تركيا تقترب من إستقلاليتها الإستراتيجية عسكرياً.. ولكن

Avatar18031/10/2021
خلال عقد من الزمن، عزّزت تركيا بشكل كبير استقلاليتها الإستراتيجية في إنتاج الأسلحة. صارت دولة مصدرة برغم حاجتها إلى المحركات الأجنبية لكل صناعاتها العسكرية. إميل بوفييه، الباحث الفرنسي المتخصص بالشؤون الكردية والتركية يضيء على هذه القضية في تقرير نشره "أوريان 21"، بالفرنسية وترجمه الزميل حميد العربي إلى العربية.

“نحن ضمن البلدان العشرة التي يمكنها تصميم وبناء وصيانة سفنها الحربية الخاصة بها!” هذا ما صرّح به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم السبت 23 يناير/كانون الثاني 2021، عند إطلاق الفرقاطة “تي سي جي إسطنبول”. وقد تم تقديم هذه السفينة كإحدى مفاخر البحرية، مع أنها تركية فقط بنسبة 75%.. إذ لم تتمكن ورشات بناء السفن الاستغناء عن دعم تكنولوجي أجنبي. فلئن حققت تركيا قفزة صناعية وتكنولوجية كبيرة جعلت أحد أكبر مصدري الأسلحة في العالم، فإنها في الواقع لا تزال تعتمد بحجم كبير على الخارج.

تشمل “رؤية 2023” التي تم الكشف عنها منذ سنة 2010، جملة من الأهداف التي من شأنها جعل البلاد قوة مستقلة لا يمكن تجاوزها بعد مائة سنة من تأسيس الجمهورية. في هذا الإطار، يظهر قطاع الأسلحة كأحد رؤوس حربة هذا المشروع الطموح، إذ يتعين على القوات المسلحة التركية – رمز السيادة بامتياز – أن تتمتع بعتاد مصنوع بالكامل في تركيا.

بغض النظر عن هذه الرمزية السياسية، تتطلع السلطات إلى استقلالية استراتيجية لأسباب أكثر براغماتية، إذ فرضت الولايات المتحدة من سنة 1975 إلى سنة 1978 حظرا على مبيعات الأسلحة لتركيا في إطار أزمة قبرص. وبعد أن عاينت الاختناق الذي أحدثه هذا الحظر على قواتها المسلحة، قررت تركيا الشروع في تطوير صناعة دفاعية مستقلة.

تتغذى ذهنية المُحاصَر هذه منذ ذلك الحين بعدة حوادث مماثلة. ففي سنتي 2010 و2012، اعترض الكونغرس الأمريكي على تصدير طائرات بدون طيار إلى تركيا بسبب التوترات التي كانت قائمة بين تل أبيب وأنقرة. وفي يناير/كانون الثاني 2018 انسحبت برلين من برنامج تحديث دبابات “ليوبارد 2” الألمانية التي تستعملها تركيا بسبب عملية “غصن الزيتون” التي شنتها الأخيرة ضد محافظة عفرين الكردية السورية. ومؤخرا وأمام تنامي النزعة الحربية لتركيا، قررت عدة دول مثل كندا وألمانيا والمملكة المتحدة في 2019 و2020 الامتناع عن تسليمها بعض المكونات الأساسية لتصنيع الطائرات بدون طيار، والتي هي رأس حربة تَدَخل أنقرة في المنطقة1.

انعدام الثقة المتنامي لبلدان أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية تجاه أنقرة وسعي الأخيرة بجميع الطرق إلى تطوير الصناعة الدفاعية أديا إلى انهيار الصادرات العسكرية الأمريكية إلى تركيا بنسبة 81% من عام 2010 إلى 2020. تراجعت تركيا التي كانت ثالث أكبر مشترٍ للأسلحة الأمريكية في العالم خلال الفترة ما بين 2011 إلى 2015، إلى المركز 19 في الفترة ما بين 2016 و2020. وقامت الولايات المتحدة في يوليو/تموز 2019 بمنع بيع المروحيات التركية تي-129 (T129 ATAK) إلى باكستان لكونها مجهزة بمحركات CTS800 ذات الصنع الأمريكي. لم يكن لتركيا بديل عن هذه المحركات، مما أدى إلى إلغاء العقد وخسارة مالية بلغت مبلغ 1,5 مليار دولار.

عملت إذا السلطات التركية على جعل الصناعات إحدى أولوياتها. وقررت الرئاسة التركية حتى يوليو/تموز 2018 وضعها تحت إشرافها المباشر من خلال إلغاء الوزارة المنتدبة للصناعات الدفاعية وإنشاء رئاسة الصناعات الدفاعية.

حقق قطاع الصناعات الدفاعية في غضون 10 سنوات قفزة هائلة إلى الأمام. ففي حين لم تكن سوى شركة تركية واحدة مدرجة في ترتيب المائة أكبر شركات الأسلحة عام 2000، نجد اليوم سبع شركات

نجاحات عديدة لا جدال فيها

حقق قطاع الصناعات الدفاعية في غضون 10 سنوات قفزة هائلة إلى الأمام. ففي حين لم تكن سوى شركة تركية واحدة مدرجة في ترتيب المائة أكبر شركات الأسلحة عام 2000، نجد اليوم سبع شركات. وقد انتقل رقم الأعمال من مليار في 2002 إلى 11 مليار في 2020، مما جعل صناعات الدفاعات التركية في المرتبة 14 لأكبر مصدر للمنتجات العسكرية خلال العام الماضي. وبالفعل باعت تركيا بين سنتي 2010 و2019 عتادا حربيا إلى 28 دولة، ناهيك عن بعض الفصائل من الجماعات المتمردة التي تدعمها أنقرة بسوريا. وقد شكلت كل من تركمانستان والمملكة العربية السعودية وباكستان مجتمعة نصف صادرات تركيا خلال هذه الفترة.

يبدو رهان الاستقلالية الاستراتيجية على وشك التحقيق، فقد قلصت تركيا بين سنة 2015 و2019 نسبة وارداتها من معدات وتكنولوجيات العسكرية بحوالي 48% مقارنة بالفترة ما بين 2011 و2015. وقد نجحت في تطوير جميع جوانب الصناعة الدفاعية حيث التحقت اثنان من شركاتها سنة 2020 بتصنيف أكبر مائة صناعة عسكرية في العالم. وتتخصص إحداهما – وهي “أف أن أس أس للصناعات الدفاعية” (FNSS Defense Industries) في المعدات والأخرى -وهي هافيلسان (Havelsan)- في البرمجيات.

على الميدان، تستفيد القوات المسلحة فعلا – أو هي على وشك الاستفادة – من مجموعة متنوعة من المعدات المصممة والمصنعة في تركيا. إذ تم استبدال المروحيات الأمريكية “Bell AH-1” بمروحيات “T129 ATAK” للشركة التركية “TAI”، بينما تم استبدال البندقية الهجومية الألمانية “HK-G3” التي تعود إلى السبعينيات بالبندقية الهجومية “MPT-76” التي تنتجها شركة الصناعات الميكانيكية والكيميائية (MKEK).

كما سيتم الاستغناء عن الدبابات الثقيلة “ليوبارد 2” في أوائل 2023، لتخلفها دبابة “ألطاي”، وهي ثمرة عمل مجموعة من الشركات التركية. وقد تمكنت الشركة الصناعية العملاقة “أسيلسان” في يونيو/حزيران 2021 من تحديث دبابات ليوبارد 2، متجاوزة بذلك الألمان الذين رفضوا تحسينها في 2018. يتجلى رمز نجاح الصناعة العسكرية دون شك في الاختراق الهائل في مجال الطائرات بدون طيار ذات الاستخدام العسكري. فمن الطائرة بدون طيار المسلحة “بيرقدار ت. ب.2”، إلى الطائرة بدون طيار للمراقبة “آقنجي”، صارت تركيا متخصصة في هذا المجال بفضل المهندس سلجوق بيرقدار، الذي أصبح اليوم بطلا قوميا وصهرا للرئيس رجب طيب أردوغان.

من الساحل الليبي إلى السهل السوري مرورا بالجبال العراقية أو ناغورنو قره باخ، سمحت الطائرات بدون طيار لتركيا وحلفائها بحسم الموقف بساحة المعركة بفعالية وسرعة وعدد قليل من الضحايا. وصارت هذه الطائرات تباع في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك بولندا. فلأول مرة في تاريخها، تمكنت تركيا من بيع أسلحة إلى بلدان من الحلف الأطلسي، والأدهى أن ذلك تم على حساب الولايات المتحدة الأمريكية، التي اتضح أن طائرتها بدون طيار من نوع “بريداتور” أغلى بخمسة أضعاف من “بيرقدار ت. ب.2” التركية (26 مليون دولار للطائرة الأمريكية مقابل 5 ملايين للتركية). نتيجة لهذا النجاح، تعمل تركيا على زيادة الاستثمار في مجال الطائرات بدون طيار، وهي تقوم حاليا بتطوير نموذج بحري متخصص في الحرب المضادة للغواصات، وأربعة أنواع مختلفة من الطائرات الأرضية المسلحة، إلى جانب أجهزة يمكن نشرها انطلاقا من قاعدة جوية أو سفينة برمائية.

إقرأ على موقع 180  فرص إندلاع حرب عالمية ثالثة.. ضعيفة، لماذا؟

تبعية لا تزال مهمة

على الرغم من التقدم الكبير الذي أحرزته تركيا خلال العشر سنوات الماضية، لا يمكنها بعد الاستغناء عن خبرة القوى الأجنبية. ففضلا عن استلامها من روسيا خلال الأشهر الأخيرة لأنظمة الأسلحة الدفاعية المضادة للطيران “أس 400”، سيتم تزويد تركيا قريبا بست غواصات مصممة في ألمانيا، وخمس طائرات متخصصة في حرب الغواصات مصنوعة في إيطاليا، وسفينة هجومية برمائية يتم تصنيعها حاليا في إسبانيا، والتي ستسمح بإقلاع المروحيات والطائرات بدون طيار وطائرات ذات هبوط وإقلاع قصير أو عمودي. وستستخدم أيضا هذه السفينة التي تحمل اسم “تي سي جي أناضولو” الرادار الإيطالي SPN-720 للمساعدة في إقلاع وهبوط الطائرات في الظروف المناخية الصعبة. كما تم تصميم عدد كبير من سفن البحرية التركية، مثل الفرقاطات من صنف بربروس أو يافوز، أو سفن الهجوم السريع من طراز “كيليدج” في ألمانيا.

لأن تركيا تعاني من قصور مزمن في مجال المحركات سواء تعلق الأمر بالمروحيات أو الدبابات أو الطائرات بدون طيار أو الطائرات القتالية، فإن المحركات التركية غير متوفرة ولا خيار أمام الصناعيين سوى اللجوء إلى الشركات الأجنبية

وتحتوي المنتجات التركية المقدمة على أنها “أصلية” على معدات أو تكنولوجيات أجنبية. وهكذا سيتم تجهيز الدبابة القتالية الرئيسية “ألطاي” بمدفع Rheinmetall الألماني، والمروحيات القتالية T129 ATAK بمحركات أمريكية LHTEC. كما سيتم دفع غواصات من فئة “رايس” بمحركات شركة “زيمنس” الألمانية. أما الطائرة المقاتلة المستقبلية TF-X، فقد اتضح بأنها كارثة صناعية يتأجل تاريخ دخولها إلى الخدمة باستمرار، لا سيما بسبب صعوبة إيجاد محرك مناسب لها. وقد انسحبت المملكة المتحدة – التي كان من المفترض أن تساعد تركيا في تجهيز الطائرة بالمحرك من خلال شراكة مع رولز رويس – من المشروع في مارس/آذار 2019.

وبالفعل، تعاني تركيا من قصور مزمن في مجال المحركات. يقول مسؤول سابق في الصناعات العسكرية: “كان ذلك مشكلا منذ 15 سنة كما كان قبلها بعشر سنوات، ولا يزال الأمر يطرح إشكالا إلى اليوم”. سواء تعلق الأمر بالمروحيات أو الدبابات أو الطائرات بدون طيار أو الطائرات القتالية، فإن المحركات التركية غير متوفرة ولا خيار أمام الصناعيين سوى اللجوء إلى الشركات الأجنبية. وتحرص تركيا على اختيار شركاء يكون احتمال نشوب أزمة ديبلوماسية معهم ضعيفا. فعلى سبيل المثال، ستقوم الشركات الكورية الجنوبية “دوسان” وS&T Dynamics بتزويد دبابة “ألطاي” بالمحرك الذي كان من المفترض في البداية أن يأتي من ألمانيا قبل أن تنسحب الأخيرة من المشروع في 2018، بعد قرار برلين فرض الحظر. أما مروحيات “أطاك”T129 ، فستتخلى عن محركها الأمريكي لاستبداله بمحرك أوكراني تزوّده بها شركة “موتور سيتش”. في حين أن الطائرة بدون طيار “آقنجي” – وهي أثقل من 2 تي بي -، فسيتم تزويدها بمحرك توربيني أوكراني AI-450.

إشكالية هجرة الأدمغة

على الرغم من الدعم المالي الكبير المخصص له، يواجه قطاع الأسلحة في تركيا نقصا في اليد العاملة المؤهلة. ففي أعقاب محاولة الانقلاب في تموز/يوليو 2016 أدت عمليات التطهير التي أطلقتها السلطات التركية إلى اعتقال أو طرد عشرات الآلاف من الأشخاص وخلق مناخ من الخوف في تركيا: فقد غادر في سنة 2020 أكثر من 330 ألف شخص البلاد، جزء كبير منهم من المتخرجين الشباب.

في سنة 2019 أبرز تقرير نشرته رئاسة الصناعات الدفاعية بأن 272 من موظفي صناعات الأسلحة، ومعظمهم من المهندسين والباحثين الشباب غادروا البلاد نحو الولايات المتحدة وهولندا وألمانيا. والأرقام تتحدث عن نفسها: 41% منهم بين 26 و30 من العمر، 54% متحصلون على الدكتوراه، و59% منهم كانت لهم تجربة تفوق 4 سنوات في الصناعات الدفاعية. بالنسبة لقطاع الأسلحة في تركيا يتعلق الأمر بهجرة حقيقية للأدمغة، وهي تفسر جزئيا الصعوبات الهيكلية التي تواجهها في سد بعض القصور، مثل ذلك الموجود في مجال المحركات.

إذا كانت صناعة الأسلحة في تركيا لم تتوقف عن النمو منذ عشر سنوات، فمن المنتظر أن يصل هذا المنحنى مداه سريعا بسبب هجرة الأدمغة والقصور التكنولوجي المستمر، ناهيك عن الفرص التجارية المحدودة. صحيح أن الصادرات العسكرية زادت بشكل كبير، لكن معظم الإنتاج لا يزال موجها للقوات المسلحة داخل تركيا. وستبلغ هذه السوق المحلية حدودها بسرعة، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى إبطاء النمو في قطاع الأسلحة. ومع ذلك، فقد ثبت أن العملاق الصناعي الذي أنشأه رجب طيب أردوغان هو نجاح سياسي لا جدال فيه، وهو ينوي مواصلة الاستفادة منه، لا سيما تحسبا للانتخابات وحلول الذكرى المئوية للجمهورية خلال سنة 2023.

(*) ينشر بالتزامن مع “أوريان 21“.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  تركيا تجمع الخليج وفرنسا: إيران ليست العدو!