إن أحد أبرز مطالب ثورة 17 تشرين/أكتوبر هو تطبيق مفهوم الدولة المدنية في ضوء تآكل وظيفي بنيوي لكيان طائفي أصبح عمره مئة سنة، غير أن ذلك لا يمنع من القول إن الدولة بطبيعتها الحقيقية ـ والتي لم تتحقق لغايته ـ هي أصلاً دولة مدنية مع وقف التنفيذ وذلك لعدة أسباب، ولكن لماذا طرح هذه الإشكالية الجدلية؟
الدولة المدنية هي فكرة تكاد تكون طوباوية عند الكثير من المفكرين والفلاسفة الذين يعتبرونها خشبة خلاص للمجتمعات المفككة والمتصارعة والتي لديها الكثير من الإختلافات الإثنية والعرقية والطائفية، وطبعاً هناك الكثير من النظريات حول “الدولة المدنية”، هذه الكلمة اللطيفة اللفظ والعميقة المعنى.
لقد كانت أوروبا تعيش تحت سطوة الكنيسة وحكمها الإلهي المُنزل الذي يجمع بين السلطتين الدينية والزمنية وقد تجسدت في تلك العصور سلطة الكنيسة المطلقة، ولقد روّج لها الكثير من الفلاسفة أمثال جان بودان وجاك بوسويه اللذان كان يدافعان عن الحق الإلهي للملوك والأمراء، قبل أن تدخل أوروبا في طور الإصلاح الديني مع حركة الراهب مارتن لوثر الذي إحتج على بيع صكوك الغفران وعمل على تحرير المسيحيين من التصور التسلطي الإكراهي الميتافيزيقي.
ظهرت فكرة الدولة ذات السلطة المطلقة المستمدة من العقد الإجتماعي، وعبّر عنها توماس هوبس في كتابه “اللفياثان” (الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة)، ثم لحقه سبينوزا، ثم جاءت مرحلة الدولة ذات السلطة المقيدة مع فصل السلطات، وتكلم عنها جون لوك، وهذه الفكرة ترسخت مع نظرية مونتسكيو في كتابه “روح الشرائع”، فهذه المرحلة هي المعبر والممر للوصول الى سمو سلطة الشعب على باقي السلطات، ومرحلة تأسيس سمو الإرادة العامة، خصوصاً مع جان جاك روسو حيث درس العقد الإجتماعي الذي يُعطي الشعب الحق في أن يختار حاكمه.
كل تلك المراحل والنظريات رافقتها حروبٍ وشلالاتٍ من الدماء بفعل صراع تاريخي بين البروتستانت والكاثوليك إنتهى بإتفاقية وستفاليا سنة 1648 التي رسخت مفهوم الدولة القومية وأنتجت في نهاية المطاف الدولة المدنية النقيضة للدولة الثيوقراطية (الدينية)، وهي أيضاً نقيض الدولة السلطوية ونقيض الدولة التي يغيب فيها سمو الإرادة الشعبية لمصلحة الفكر الشمولي تحت أي مسمى كان، سواءً أكان دينياً أم ايديولوجياً، وأما مقوماتها فهي الشرعية الدستورية والسلطة العليا للشعب وسيادة القانون وغيرها.
اما الفكر السياسي الإسلامي، ففي بيعة العقبة الثانية، وهي بيعة على السمع والطاعة وفي النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنتجت دولة عُرفت بالدولة الأولى في الإسلام، وقامت على مفهوم مفاده أن السلطة للأمة، وهي مناهضة للثيوقراطية وتقديس الحاكم. لقد أنتجت دولة المدينة أول دستور مدني في تاريخ البشرية يساوي بين جميع أبنائه بالحقوق والواجبات ولا يفرق بين أحد منهم.
إن قانون الدولة المدنية هو قانون وضعي وليس قانونا مقدسا. فلنذهب إليه طواعية ومن دون أن نكبّل أنفسنا بما يجعله قابلاً للطعن والرفض عند أي مواطن أو مواطنة في لبنان
في الفكر السياسي الإسلامي، تُعتبر الدولة المدنية نوعاً من أنواع تنظيم الحياة العامة ويكون التعاقد إختيارياً حيث يكون تنصيب الحاكم اختيارياً وإختيار الحاكم لا يدخله إجبارٍ ولا إكراه وينظر للحاكم على عدالته وأكبر مثال هو قول محمد رسول اللّه “إذهبوا إلى الحبشة، فإنه هناك رجلٌ لا يُظلم عنده أحد”.
قد يتساءل القارئ لماذا تحدثت عن النظرتين الغربية والإسلامية للدولة المدنية؟
إن الفكر الغربي الذي يرمز للمسيحية والفكر الإسلامي متطابقان جداً في رؤيتهما ومفهومهما للدولة المدنية، ولكن من المؤسف فإن الدولة المدنية تبدأ عند البعض في لبنان بتطبيق الزواج المدني وتوحيد قانون الأحوال الشخصية، مستندين إلى النموذجين الفرنسي والتركي، فيما الكثير من الدول الأوروبية مثل النمسا وبريطانيا وحتى الولايات المتحدة الأمريكية لديها محاكم شرعية ومحاكم مدنية، لذلك يمكن القول ان فكرة إلغاء المحاكم الدينية تجعلنا أشبه ما نكون بالمستبدين والطغاة، ومن شأنها أن تعمق الإنقسام الداخلي بدلاً من توحيد اللبنانيين واقامة المواطنة الحقيقية، وذلك لأنها تحمل في طياتها إلغاءً لشريحة كبيرة من المجتمع اللبناني تحلم بإقامة دولة مدنية ولكن مع إستثناءات لا تناقض أديانها.
إن لبنان وبفضل أمراء الطوائف والحروب جعل تلك البقعة الجغرافية الصغيرة فدراليات مقنعة طائفياً ومتصارعة ثقافياً وفكرياً وسياسياً وأنتجت العديد من الأزمات وحرباً طاحنة في سنة 1975.
إن تطبيق مفهوم الدولة المدنية أصبح أكثر من ضروري ولكنه يحتاج إلى خطاب سياسي وعقلاني مرن وتربية جيلٍ بعيدٍ عن الطائفية السياسية الغرائزية التي فتكت برواندا وحصدت 800 ألف قتيل.
خلاصة القول، إن الدولة المدنية لها مقومات كثيرة ومن شأنها أن تجعل لبنان دولة حديثة عصرية تعالج مشكلة الطائفية السياسية وليس القضايا الدينية وتعالج التراكمات أخذاً بالإعتبار طبيعة المجتمع المحافظ الذي يرفض توحيد قانون الأحوال الشخصية وإلغاء الزواج الديني وإستبداله بالزواج المدني. إن قانون الدولة المدنية هو قانون وضعي وليس قانونا مقدسا. فلنذهب إليه طواعية ومن دون أن نكبّل أنفسنا بما يجعله قابلاً للطعن والرفض عند أي مواطن أو مواطنة في لبنان.