عماد الدين رائف12/04/2020
من كان ليتخيل مدينة صور بلا مقاهيها؟
أنا لا أتحدث عن كورنيش صور البحري الذي كانت قد احتلته المطاعم و”الكافييات الفاخرة”، ذات الأسماء المستوردة من العاصمة، أو من عواصم أخرى. فكان نصيب تلك المطاعم والمقاهي أن أغلقت أبوابها مع بداية إعلان التعبئة العامة، وأقفر الكورنيش واختفى مرتادوه الهابطون إليه من الجوار ليقضوا ساعة أو ساعتين فينفقوا ما في جيوبهم قربة إلى وجه البحر وسحره. وبات يقال اليوم أن الشرطة تسطر محاضر ضبط لكل من ضُبط متلبسًا بالتنزه…
أنا أتحدث عن المقاهي الشعبية التي تملأ المدينة – “الأهاوي”، في كل زقاق من أزقتها مقهيان أو ثلاثة، ولكل واحد منها زبائنه الدائمون، ولكل زبون منهم مقعده الأثير. أولئك الزبائن الذين تحولوا مع الزمن إلى جزء من المكان، لهم مواعيد وعادات محددة. والسؤال الرائج في صور “وين بتقعد؟”، معناه في أي مقهى تقضي أوقاتك؟ وأين يمكنني أن أجدك عادة؟ كان الآلاف من أبناء المدينة يقضون أوقاتهم – يوميًا وبشكل دائم – في هذه المقاهي الشعبية، التي تحتل كراسيها الأرصفة والزوايا، لا يخرجون من بيوتهم اليوم.
“الدقة”، “فران”، “الجركس”، “مصطفى ناصر”، “علي نتشه”، “مصطفى غريّب”، “البوصي”… عشرات المقاهي الشعبية المقفلة في وجه مرتاديها، الذين لم يكونوا مرتادين عاديين بل جزءًا من المكان والمشهد العام للأزقة والحارات. في السابق، قد ترى شخصا لا تعرف اسمه، لكنك تتوقع أن تشاهده في مكانه المحدد كجزء من الصورة المحفوظة في ذاكرتك، والمتكررة التحديث يومًا إثر اليوم. أين هو الآن؟
لا تكمن المسألة في الحصول على فنجان قهوة، “كبسة” أو “كبسة ونص، مُرّة”، بل في الجلوس والنظر إلى زاوية محددة والتدخين و”تجاذب أطراف الحديث”، فكيف هو الأمر الآن إن طلبت هذا الفنجان “ديليفري”؟ سيأتي فنجان “كرتون أو بلاستيك” إليك، لكن الأمر ليس من باب “احتساء القهوة لاحتساء القهوة”، ليس إدمانًا على الكافيين فحسب، بل هو إدمان أكثر رحابة.. لن يترافق فنجان القهوة الكرتوني مع المشهد، أو الروائح، أو الأصوات، أو الحديث الذي لا ينقطع ولا تنضب أطرافه. إنه مجرد سائل حار سيبرد بعد قليل.
بائسة هي هذه القهوة السوداء في فنجان أتاك “ديليفري”. بائسة هي هذه المدينة بلا قلبها النابض بالناس.. مدينة المقاهي المقفلة.