هي إمتحان مؤلم لنا. نكتم مسيرتها وهيئتها. تُعامِل الناس كمشبوهين. تحتشد في عالم فوجئ بنقص المناعة وندرة الشفاء. برغم كل إرتكاباتنا لا نستحق هذه العقوبة المستدامة. يكفينا ما عندنا من عقوبات سياسية ودينية وإجتماعية ورأسمالية. لسنا في حماية أحد. الجبن والإختباء والخوف فضائل تمنع الكورونا من إجتياحاتها.
تغيَرنا كثيراً. لا نشبه أنفسنا ابداً. مشتاقون إلى مصافحة، إلى لمسة يد، إلى قبلة، إلى اشتهاء. أيادينا باتت صالحة لمراسم الوداع من بعيد. عندما نضحك بصوت مرتفع جداً وصاخب، هذا يعني أننا ساخطون وليس في يدنا حيلة. أصدقاؤنا الجميلون، كاتمو أسرارنا وخطايانا، صاروا غرباء. نسينا مخيلتهم وأمانة سرهم. كل صداقة شبهة مرضية. فيا أصدقاءنا نحن أصدقاؤكم الممنوعون. كل شهواتنا النبيلة واللذيذة والشبقة محفوظة في مكان معتم. نرضى بالقليل من الكلام كي لا يصير الصمت ديانتنا.
تغير العالم كثيراً. يستيقظ على عداد الموتى وينام على توقع الأسوأ. لم يكن ذلك متوقعاً. كنا نعيش صراعاتنا كالعادة. كنا كلبنانيين إعتدنا على جمهورية الغلط. نعرف أسماء من نلعنهم صبحاً ومساءً. نعاني من بؤس سياسي غير مسبوق. أبواب الجحيم كلها نرتادها، وهي مفتوحة وتزداد انفتاحاً. شيء من جهنم نعيشه كل يوم. أقصد بكل يوم، كل ساعة وكل دقيقة. لعنة كبرى أن تكون لبنانياً. اللبنانيون صاروا بلا لبنان. لبنانهم الماضي انقضى. لبنان الحاضر ينتفون ما تبقى منه. صار أشلاء. يتناوبون على ما تبقى منه كالكلاب المسعورة. لبنان المستقبل وهم. ما فينا يكفينا. لا رغبة في ترداد معزوفة السقوط في الهاوية. لا رغبة في تذكير اللبنانيين بما ارتضوه من دين مسموم يدينون به. لا رغبة بإستضافة ما هو أبدع من الكورونا ألف مرة. الطائفية ديانة المجرمين والقتلة والسفلة والسياسيين والقادة ومن معهم من أحذية بشرية.
أفترض حقاً أنني أغالي. مصاب بشبهة التشاؤم وفقدان الأمل. لكني، أدافع عن نفسي، بأن هذا ما أريد قوله، لأني إبن لبنان منذ مئة عام. وقد عايشت فيه كل عيوبه. ما يحدث الآن حدث مراراً من قبل. وهو ليس مرشحاً للموت، لأن الطائفية تحييه، فهي أقوى من الله. ما نعرفه، أنه يميت ولا يموت
أعترف بأني جاهل جداً. كل ما حولي يؤلمني ويؤنبني. كلما قلت شيئاً يتبين لي أن هذا الكلام ليس ما كنت أريد قوله. أفضل الكتمان. أفترض عن جد، أن الجهل نعمة. يا لجهلي أعيش كالبهيمة. لكن الموت بعينين مفتوحين يقسمان لك المسافة لتحارب الزمن والشيخوخة والغلط. تقف وتقول، لا يعقل أن ينتهي لبنان بين يدي هؤلاء الكورونيين، من دون أن تصيبهم صفعة يستحقونها من دون أذية أو لكمة أو ضربة على جلافة ضمائرهم.
هذا مجرد هذيان. هؤلاء الملعونون هم أنبياؤنا، وصفقاتهم وسرقاتهم وسخفهم وسياساتهم، هي آياتهم البينات. يلزم أن نكف نهائيا عن مباشرتهم وسماعهم وتعفير ضمائرنا بجريرتهم. وإذا كان لا بد من فعل ما، فلا بد من التعامل معهم بمطرقة. هذه شهوة مستحيلة. عبيدهم أقوى من شياطين جهنم.
الأبواب مقفلة. هم يغلقون كل الأبواب. ونحن الأسرى، والكورونا يهددنا من خلف أسوارنا ومنازلنا وموارد رزقنا… العالمون بالكورونا يحاولون طمأنتنا بأن اللقاح سيحمينا. لكن أحداً آخر لم نسمع منه ما يطمئننا على يومنا وغدنا. قد يرحل الكورونا عنا وقد يموت. أما منتهكو حياتنا وأحلامنا وأيامنا وأخلاقنا وأموالنا، فباقون عندنا وفوقنا وضدنا… قد نهزم الكورونا، ولو بعد عذاب وخسران، لكن لا أمل بهزيمة آلهة الطائفية أبداً.
هل هذا ما كنت أريد قوله كتابة؟
لا أعرف… ما قيمة كل هذا الكلام؟ أننا جميعاً في الجهة المعتمة من المشهد.
أفترض حقاً أنني أغالي. مصاب بشبهة التشاؤم وفقدان الأمل. لكني، أدافع عن نفسي، بأن هذا ما أريد قوله، لأني إبن لبنان منذ مئة عام. وقد عايشت فيه كل عيوبه. ما يحدث الآن حدث مراراً من قبل. وهو ليس مرشحاً للموت، لأن الطائفية تحييه، فهي أقوى من الله. ما نعرفه، أنه يميت ولا يموت.
يضحك التفاؤل مني عندما أنصح بالابتعاد عنه، ويقول لي: الموت لا يأتي بالعدوى مثل الكورونا.
هل تؤمن بالأمل؟ أُجيبه: أي ألم هذا؟ ثم أُرضي نفسي وأقول “الحياة ليست هي نفسها دائماً. فلنصمت كثيراً. الألم من أدوات الأمل”.