جميل مطر, Author at 180Post

800-38.jpg

كان في مطبخ بيتنا الكائن بشارع سامي القريب من نواصي التقاء شارعي نوبار وخيرت دولاب سحري سمعتهم يطلقون عليه اسم «النملية». كنت طفلًا يبدأ فضوله بأسئلة مستحيلة فتأتيه إجابات مدهشة. أذكر صباح يوم خصصوه لتنظيف المطبخ، رأيته على اتساعه مزدحمًا بلفائف وصحون مكشوفة وأخرى مغطاة، ومعلبات كرتونية وزجاجية ونحاسية من كل حجم ونوع. أشياء عديدة وكأن أهل البيت اشتروا لتوهم محتويات محل جزارة ومحل بقالة ومحل حلوى ومحل عطارة وبهارات في آنٍ واحد. سألت السؤال المستحيل فكانت الإجابة بنعم.. كلامك صحيح، ونستعد الآن لحشرها جميعها في النملية.

799-1.jpg

تزحزحت عن معظم مواقعها الطبقة الوسطى المصرية خلال هذا القرن الذي مضى. لم تنتقل ولم تتحول ولكن تحركت قليلاً، تزحزحت. ما عهدناه عن إنسان الطبقة الوسطى، وبخاصة هذا الإنسان الذي وافق فاشترك عن قرب أو انضم واندمج في مشروع نهضة، عهدناه لا يذهب إلى الجديد إلا وقد ترك خلفه شيئاً أو أشياء. يقال عنه، تهذباً واحتراماً، إنه أخذ معه كل ما خف حمله وثقلت قيمته. أنا شخصياً، وقد عشت في هذه الطبقة في أكثر من حي، أؤكد عن خبرة مبررة أن أحداً من بين من عرفت انتقل من الحي الذي عشنا فيه إلا وكان حزيناً على فقد ما ترك وما تخلف وراءه من أفراد وأشياء.

800-4.jpg

زرتها طفلاً في رحلات مدرسية لألعب وألهو مع أقراني تحت رقابة المُدرّس المشرف على الرحلة. لا أذكر عدد هذه الرحلات، ربما كانت بعدد السنوات الدراسية في المرحلة الابتدائية وعدد الرحلات العائلية التي كان الوالد ينظمها مع أقرب أصدقائه وأشقائه وزوجاتهم وكل أولادهم، وكانت أمي تستعد لهذه الرحلات بالعمل في المطبخ لساعات خلال الأيام السابقة على موعد الرحلة.

4e00.jpg

كان مراهقاً يافعاً عندما صدر القراران 181 و194. لم يكن مؤهلاً أو واعياً ليحكم على عمق وأهمية هذا المنعطف الأول في مسيرته. تنوعت وتعددت الأطراف الصانعة والمحركة لهذه المسيرة الأولى. تعلم أن يثق في قادته في الحركة الكشفية وفي قادته في الحركات "الإيمانية" المبكرة وفي قادته في "التنظيمات السياسية" كفروع بدائية أو مراهقة في المدرسة الثانوية لتنظيمات أقوى خارج أسوار المدرسة. قيل لنا إن القرارين بالفعل نكسة تنضم إلى نكسات في نضالنا المصري ضد الاحتلال البريطاني لمصر، نكسات تكتسي رداء خرق الوعود والاتفاقات الغامضة أو الملتوية الأسلوب.

image.jpg

إن نسيتُ من الماضي أحداثاً ومناسبات للحزن أو الفرح، أو لهما معا، فلن أنسى زياراتنا الممتدة إلى مقابر العائلة في منطقة مدافن باب الفتوح. أعرف أنه في جهة ما من جهات الحكومة من يحاول طمس ما حملت ذاكرتي وذاكرة آخرين؛ أحداثا عشناها وأماكن عشقناها وأناساً عاشرناهم. تمنيت لو توقفت المعاول، حتى لو حسنت نواياها، عن هدم معالم حزن ناعم مارسناه بفرح أيضاً ناعم. تمنيت لو تركوا لأطفال هذه الأيام فسحة في زمنهم تعيش معهم ضمن ذكريات عن متع نادرة.

700-3.jpg

اكتشفت مؤخراً، بل ومؤخراً جداً، أنه بعد عقود عديدة قضيت بعضها أدرس علوم السياسة وقضيت أكثرها أعمل في جانب أو أكثر من جوانبها وأعيش في دهاليزها ما زالت تحدث أمور وتغيب، أو تحدث وتستقر، ويبقى فهمي لها متعثراً.

800-16.jpg

جرت العادة في بيوتنا، بيتنا وبيوت خالاتي، أن تقضي الخالات مع أطفالهن نهاية الأسبوع مع جدتنا في البيت الكبير الكائن بشارع أمير الجيوش الجواني (مرجوش بالعامية المصرية)، وهو شارع رئيس متفرع من المعز لدين الله الفاطمي من جهة ومن فاروق من الجهة الأخرى. كنت كطفل أتطلع بشغف لنهاية أسبوع أقضيها مع أطفال العائلة، وكلهن بنات باستثناء خالة واحدة كان لها إلى جانب البنات صبيان في مثل عمري ولكنهما كانا يفضلان قضاء نهاية الأسبوع في بيت كبير آخر، بيت يسكنه كل الأشقاء في عائلة الدهان، وهؤلاء كانوا ينجبون عديد الذكور.

Trump-Xi-trade-truce.jpg

المتابع للرئيس دونالد ترامب لا يضجر ولا يمل. أتصور أنه بدون شك ساهم في تسهيل عملية مراقبة انتقال العالم إلى طور جديد ومختلف. صحيح أنه ليس اللاعب الأفضل في هذه المرحلة من لعبة تدوير النظام الدولي ولكنه بالتأكيد اللاعب أو الطرف الأكثر تشويقا وإمتاعا. هو النموذج الأمثل للسياسي الملتزم عقيدة ونظرية القوة في السياسة الدولية والرافض تماما بل والكاره كرها مقيتا للنظرية الأخلاقية.

750-14.jpg

مثلُ كثيرين أحنُ إلى بعض، وليس كل، الماضي. أخشى إن تمنيت عودتي إليه وتحقق التمني أن أجد فيه تفاصيل لم أحبها. أخشى أيضا أن أعود وأنا في هذا العمر وهذا الشكل فينفر من لقائي أصحاب وصاحبات الزمن الذي عدت إليه. أو أعود فلا أجد شجرة الجميز التي غفوت كثيراً من "قيلولاتي" في ظلها، ولا أجد على حافة النهر النخلتين اللتين شدني إليهما عناقهما الصريح والمكشوف، ولا أجد الشاب بائع المثلجات ليحمل لي النبأ السعيد "لقد غيروا العسكري الذي كان يزعج عشاق وعاشقات النخلتين المنحنتين قليلاً في خشوع وجمال". سعيد الصبي البائع بغياب السلطة الجائرة وعودة الخشوع والهدوء الممتع والعشاق إلى المكان.