دخل عليَّ عامل الهاتف ليبلغني أن “الشيخ رفيق الحريري على الخط” قلت: ليطلبني بعد دقائق”.. وبالفعل عاود الشيخ رفيق الاتصال قائلاً: “تعال تنم على الناس..”.. وكان هذا هو “الكود” الذي نستخدمه عادة.
قلت: لقد تأخر الوقت، نلتقي غدا، اذا شئت..
قال: انا مسافر في الصباح الباكر… سأرسل اليك سيارتي..
اصررت أن يأتي هو اليَّ فقال: انا بالدشداشة وحالتي بالويل..
قلت: لا اريد جميلك .. مؤكد أن سائقي فؤاد ما زال في المكتب..
اتصلت بسائقي فؤاد اللبان وقصدنا إلى العنوان الذي اعطاني اياه الشيخ رفيق في احدى البنايات في فردان (شارع رشيد كرامي).
كأن ثمة من ينتظرني عند المدخل، وصعد معي إلى شقة فخمة في الطابق الخامس حيث كان الشيخ رفيق في انتظاري بالدشداشة.
***
جلسنا لأكثر من ساعة، ثم ركبت سيارتي عائداً إلى منزلي في بناية البريستول، قرب الفندق المعروف (والمقفل الآن، بسبب تداعيات الكورونا وامتناع السياح ورجال الاعمال العرب والاجانب عن القدوم إلى لبنان).
فتحت الباب الامامي لأترجل، في ما كان فؤاد اللبان يترجل بدوره، ويتحرك نحوي لمرافقتي إلى البيت في الطابق الثاني.
دوى الطلق الاول مستهدفاً وجهي، وبعده الطلق الثاني، ثم الطلق الثالث الذي ملأ برصاصاته الصغيرة صدر فؤاد اللبان.
عدت بسرعة إلى مقعدي واقفلت باب السيارة المصفحة، في حين تحامل فؤاد اللبان على نفسه وارتقى الدرجات القليلة والدماء تصبغ مواقع حركته حتى بلغ الطابق الثاني حيث كانت زوجتي عفاف وحماتي الحاجة بهية الاسعد، بينما اولادي في بلدتي شمسطار.. بأمل أن نلحق بهم يوم السبت.
هكذا كان علينا، في تلك الساعة قبيل الفجر أن نجد، بداية من ينقلنا إلى المستشفى.
كان سهلاً اكتشاف “المكمن” الذي لجأ اليه الجناة: فإلى جانب البناية التي نسكنها ارض فراغ يحيط بها بعض الشوك والعوسج وشجيرات برية تكفي لاختباء “القتلة”.. ومن تلك النقطة التي لا تبعد أكثر من خمسة أمتار عن سيارتي كان يمكنهم التسديد، محتمين بالظلمة وخلو شارع “مدام كوري” في تلك الساعة، قبيل الفجر، مطمئنين إلى أن احداً لن يراهم ولن يسمع صدى طلقات الرصاص.
من أين يمكن، في هذه الساعة، أن يأتي من ينجدنا بحملنا إلى المستشفى.
فجأة، ومن قلب الليل، انبثق جندي في الجيش اللبناني، قبعته في كتف سترته وتقدم نحونا ملهوفا، فاستكشف ما حولنا، ثم تقدم منا عارضا أن ينقلنا إلى المستشفى.
لم يكن امامنا خيار آخر. استجوبته زوجتي فاذا هو من آل غزالي في مشغره، فاطمأنت نوعا ما.. ولشدة حرصه اختار طريقا جانبيا للوصول إلى مستشفى الجامعة الاميركية.
من هناك امكن الاتصال ب “السفير” فجاء الزملاء بقيادة ياسر نعمة وباسم السبع.. وكان همي أن يتم الاتصال بأهلي في شمسطار، لان والدي يصحو باكراً فيفتح ”الترانزستور” على اذاعة لندن… لذا أوفدت من يتحرك فوراً ليطمئن الاهل إلى سلامتي، قبل اخبار الاذاعات والصحف.
***
بعد أكثر من ساعة كان بعض الزملاء قد اهتدى إلى منزل الدكتور الذي جاء متعجلاً، وجرى نقلنا إلى غرف العلميات بعدما استدعي اطباء الطوارئ على عجل، لإجراء اللازم.
..ولقد دوى خبر الاعتداء في مختلف انحاء لبنان والوطن العربي، وغمرنا الناس بعواطفهم النبيلة وورود التهنئة بالسلامة ، حتى ملأت الأرصفة المقابلة ومدخل الطوارئ والطريق العام.
وابتداء من ظهر ذلك اليوم بدأ تدفق الناس على المستشفى حتى ضاقت بهم المداخل وصالات الانتظار، والطريق الذي يمتد بين الحمراء والجامعة الاميركية في بيروت.. واللهفة وتمني السلامة، فضلاً عن باقات الزهور التي ملأت ردهات المستشفى والطريق امامه.
كان الناس، كما نعهدهم، شرفاء، مخلصين، ويقدرون الكلمة ويرفضون الرد عليها بالرصاص.
***
قبل أن أخرج من المستشفى، زارني وفد سوري رفيع المستوى يحمل دعوة “من القيادة” لزيارة دمشق، وقد صحبه الصديق عبدالله الامين.
بعد استقبال الرئيس حافظ الاسد تقاطرت عليَّ وفود رسمية وشعبية إلى الفندق، على امتداد ساعات النهار وبعض الليل، وكان رفيق الحريري قد وصل ليلاً، وحاول أن يزورني، لكنه لم يجد مجالاً لذلك، فرجاني عبدالله الامين أن نذهب اليه كونه قدم خصوصاً ليطمئن إلى حالتي.
في جملة الزوار وفد عسكري كبير برئاسة العماد حكمت الشهابي ومعه ثلة من كبار الضباط.. وكان أبرز ما حدث أن قدم اليّ العماد الشهابي من سيغدو مرجع اللبنانيين جميعاً، في عنجر، العقيد غازي كنعان.
من دمشق عدت، فاذا الطريق من “المصنع” وحتى بلدتي شمسطار، تحتشد فيها جماهير غفيرة، بعضها يحمل الورد، والبعض الآخر يصر على تقديم الاضحية بذبح الخواريف، والتهنئة بالسلامة، مع توصيتي على حماية ” السفير” واستمرارها..
وباختصار فقد اعطاني الناس فوق ما استحق، في وقفة تضامن مع “السفير” واستنكار لمواجهة القلم بالرصاص والفكر بالقتل..
***
اليوم، بعد ست وثلاثين سنة على تلك المحاولة، التي كتبت لي السلامة بعدها.
وبعد أربع سنوات من اغلاق “السفير” وتوقفها عن الصدور، لان الدولار وحش مفترس، والاعلان في تراجع، واعداد القراء في تناقص مستمر نتيجة سيادة اجهزة التواصل الاجتماعي وحلولها محل “الورق”.
اليوم انظر في المرآة إلى آثار الجراح التي تزين وجهي، بعد أكثر من اربعين جلسة عند الطبيب الفرنسي د. لافييت الذي ارسلني اليه الراحل رفيق الحريري، واكتشفت انه يعرف العديد من المسؤولين العرب، لا سيما في المشرق، حتى عُمان.. وهو محدث لبق طالما شاغلني حتى لا اصرخ من وجعي.
نحن بخير، طمأنونا عنكم.. وكل عام وأنتم بخير.
(*) نقلاً عن موقع talalsalman.com