مختبر زياد الرحباني.. التفرد فنّاً ومعرفةً

لم يكن زياد الرحباني يومًا فنانًا عابرًا في المشهد اللبناني، ولا مبدعًا يختبئ خلف الأسلوب أو الظرف أو حتى السلالة الفنية. بل كان دائمًا صانعًا لنمط خاص من المعرفة الفنية، متجذّرة في تفاصيل الحياة اليومية، ومشبعة بفهم نفسيٍّ وثقافيٍّ عميق للواقع الذي يعيشه ويعيد إنتاجه. من هنا، لا تُقرَأ أعماله بوصفها تعبيرات جمالية فحسب، بل كـنظامٍ معرفيّ متكامل ينشأ من الذات وينفذ إلى بنية المجتمع.

لأنّ لكل معرفة شروطها وأدواتها، فإن مقاربة تجربة زياد الرحباني تتطلب فهمًا للكيفية التي تُنتَج بها المعرفة خارج قوالب الموضوعية العلمية الصلبة. في هذا السياق، تضيء أفكار عالم الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي جورج ديفرو (Georges Devereux) الطريق لفهم ما يمكن تسميته بـ”إبستمولوجيا زياد” – أي كيف يبني هذا الفنان معرفته الخاصة من موقع ذاتي وثقافي ونفسي متفرّد.

***

في مسرح زياد الرحباني، لا نُصادف حكايات تقليدية ولا شخصيات مرسومة بحدودٍ نمطية. نُصادف بدلًا من ذلك حوارات من الحياة اليومية، ضجرًا من العمل، شتائم في المقهى، وانكسارات حميمة، لكنها تشكّل نسيجًا معرفيًا عن لبنان من الأسفل، من الشارع، من قعر التجربة الحسية. هذا النوع من الفن لا يهدف إلى تمثيل الواقع بل إلى خلقه من جديد عبر عين حادّة، ذات مرجعية داخلية لا تعترف بالمطلق أو الجاهز.

في هذا الإطار، تصبح الذات — لا الموضوع — هي مركز الثقل. ما يراه زياد، ويشعر به، ويعيد تركيبه عبر شخصياته ونصوصه، هو في جوهره معرفة لا يمكن فصلها عن منبتها. وهنا، تتقاطع تجربته مع ما أشار إليه ديفرو: المعرفة لا تُبنى إلا عبر الذات، من موقعها النفسي والثقافي، لا من موقع المراقب المحايد.

***

ما يفعله زياد بالعامية اللبنانية يتجاوز الاستخدام البلاغي. فهو يعيد الاعتبار إلى اللغة كموقعٍ للصراع الطبقيّ، والتمثيل الهوياتيّ، ومصدرٍ للمعرفة المضادة. المسرحيات مثل فيلم أميركي طويل أو بالنسبة لبكرا شو؟ تستخدم العامية لا لتقليد الناس، بل لتفجير المسكوت عنه، لفضح التركيبة العرجاء التي تقمع المشاعر وتُجمّل الواقع.

بهذه اللغة، يصنع زياد “أرشيفًا شعبيًا” يختزن داخله سرديات المهمّشين، ونقد السلطة، وهواجس الطبقة الوسطى، ويعيد تقديمه عبر مشهدية تتداخل فيها الهزلية بالانكسار. هنا، المعرفة ليست معطى رسميًا، بل فعل تفكيك وإعادة تركيب.

***

السُخرية عند زياد ليست زينة شكلية ولا أسلوبًا مسليًا، بل هي أداة تفكيك حادّة. هي الطريقة التي يُمرّر بها أسئلته المؤلمة حول السياسة، الطائفية، الفقر، والاغتراب. إنها عدسة نفسية تعكس هشاشة الجماعة وارتباك الفرد، وتحوّل الضحك إلى فعل مقاومة.

من هذا المنظور، السخرية ليست تنفيسًا، بل فعلًا إبستمولوجيًا. فهي تفترض تموضعًا ذاتيًا حساسًا، وقدرة على قراءة البنية من داخلها. كما يرى ديفرو Devereux، لا تنفصل المعرفة عن آليات الدفاع النفسية والتجربة الداخلية. وزياد، في سخريته، يُجسّد هذه العلاقة المعقّدة بين الداخل والخارج، بين القسوة والضحك.

***

ليس من المبالغة القول إن زياد الرحباني ينتج معرفة فنية عن لبنان لا يستطيع السياسي ولا الباحث ولا الصحافي الوصول إليها. هذه المعرفة ناتجة عن معايشة عضوية، عن فوضى مختبرة من الداخل، عن صوت يأتي من “الهامش” لكنه يرى المركز بوضوح مذهل؛ فشخصياته ليست رموزًا مجرّدة بل ناسٌ من لحمٍ وقلق. أمّا مشاهده فليست تمثيلات بل طقوس اعتراف. هنا، المعرفة تُنتج لا تُكتشَف، تُصاغ من حطام اليوميّ، من تناقضات المدينة، من الأحاديث العابرة، والألم الخفي. وهذا ما يجعل زياد، لا مجرّد فنان ملتزم، بل صاحب موقف معرفي مستقلّ، تنبع قوته من تفرّده لا من انتمائه.

***

حين ننظر إلى تجربة زياد الرحباني من خلال عدسة “التفرّد المعرفي” الذي نظّر له جورج ديفرو (Georges Devereux)، نراه لا كمجرّد مبدع، بل كمفكر عضوي يصوغ معرفة متجذّرة في ذاته، ومتورّطة في الواقع الذي يحياه. فالمعرفة عند زياد لا تأتي من فوق، بل من تحت؛ لا تتأسس على الحياد، بل على التجربة.

في الخلاصة، تفتح إعادة قراءة زياد على هذا النحو الباب أمامنا لفهم الفن بوصفه أداة تفكير، لا مجرّد وسيلة تعبير. فنحن أمام فنان لا ينقل الواقع، بل يُفكّكه ويعيد صياغته بمعجمه الخاص، بتوتراته الداخلية، بجرأته على خوض مناطق الحرج؛ وهذا، بحد ذاته، شكل نادر من المعرفة.

اليوم غاب زياد عن تراجيديا الحياة اليومية وغابت معه إبستمولوجيته وتفرّده المعرفي.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  ما بعد الدولة، ما قبل النظريّة.. التشظي مختبراً للحرية الجديدة (1)
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  مازن عبود.. سيرة مقاوم لبناني منسي