جميل مطر02/12/2021عرفت السياسة الخارجية للصين على مدى عقود كيف تتفادى ممارسات معينة مثل إقامة أحلاف عسكرية أو الدخول في القائم منها. تبنت هذا الموقف منذ نشأة الدولة الجديدة على يد ماو تسي تونج واستمرت تعلنه وتؤكد عليه في عهد دينج تشاو بنج وخلفائه وما يزال موقفاً معلناً في عهد شي شاو بنج. إلا أن تطورات في السياسة الدفاعية والخارجية للصين وفي تفاصيل سباقات التسلح وبخاصة في الشرق الأقصى، تجعلنا كمراقبين للصين نعيد النظر في بعض قناعاتنا. من هذه التطورات اهتمام الصين بأن تكون القواعد البحرية التي تقيمها لأغراض تموين وخدمة أساطيل تجارتها الخارجية مستعدة لتتحول على الفور تحت أي طارئ أمني إلى قواعد عسكرية. لم يعد سراً أن قاعدة جيبوتي صارت تخضع لهذا التصنيف بل وأن الميناء الذي أقيم في باكستان والآخر في سيريلانكا والثالث في كمبوديا والرابع في الخليج على مشارف المضيق، جميعها صارت محل التكهن بأن الصين ربما بدأت تتخلى عن التزامها تجنب إقامة تحالفات عسكرية. أتصور أنه لن يكون مستحيلا التوصل مع الدول المضيفة لهذه الموانئ الصينية الإنشاء والإدارة والتسليح إلى صيغة لن تكون بحكم الأمر الواقع بعيدة عن صيغة الحلف العسكري.
لن تكون هذه المنشآت وانتشارها، وبخاصة في الدول النامية، السبب الوحيد وراء تكهنات في هذه الدول بأن الصين تنوي تغيير أحد أهم مبادئ سياستها الخارجية التي التزمتها منذ النشأة. كانت المناورات العسكرية المشتركة التي انتظمت مؤخراً مع الاتحاد الروسي سبباً آخر. لا أستبعد أن تكون هذه الدول أو بعض منها بات متفهماً الظروف التي تدفع الصين إلى تنظيم هذا النوع من النشاط العسكري في المحيط الهادي، إذ لم يكن خافياً التمدد المتواصل من جانب حلف الناتو وتوسعه في اتجاه الشرق. كاد الحلف يصل بالفعل إلى حدود المجال الحيوي للصين، إن صح التعبير، وأقصد طرق التجارة ومراكزها وبخاصة في المجال الأوراسي. يكفي أيضاً أن يكون في ذهن المحلل أو المراقب حقيقة أن طريق الحرير بتسميته الراهنة صار معلماً حيوياً وثابتاً في الاستراتيجية الصينية وركناً أساسياً من أركان المجال الحيوي للصين كما يراه صنّاع السياسة الخارجية الصينية. يعرف القاصي والداني أن الصين دخلت حرباً في بداية العهد الشيوعي عندما تعرض مجالها الحيوى في كوريا لتهديد مباشر من الولايات المتحدة.
الرئيس شي اكتشف وإن متاخراً أن الأدوات الجيواقتصادية التي أوصى الرئيس دينج باستخدامها حققت أهدافها ولم تعد كافية وحدها لإدارة عملية صعود الصين إلى القمة. لذلك يتعين الآن، حسب الآراء والمشورات من الدوائر المحيطة به، البحث عن مواقع وفرص فراغ سياسي
ثم جاء مباغتاً لنا إقامة حلف الأوكوس الثلاثي بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا، وأن يظهر لنا الآن أن أستراليا كانت من فترة غير قصيرة تستعد لمثل هذا التطور في سياستها الإقليمية. كانت هي التي دفعت الصين إلى تنفيذ إجراء استهجنته طويلاً في كل علاقاتها التجارية، وهو المقاطعة الاقتصادية لأحد أهم منتجات أستراليا التي تُصدّرها للصين. لم يكن الإجراء الصيني بدون سبب. إنما جاء رداً على إجراء أسترالي بضغط أمريكي لمقاطعة منتجات وخدمات شركة هواوي ومن بعدها اندفاع كانبرا غير المبرر لإجبار الصين على الاعتراف بمسؤوليتها عن خلق ونشر فيروس جائحة الكورونا. لسنا غافلين عن استمرار أستراليا في تصعيد المواجهة مع الصين كما توضحه الإجراءات الأسترالية تجاه الاضطرابات في جزر سولومون وغيرها في جنوب المحيط الهادي.
***
يحق لنا أن نشارك في موجة التكهنات فنسأل إن كانت الأنشطة الكثيرة ذات الطابع العسكري هي وأنشطة أخرى جعلتنا نتكهن بأن السنة القادمة في العمل الدولي للصين ـ وقد بدأت فعلاً ـ ستكون سنة صعبة. أما الأنشطة والعناصر الأخرى فأهمها الحاجة الماسة لتصحيح المسار الرأسمالي والخلطة الرأسمالية الاشتراكية التي ابتدعها الرئيس دينج تشاو بنج ومنها أيضاً التعبئة الحالية من أجل المؤتمر القومي للحزب الشيوعي الصيني. ينبع اهتمامي بهذه الدورة، وأقصد دورته التي تعقد في أكتوبر/تشرين الأول القادم، من أمور معينة ألخص أهمها في الآتي:
أولاً: ننتظر أو نتوقع، ونحن كثيرون، أن يجدد المؤتمر للرئيس شي فيمنحه مدة ثالثة في الحكم والحزب. مرت مراحل الإعداد لهذه الخطوة بعمليات وإجراءات معقدة وطويلة. إذ باتت القاعدة بعد وفاة الرئيس ماو تنص على أن يقتصر التجديد على مدة واحدة أخرى. حصل الرئيس شي من اللجنة المركزية على دعمه للتجديد مدة ثالثة ومفتوحة لرابعة وخامسة إن امتد عمره. حجج الرئيس أو مسوغات التمديد كثيرة منها على سبيل المثال تعزيز الإنجازات التي تحققت في عهد الرئيس شي.
ثانياً: النية في صياغة بيان أو قرار استثنائي يضع الرئيس شي بين ثلاثة عظام في تاريخ الحزب والدولة الاشتراكية. يأتي في القرار التاريخي أيضاً تصديق الحزب على تغييرات جذرية في سردية تاريخ الحزب الشيوعي الصيني. طبقاً لهذه التغييرات يعترف الحزب ولأول مرة بأن الرئيس “الأسطوري والملهم” ماو تسي تونج أخطأ حين تسبب في مجاعة طاغية عند تنفيذه قرار إنشاء الكوميونات الريفية والمدنية. أخطأ مرة ثانية عند إشعال الثورة الثقافية التي أودت بأعداد هائلة من البشر. أما الرئيس الثاني “الأسطوري والملهم أيضاً” فقد أخطأ في تنفيذ برنامجه للتحرر الإقتصادي والإداري حين أثمر البرنامج خطيئتين لا تغادران، إحداهما بلغة الحزب العيش ببذخ والثانية باللغة نفسها عبادة النقود. الرئيس دنج سوف يتحمل حسب التاريخ الجديد للحزب مسئولية الفجوة الراهنة في الدخول في المجتمع الصيني. وفي سردية الرئيس شي لتاريخ الحزب لن يفوته الإشارة إلى حقيقة أنه تأكد بالأدلة القاطعة أن ارتفاع نسبة النمو القومي ليست الدليل الأوحد أو الكافي على النجاح. إذا تحقق هذا التكهن وغيره سوف يكون الرئيس شي قد أعفى نفسه من مسئولية تباطؤ الإقتصاد الصيني في السنوات الأخيرة.
ثالثاً: وعليه يصبح من مسئوليات المؤتمر أيضاً وضع الحلول ومنها تنفيذ خطة الرئيس شي للمستقبل، خطة الرخاء المشترك. تقضي الخطة بأن يدخل الحزب بنفسه ساحة الإقتصاد بمشروعات قوانين تراعي زيادة الضرائب على ذوي الدخل المرتفع. من مسئولياته أيضا تصحيح أخطاء ارتكبها قطاع البناء والتشييد وكانت نتيجتها تشجيع الأثرياء على المضاربة بالمساكن غير المسكونة والمتوفرة بكثرة. لاحظنا أنه بدأ بالفعل يواجه مشكلات عويصة من نوع مشكلة تراجع نسبة الشباب في الهيكل السكاني، وهذه أيضاً من أخطاء عهدي ماو ودينج. تسببت هذه الأخطاء في كوارث إقتصادية وإجتماعية كادت تصيب إقتصاد الصين بالشلل.
الصين من ناحية، والعالم الغربي من ناحية أخرى، يبذلان جهوداً صادقة ومتواصلة، وإن متواضعة، لإصلاح النظام الرأسمالي. غير خافٍ على المسئولين، على الناحيتين، أن سقوط قلاع الرأسمالية بسبب فسادها أو تجاوزاتها سيكون مدوياً ويجر في سقوطه الأمن والسلم الدوليين
رابعاً: بمعنى آخر، صارت من مهام المؤتمر القادم للحزب كبح جماح التيار الرأسمالي في الحزب وذلك بتهذيب أو تشذيب التجاوزات التي ارتكبتها الشركات الكبرى وبخاصة في مجال الإنترنت والحواسيب، المدهش طبعاً أن يتبادل الغرب والصين الاهتمام بهذا الأمر في وقت واحد. هناك في الصين، كما أعلم، من يعتقد أن المؤتمر يجب أن يقرر انفتاحاً رأسمالياً أوسع وهناك من يتمنى أن يخرج بقرارات تقيد حرية التوسع الرأسمالي. المثير الآن هو أن كلاً من الصين من ناحية، والعالم الغربي من ناحية أخرى، يبذلان جهوداً صادقة ومتواصلة، وإن متواضعة، لإصلاح النظام الرأسمالي. غير خافٍ على المسئولين، على الناحيتين، أن سقوط قلاع الرأسمالية بسبب فسادها أو تجاوزاتها سيكون مدوياً ويجر في سقوطه الأمن والسلم الدوليين.
خامساً: الإستعداد لقرارات لها صفات التغيير الجذري في توجهات النظام السياسي في الصين تستدعي اتخاذ إجراءات فورية وبعضها متدرج خلال الفترة المتبقية على انعقاد المؤتمر. مثلاً يتوقعون خلال السنة القادمة وحتى شهر أكتوبر/تشرين الأول تضييقاً جديداً في مجال الحريات والحقوق السياسية، يتوقعون أيضاً التخلص من معارضي التغيير وسياسات الرئيس شي والمترددين في التأييد. وسوف تصدر بالتأكيد قرارات تجدد الالتزام بتوحيد تايوان والصين وتستكمل دمج هونج كونج في الوطن الأم وحماية سنكيانج والتيبت من الاختراق الخارجي وعناصر الانفصال، والاستمرار في إنشاء مستوطنات صينية على الحدود مع الهند في مناطق الهملايا.
سادساً: يبقى واضحاً أن هذا المؤتمر سوف يصدق على وثيقة تاريخ الحزب الشيوعي الصيني من منظور الرئيس شي. يتوقعون أن تتضمن الوثيقة رؤية الرئيس للمستقبل بوحي من المقولة الشهيرة “من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل” واستناداً إلى تجربته في الحكم وخلاصتها أمران أولهما أن الصدام مع أمريكا حتمي ولكن يجب أن يؤجل إلى منتصف القرن أو ما بعده. ثانيهما أن المرحلة القادمة في الصعود الصيني سوف تعتمد على السياسة أكثر من الإقتصاد.
يبدو لي أن الرئيس شي اكتشف وإن متاخراً أن الأدوات الجيواقتصادية التي أوصى الرئيس دينج باستخدامها حققت أهدافها ولم تعد كافية وحدها لإدارة عملية صعود الصين إلى القمة. لذلك يتعين الآن، حسب الآراء والمشورات من الدوائر المحيطة به، البحث عن مواقع وفرص فراغ سياسي، يقصدون الفراغ الذي تخلفه الولايات المتحدة باستمرار انسحاباتها المتوقعة في المستقبل.
سابعاً، في ما يتعلق بصنع السياسة الخارجية للصين، حدث خلال السنوات الأخيرة توسع كبير في عدد الأطراف المشاركة في صنع هذه السياسة، وبطبيعة الحال صارت العملية أشد تعقيداً. لاحظنا مثلاً أنه أصبح للحكومات المحلية دور كبير في صنع هذه السياسة، أتيح لها هذا الدور بفضل الإصلاحات الإدارية التي تقررت في عهد الرئيس دينج. لاحظنا أيضاً توسع وتعدد أدوار أنيطت بقطاع الدبلوماسية. لا يغيب عنا أن تعبير ذئاب الدبلوماسية المستخدم بكثرة هذه الأيام يعكس درجة أكبر من الاحتراف في هذه المهنة فضلا عن حقيقة أن الدبلوماسيين الصينيين صاروا يمثلون قوة ضغط بحكم إنجازاتهم في الدول المستفيدة من “مبادرة الحزام والطريق”. لا يفوتنا بطبيعة الحال الوزن الثقيل دائماً وبخاصة مؤخراً للمؤسسة العسكرية. لعبت هذه المؤسسة في وقت من الأوقات دور الموازن لقوة الحزب وهيمنة البيروقراطية الحكومية، وأظن أنها مستمرة في أداء هذا الدور ببراعة وانضباط.
***
لم يكن طريق الصعود إلى القمة في أي مرحلة من مراحل التاريخ مفروشاً بالزهور. في البداية ربما هكذا يبدو. الآن الطريق نفسه صار مغروزاً بالألغام وعلى جانبيه إغراءات رهيبة ومحفزات هائلة، وعند كل انثناءة في الطريق تقف البشرية تنتظر بشائر عالم جديد.
