

إيران ليست سهلة الفهم. دولةٌ تعرف كيف تُخفي أهدافها تحت عباءة الدين. تُحوّل المظلومية إلى استراتيجية والجغرافيا إلى نفوذ. وقد لاحظ الكاتب العربي محمد حسنين هيكل أن مصر قبلت العروبة ورفضت الإسلام عند انتشاره خارج الجزيرة العربية. بينما قبلت إيران الإسلام ورفضت العروبة. ولعل أكبر دليل على ذلك أن الإيرانيين، سواء أكانوا من المحافظين أو الإصلاحيين أو القوميين أو من هذه الأقلية أو تلك، ما زال أكثرهم يرى في الفتح الإسلامي غزواً عربياً وليس فتحاً إسلامياً. نظرة لا تقتصر على النخب بل تمتد إلى الثقافة الشعبية. من هنا، تأتي النظرة العربية إلى إيران بوصفها دولة لا تُكنّ الحب للعرب. لكنها نظرة تختزل إيران وتُبسّط تعقيدها التاريخي والسياسي.
هذا التحليل يُلقي الضوء على عمق تأثير الانتشار الإسلامي إبّان عصر الفتوحات الإسلامية على الهضبة الإيرانية. ففي ذلك الزمان ترافق انهيار الإمبراطورية الساسانية التي سادت منطقة الشرق الأوسط لقرون عديدة مع دخول الدعوة الإسلامية إلى بلاد فارس. يومها سكن فراغ القوة ديار فارس واندثرت كيانية الهضبة المتمثلة بالدولة المركزية في قلبها وتحديداً في منطقتي أصفهان وتبريز.
***
دخلت الهضبة الإيرانية ولمدة طويلة في التيه الاستراتيجي. توالت الغزوات والتدخلات الخارجية مع تبعثر شديد لأهلها بين مجموعات قبلية وعرقية ومناطقية. ظلّت البلاد قروناً من دون دولة مركزية قوية، ما أدى إلى ترسخ الحلم باسترداد الامبراطورية الساسانية البائدة في العقل السياسي الإيراني. معها ترسخت فكرة الحذر الشديد التي هي إحدى سمات شخصيتها الجغرافية. هنا لا بد من الإشارة إلى مركزية منطقتي أصفهان وتبريز، أي قلب الهضبة الإيرانية، في تكوين هذا العقل السياسي.. وهنا أستعير القول “إيران نصف جهان (العالم) لو لم تكن تبريز”.
كان الإسلام بمذهبه السني سائداً في أصفهان وتبريز بينما ينتشر في مناطق الأطراف المذهب الإسلامي الشيعي. هذه الصورة باتت معكوسة اليوم في الخريطة الإيرانية. في تلك الفترة الزمنية الطويلة والممتدة من القرن السادس ميلادي وحتى القرن الرابع عشر ميلادي توالت الأحداث على منطقتنا العربية؛ ولعل أهمها هو التحول الذي طرأ على الإسلام السياسي وتطور خطابه من خلال الموروث الفقهي والممارسة السياسية. ساهم في ذلك الانتشار الجغرافي الواسع والسريع للدعوة الإسلامية.
***
إيران الدولة اليوم، ولربما أكثر بعد الحرب الأخيرة، هي نتاج مزيج معقد من القومية الفارسية والهوية المذهبية.. المدخل إلى فهم هذه الدولة يكون من خلال ما تختزنه الهضبة من طبقات من ذاكرتها التاريخية وموقعها الجغرافي والتراكم الثقافي المتواصل طيلة قرون.. نحن أمام نظام يتكئ على تاريخ طويل من التحولات. يُعرّف نفسه كدولة-حضارة وليس كجمهورية فقط. إيران ليست دولة دينية، بل عقل سياسي مركب. يقرأ الجغرافيا كما يقرأ الشريعة
في البداية، اتخذ الانتشار فكرة الدعوة إلى الإسلام هدفاً. غير أن الاستقرار في ساحات جديدة يتطلب الدخول في الدعوة. في هذه اللحظة، برزت الحاجة إلى صيغة حكم إسلامي. القفزة الأولى جاءت عند تحول فكرة الدعوة إلى الدولة في العهد الأموي. تطورت الحاجة مع التقلبات الجيوسياسية التي مهّدت للقفزة الثانية المتمثلة بتحول الدولة إلى سلطة في العهد الفاطمي. ثم القفزة الأخيرة مع ملء الدولة العثمانية الفراغ بالقوة في بلاد الشام فتطورت الحاجة لتحوّل السلطة إلى نظام مع إسماعيل الصفوي (هنا لا بد من التأكيد أن الحاجة ولدت من الداخل وتطورت بفعل الخارج، لعل المسار هذا إن سلكناه يُقدّم فهماً لمسألة الدولة وغيابها في الشرق الأدنى).
جاء إسماعيل الصفوي، السني المولد والكردي الأصل، إلى إيران في القرن السادس عشر، ليؤسس دولة شيعية ويجعل من التشيّع هوية سياسية، لا مجرد خيار مذهبي. ثمة لحظة تاريخية التقطها هذا الشاب المندفع اعجاباً بجده لأمه العالم الشيعي. التقط أن أهل الهضبة يتوقون إلى استرداد حلمهم القومي. وأن التاريخ ظلمهم لقرون طويلة. مظلومية قومية فارسية مستمدة من تاريخ الهضبة المضطرب. هنا، يُشير الكاتب اللبناني علي هاشم إلى أن إسماعيل الصفوي زاوج بين المظلومية القومية الفارسية والمظلومية العلوية الشيعية المستوردة من جبل عامل في لبنان بكل ما يحمله من تاريخ.
أرسل إسماعيل الصفوي كتباً إلى مراجع الشيعة آنذاك في العالم العربي يطلب منهم الانضواء تحت رايته. لكن معظمهم رفض النداء تحت القول المأثور أن كل راية في غياب الإمام هي راية للضلال. غير أن شيخاً من جنوب لبنان اسمه علي بن الحسين الكركي لبى النداء وذهب إلى إيران. وجد الكركي أن إسماعيل الصفوي أمام معضلة شرعية الراية الجديدة. فأطلق بكل براعة على إسماعيل الصفوي لقب نائب الإمام. منذ تلك اللحظة التي أدمج فيها إسماعيل الصفوي المظلوميتين استردت الهضبة رويداً رويداً مجداً كانت تسعى اليه. وتطورت معها شخصية مركبة لحاكمها بغض النظر عن لقبه.
لم يستقر هذا الزواج بل تعرض إلى هزات كثيرة للتأكيد أن للهضبة كلمتها. كلمتها التي تقول إنه لا يمكن اختصار إيران في عمامة حتى وإن كانت عمامة نائب الإمام وصاحب الزمان. فقد سحب المحقق الكركي لقب نائب الامام من إسماعيل الصفوي بعد هزيمته في معركة كالديران عام ١٥١٥ أمام العثمانيين!
ويُفرّق علي شريعتي أحد أبرز المفكرين في القرن العشرين بوضوح بين “التشيع الصفوي” و”التشيع العلوي” في اشارة إلى أن الأول قائم على فكرة النظام وحمايته مع تحويله إلى أداة حكم. أما الثاني فهو قائم على مناهضة الظلم بالطرق السلمية والثورية معا.. استعاد الامام الخميني المظلومية الشيعية بشقيها وأعاد توظيفها في ثوب دولة قوية مع خطاب ثوري. لكن الأهم من ذلك أخذه بالاعتبار متطلبات الهضبة الجيوسياسية بتنظيم قدرات عابرة للحدود تحمي النظام أولاً. ليتولى إعادة صياغة عقد الزواج بين المظلوميتين. فإيران الحديثة تعرف كيف تخاطب المسلمين الشيعة باسم الحسين وتخاطب المواطنين الإيرانيين باسم الدولة وكيف تستفيد من الخطابين مع دول الجوار. مرونة فارسية لطالما أُسيء فهمها في سياق التنافس السياسي على المنطقة.
بعد أكثر من أربعين سنة تعلّمت إيران بعد الثورة أن بناء الدولة لا يكتمل بالجغرافيا وحدها، بل بتوسيع الحضور والهوية. منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية، بدأ التفكير في تصدير النفوذ لا الثورة. من بيروت إلى بغداد، ومن دمشق إلى صنعاء، نسجت إيران شبكتها المعقدة من العلاقات، معتمدة على أدوات غير تقليدية: الحرس الثوري، الخطاب الطائفي، العتبات الدينية، والبيئات الاجتماعية المهملة في العالم العربي.. في الميزان الاستراتيجي كان هذا يُمثّل تحولاً كبيراً في العقل السياسي الإيراني إنما يُشير إلى واقعية أكثر عبر التخلي عن بعض الشعارات الأيديولوجية لصالح حسابات النفوذ طويلة الأمد.
***
إيران الدولة اليوم، ولربما أكثر بعد الحرب الأخيرة، هي نتاج مزيج معقد من القومية الفارسية والهوية المذهبية.. المدخل إلى فهم هذه الدولة يكون من خلال ما تختزنه الهضبة من طبقات من ذاكرتها التاريخية وموقعها الجغرافي والتراكم الثقافي المتواصل طيلة قرون.. نحن أمام نظام يتكئ على تاريخ طويل من التحولات. يُعرّف نفسه كدولة-حضارة وليس كجمهورية فقط. إيران ليست دولة دينية، بل عقل سياسي مركب. يقرأ الجغرافيا كما يقرأ الشريعة. ويضع لنفسه دورًا لا يقبل التهميش.
هذا النظام لا يُفكر بمفردات اليوم فقط، بل بعقلية تمتد على مدى قرون. إنه يربط فكرة الثورة بالهوية. وفي الوقت ذاته يؤمن بأن الانكفاء موت بطيء.. ويخطئ من يختصر إيران بمذهب، أو يراها مجرد نظام ديني جامد. هي مزيج معقّد بين شعور قومي فارسي متجذر وشعور مذهبي متراكم. تزاوج هذا وذاك في لحظة ماكرة فأنتجا نظامًا يعرف جيدًا كيف يخفي أوراقه ويتمدّد حيث لا يتوقعه أحد.
المنطقة لن تهدأ قبل أن نفهم إيران كما هي لا كما نحب أن نراها. وإيران بكل تعقيدها تفرض علينا أن نقرأها جيدًا.. وإلا قرأتنا هي بلغتها.
مجدداً، نفوذ إيران شيء ونظامها شيء آخر. الأكيد أن النفوذ تراجع لكن النظام ما زال صامداً. هو نظامٌ صاغته “إيران الهضبة” و”إيران الثورة” بالتكافل والتضامن معاً.
(*) بالتزامن مع “الشروق“