مقتل 10 دبلوماسيين وصحافي إيراني. حينذاك، خلص مجلس الأمن القومي في إيران إلى ضرورة اتخاذ إجراء عسكري رداً على ما جرى، لكن قائد الثورة السيد علي الخامنئي أوصى بعدم اللجوء الى إعلان الحرب على “طالبان” تحسباً لانزلاق إيران الى مواجهة قد تستفيد منها الولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص. وكان أن كثّفت الجمهورية الإسلامية دعمها لقوى تحالف الشمال الأفغانية المناهضة لحركة “طالبان”، ما شكّل رداً غير مباشر على مذبحة مزار شريف.
النموذج الثاني؛ إقدام طائرات أميركية على اغتيال قائد “قوة القدس” اللواء قاسم سليماني قرب مطار بغداد مطلع العام 2020 مع نائب رئيس “هيئة الحشد الشعبي” العراقية أبي مهدي المهندس وعدد من رفاقهما. في هذه الحالة تحديداً، رأت القيادة الإيرانية أن التعرض لشخصية عسكرية إيرانية رفيعة تُعدّ رمزاً وطنياً خلال زيارة رسمية الى العراق يُعتبر تحدياً للكرامة الوطنية من جانب دولة أجنبية، وليس من قبل فصيل مسلح أو عصابة مارقة، وهو يهدف الى تطويع إرادة إيران وكسر هيبتها في شكل حاد وفجّ. جاء قرار قصف قواعد ترابط فيها قوات الإحتلال الأميركي في العراق بصواريخ بالستية دقيقة ليُشكّل رداً مباشراً على الإغتيال، وتجاوزاً لدعوات الرد غير المباشر عبر فصائل المقاومة.
أيُّ النموذجين ستختار إيران رداً على قصف قنصليتها في دمشق واغتيال قائد “قوة القدس” في سوريا ولبنان ونائبه ومرافقيهما؟
في الجواب على هذا السؤال، لا بُدّ من التوقف عند الصورة العامة التي تحكم المشهد الحالي للصراع:
أولاً؛ إعتادت إيران على مدى الفترة الماضية أن تدير المواجهة مع العدو باستراتيجية النفَس الطويل عبر تمكين قوى المقاومة وتأهيلها للقيام بدورها في التحرر من الإحتلال، حتى لو أدى ذلك إلى دفع الجمهورية الإسلامية أثماناً متنوعة، سياسياً وأمنياً واقتصادياً. وترى النظرة التقليدية الإيرانية أن نجاح هذا المسار يتطلب أن لا تكون في واجهة الصراع العسكري، لأن المواجهة المباشرة مع كيان العدو ستقود حكماً الى مواجهة مع الولايات المتحدة الراعي الرسمي لإسرائيل، ويسعى العدو الى توريط أمريكا في مواجهة من هذا النوع من خلال استهداف إيران على نحو متكرر أمنياً وعسكرياً. هنا قد يكون على إيران أن تعيد النظر في طريقة مواجهة الإستفزازات الاسرائيلية بحيث تستطيع تشكيل نوع من الردع يحمي قواتها ومؤسساتها في سوريا وحضورها العام في المنطقة، وفي الوقت نفسه تقليل احتمالات المواجهة العسكرية المباشرة مع الولايات المتحدة، وهو الهدف الذي تسعى اليه إسرائيل منذ عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما.
ثانياً؛ يُمكن افتراض وجود رابط بين ما يجري في الأراضي المحتلة والإعتداءات المتصاعدة على الأراضي السورية. فقد وقع العدوان على القنصلية الإيرانية في دمشق بعد ساعات من وقوع ما وصفه إعلام الإحتلال بحدث استثنائي: ليل الأحد- الاثنين، وقع هجوم ناجح بمسيرة أطلقت من العراق أصابت مستودعاً لم تُحدّد طبيعته في قاعدة بحرية لجيش الاحتلال في إيلات. وبحسب مصادر العدو، كادت المسيرة أن تصيب بارجة متطورة من نوع “ساعر 6″ كانت راسية في الميناء. ولم يكشف العدو عن طبيعة الأضرار التي لحقت بالقاعدة، لكن الصور التي تم توزيعها تُظهر حدوث فجوة كبيرة في الجدار الخارجي للمستودع. ومؤخراً، أعلن العدو عن ضبط كمية من الأسلحة والذخائر المرسلة الى الضفة الغربية بينها ألغام مضادة للآليات وعبوات ناسفة فتاكة وقاذفات صواريخ مضادة للمدرعات وسوى ذلك، وألقى بالمسؤولية عن توريدها على وحدة العمليات الخاصة التابعة لـ”قوة القدس” في سوريا. وتبع ذلك غارات على مواقع في محافظة دير الزور ومن ثم حلب استهدفت مراكز وبنى تحتية للمقاومة والجيش السوري. وتشير معطيات إلى أن الجمهورية الإسلامية زادت بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر وتيرة الدعم لقوى المقاومة في ساحات اليمن والعراق وفلسطين ولبنان ووفّرت لها أسلحة من شأنها أن ترفع كلفة الحرب على العدو.
اشتداد المأزق العسكري الإسرائيلي في غزة سيؤدي إلى رفع منسوب التوتر الوجودي الذي يعيشه كيان العدو، وإلى محاولة توسيع “هامش الأمن” الذي يشتغل عليه، إعتماداً على تغطية أميركية مفتوحة
ثالثاً؛ يحاول العدو تقليص قدرة إيران على تقديم الدعم لقوى المقاومة في فلسطين ولبنان بشكل خاص، عبر توجيه ضربات لقوافل الأسلحة والإمدادات والخبراء الذين لهم باع طويل في هذا المجال. وإمدادات الدعم الإيرانية لا غنى عنها لأي فصيل مقاوم، لأنها تتلاءم مع بيئة الحرب الشعبية التي تخوضها المقاومة، كما أنها تتوفر من جهةٍ تساند المقاومة بدون شروط ولم تتزحزح عن طريقها طوال العقود الماضية بالرغم من كل الضغوط والعقوبات والإغراءات. وقد قدّمت إيران قدرات قتالية هامة لقوى المقاومة مكّنتها من تحقيق إنجازات ملموسة في مسار الصراع، وحملت العدو على الإنكفاء وانتهاج سياسة بناء الجدران في ما حوله. وفي هذه النقطة، لا شيء يشير إلى أن إيران ستتراجع عن نهجها في مساندة المقاومة ضد العدو، لأن الموضوع يتصل ببُعد إستراتيجي وعقائدي مُسلَّم به في إيران. ومن المعتقد أن الهجوم على القنصلية الإيرانية سيزيد من وتيرة الدعم لفصائل المقاومة كمّاً ونوعاً، وذلك ربطاً بتصاعد المواجهة وحتمية تقديم ردود مناسبة على التحدي الإسرائيلي.
رابعاً؛ يتصرف العدو في فترة ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر على قاعدة أنه أصيب بالجنون ولم يعد يُقيم وزناً للقواعد والإعتبارات التي كان مُرغَماً على التقيد بها في المرحلة السابقة. وفي ضوء الإسناد السياسي والعسكري المفتوح من الولايات المتحدة وحكومات غربية عدة، يوغل الكيان الصهيوني في مذابح يومية وجرائم إبادة من دون أن يخشى أي مساءلة لاحقة، وهو شكل من “إدارة التوحش” أكثر تطوراً بكثير مما شاهدناه في نكبة عام 1948. ويتفاقم سلوكه هذا في ضوء عجزه عن تحقيق انتصار واضح في غزة، ما خلا التدمير المنهجي للحياة البشرية ومقوماتها. وفي هذا المجال، تشتدّ الحاجة إلى مجابهة السلوك الإجرامي الصهيوني، على قاعدة أن على أحد ما أن يُجنّ لمجابهة الجنون الإسرائيلي وإيجاد معادلة جديدة.
في الخلاصة، واستناداً إلى حصيلة ردود الفعل الإيرانية على استهداف القنصلية في دمشق، لن تتمكن إيران من “ابتلاع” هذا الإعتداء واعتباره مجرد تضحية ضرورية تُقدّمها على طريق تحرير القدس. وتمثل المكانة والهيبة عاملاً مؤثراً في اتخاذ القرار، إلى جانب المزاج الشعبي العام في إيران الذي يدعو صراحة للرد بالمثل، وقد خرجت تظاهرات عفوية بعد الغارة في أنحاء عدة من إيران تطالب بالإنتقام. ويشير ذلك كله إلى أن المنطقة مقبلة على تصاعد في الأحداث خلال الفترة المقبلة، مع الأخذ في الإعتبار أن اشتداد المأزق العسكري الإسرائيلي في غزة سيؤدي إلى رفع منسوب التوتر الوجودي الذي يعيشه كيان العدو، وإلى محاولة توسيع “هامش الأمن” الذي يشتغل عليه، إعتماداً على تغطية أميركية مفتوحة.