الأحزاب الأخرى تنطلق من وجود الناس. تعدهم بتلبية المطالب والرغبات. ليست الغاية، إلهية أو غير إلهية، هي ما تستند إليه الأحزاب الأخرى، بل وجود الناس؛ على الأقل بنظر أصحابها. أما الحزب الديني، فهو ملتزم حكماً بما يتعدى الناس ووجودهم. بين الوجود والقضية، يخضع الوجود للقضية. لما كانت القضية إلهية بمقتضى ما يفرضه الدين، يحتاج الحزب الديني الى مواجهة مع خصوم الدين أو أعدائه. فالواجب يقضي دعوة الآخرين وهدايتهم. فينشأ لدى الحزب الديني جهاز دعوة يتحوّل أحياناً، أو في معظم الأحيان الى مجاهدة تكون باستعمال العنف المسلّح. جهاز الدعوة يتوازى مع جهاز المجاهدة. لما كانت الدولة الحديثة هي من يُفترض بها أن تحتكر العنف المسلّح، يضطر الحزب الديني الى إنشاء “التنظيم” خارج إطار الدولة. “التنظيم” المسلّح بدأ عند الاخوان المسلمين قبل غيرهم من المذاهب الإسلامية. ومطلب تطبيق الشريعة ذاته يفترض دولة خارج إطار الدولة الرسمي، أو ما يسمى دولة ضمن دولة. كل دولة غير دينية، لا تستحق الاعتبار بنظرهم، لأنها ليست صادرة عن الله.
يخجل أتباع الطوائف من تعصبهم، ربما لأن الطائفة تعني بما تعنيه، نهب الدولة والسطو على حصص الطوائف الأخرى. لا يخجل أصحاب الأحزاب الدينية من دعوتهم وتدينهم. فهم يعتبرون أنفسهم وأحزابهم مكرسين لله والهداية للإيمان. هؤلاء يتعاملون مع الآخرين باستعلاء وسخرية. لا يهمهم الناس ولا حياة الناس ومطالبهم، ولا يجدون أنفسهم مضطرين لأي ولاء للناس أو للدولة. ولاؤهم لله وحده. له يدينون والقضية التي يعملون من أجلها ذات قدسية تفيض عليهم. هم يتعاملون بالمقدس والحلال في وجه الحرام. الحزب الطائفي يتواضع إذا ظهر ما يُبطنه. يتباهى أصحاب الحزب الديني بما يُظهرونه ويُبطنونه. يُخفي الطائفي مشاعره الحقيقية. أبناء الأحزاب الدينية لا يفصلون بين ما يضمرون وما يبطنون. الدعوة لله في كل شيء يفعلونه. هذه العلاقة تحصنهم أخلاقياً في المواجهة بينهم وبين أنفسهم، ومع الآخرين. الأخلاق علاقات بين البشر. هي في أحسن الأحوال تجسيد لعلاقة مع المتسامي. وما بينهم وبينه يعلو على كل علاقة دنيوية بين البشر. كل شيء مسخّر للغاية. والغاية هي المتسامي والدعوة له. يندمجون في قضيتهم اندماج الصوفيين في حلقات الذكر. يخاطبون أنفسهم ولا يبادلون الناس الخطاب. لا فضاء للحوار والنقاش. كل فعل يصدر عن تكليف. صاحب الأمر والنهي يتوجه الى أبناء حزبه بعلاقة ذات اتجاه واحد. تصدر عنه وتصل إليهم في مجال غير سياسي. إذا مارسوا السياسة فذلك ليس لخدمة الناس في إدارة المجتمع بل لإثبات أن كل شيء في خدمة الباري تعالى. يتعالون مع تعاليه. يتسامون مع تساميه. تساميهم يجعلهم جماعة دون الناس.
لديهم عادة احتقار الناس واعتبارهم العوام الذين لا قيمة لمشاعرهم ومطالبهم. هم لأخذ التلقين وحسب. أصحاب العمامة يلقنونهم وقادة الحزب الديني يوجهونهم في سلوكهم اليومي وفي مسيرهم الى الشهادة. احتقار الناس متجذّر في عقيدتهم. لذلك ينكرون أن 17 تشرين ثورة ويتخذون الموقف ضدها
هم غير الآخرين في تساميهم. جماعة مغلقة. انغلاقها ينبع من التغاير. ما يسري عليهم لا يسري على غيرهم. الخير والشر لا يتعلقان بالفعل بل يصدران عن أنفسهم. صاحب النفس النبيلة يفعل الخير دائماً. كأنهم نيتشويون (من نيتشه). ما يفعلونه هو الخير حتى ولو تشابه مع ما يفعله الآخرون واعتُبِرً شراً. سفارتهم رحلة الى المتسامي؛ خير دائم. سفارات الآخرين رحلات الى الشياطين ومن بينهم الشيطان الأكبر الذي يتولى الامبراطورية. حتى ولو اتصلوا بالشيطان الأكبر فذلك ابتلاء. هم مبتلون بهذه الدنيا. ومن أسباب وجودهم فيها الابتلاء بما كان ولا يزال هو الوسواس الخناس.
ساكنو الجماعة المغلقة لا يحتاجون الى الآخرين؛ هؤلاء يحتاجون إليهم. حرف الجر خاصتهم هو علاقة عامودية تأخذهم الى الأعلى. حرف الجر الخاص بالآخرين علاقة أفقية بين الناس. الدولة علاقة بين الناس. علاقة متبادلة، من البشر الى البشر، عن البشر والى البشر. العلاقة لديهم، أي الحزب الديني، هي فقط من وعن المتسامي. هو يستحق الوفاء له. الوفاء له واجب يحتمه الدين. السياسة تفترض علاقات أفقية لا يمكن الوفاء فيها، بل يجب في السياسة أن تكون القضية وفاء للناس. يفي الإنسان بوعده. الوعد لا يكون صادقاً إلا إذا تضمن الوفاء للمتسامي وصدور القبول عنه. الشهادة عند الله مكرمة؛ فعل نبالة. لا علاقة لها بالموت. الموت للآخرين. يخلّد الشهيد من عبوره من دار الفناء الى دار البقاء.
التفسير الحرفي للكتاب المقدس يحتسب الملائكة في عداد المجاهدين. الأرقام الصادرة عن زعامة الحزب الديني تأخذ الأمر بالاعتبار. فعدد المشاركين في المجاهدة ليس مستنداً الى إحصاء بشري. لا يكتمل العدد إلا بحسبان الملائكة ضمنه. ألم يدعم عمر بن الخطاب جيش عمرو بن العاص الذي كان قليل العدد بآلاف من الملائكة؟ نقل الرواية إبراهيم عيسى عن المؤرخين القدماء في إحدى رواياته. فهل احتسب عدد الملائكة في المئة ألف مجاهد؟
يعتمد الحزب الديني على المغايرة. هم غير الناس. خير أمة أخرجت للناس؛ ألا يقول النص المقدس ذلك؟ مغايرتهم تفترض استثنائيتهم وتعاليهم على الآخرين، حتى والهزء بهم وبمصائبهم ومصائرهم. لا مصير يستحق الاحترام إلا الشهادة. يعتمدون التربية والتلقين ليكون ذلك جزءاً من اقتناع الأتباع وعقيدتهم. هؤلاء لا يحتاجون الى ثقافة عامة ومعرفة تهدفان الى الإحاطة بما حولهم بل التدريب على ولوج طريق الشهادة. ما تطوّع الملائكة لنصرتهم إلا لأنهم كذلك.
لديهم عادة احتقار الناس واعتبارهم العوام الذين لا قيمة لمشاعرهم ومطالبهم. هم لأخذ التلقين وحسب. أصحاب العمامة يلقنونهم وقادة الحزب الديني يوجهونهم في سلوكهم اليومي وفي مسيرهم الى الشهادة. احتقار الناس متجذّر في عقيدتهم. لذلك ينكرون أن 17 تشرين ثورة ويتخذون الموقف ضدها. يناصرون أنظمة عربية استبدادية بحجة محاربة الإرهاب والتكفيريين. من حيث لا يدرون، أو ربما يدرون، يقفون مع الاستبداد والامبراطورية ضد الإرهاب والتكفيريين في “حلف” واحد. هم أنصار المصارف، سواء قدمت لهم الخدمات أو لا، وسواءً قدموا لها الخدمات أو لا. ألا تراهم وعلى لوائحهم الانتخابية أصحاب المصارف؟ هم دائماً في صف الثورة المضادة. ثورة الناس ومطالبهم ضد أنظمتهم ومطالب إسقاط النظام. هي كلها ضد النظام القائم عربياً ومحلياً. لا بد وأنهم ينفذون إرادة إلهية في زعمهم. النظام القائم لم يوجد إلا لأن الله أراده. هل يحدث أي شيء على الأرض إلا بإرادة المتسامي؟
اعتبرت الرأسمالية نفسها طبيعة بشرية. وكان ذلك إيذانا لها للقيام بكل أنواع الاستغلال والحروب الأهلية وحروب الإبادة. هم يعتبرون ما يحدث على الأرض تجسيداً لإرادة الله. لولا الاعتقاد بذلك لكان الأمر شركاً. تغيير ما على الأرض، حتى ما ابتلي به الناس من رأسمالية واستغلال وأنظمة استبداد، هو حنث بالعهد مع المتسامي. ما هو موجود إرادة له. لا يريدون الخروج على إرادته. لذلك الحلف دائم مع قوى الاستغلال والاستبداد، ومع القوى الحاكمة، لأنها موجودة بإرادة الله.
أينما حلّ الحزب الديني هناك دولة موازية. لا ثقة بالدولة الرسمية، ولا بجيشها. الجيش الموازي، سواء كان حرساً ثوريا أو حرساً جمهوريا هو موضع الثقة. نظام الاستبداد أيضاً لا يثق بجيشه الرسمي
ينضمون الى الثورة المضادة. ولاؤهم لها. يشكون دائماً بالمنادين بالتغيير والثورة. رحلة هؤلاء الى السفارات غير سفارتهم. سفارتهم تنطق عن الحق. في النهاية يكرسون أنفسهم للمتسامي لا للعلاقات مع الناس. الناس يجب أن يُكرّسوا للقضية، وإلا فليس عندهم وفاء. يُلام الناس على ما يحدث مما لا يروقهم. يحيلونه الى مخالفة لأمر الله. هم دائماً يدعون إليه والى طاعته. فيهما السعادة الأبدية. ليست العلاقة مع الآخرين قائمة على السياسة، وهذه على التسوية، وهذه على التنازل عن بعض الحق. الحق المطلق لا يؤخذ إلا كاملاً. ليس في حسابهم أن سياسة الحق ليست سياسة. هي دعوة للمطلق. دعوة لا سياسة فيها. التحالف مع الآخر نوع من الموادعة كما بين دار الحرب ودار الإسلام قديماً. هو نوع من علاقة ديبلوماسية بين جماعة مغلقة وآخرين مختلفين. فكأنهم من مجتمع آخر. الدولة ضمن الدولة هي في الأصل جماعة مغلقة ضمن المجتمع. الحزب الطائفي لا يتعامل مع الآخرين على أنهم أغيار أو مجتمع مغلق آخر. هم فقط منافسون للطوائف الأخرى داخل المجتمع، في صراع على الحصص ومغانم يتيحها الاشتراك بالدولة. يعترفون بالدولة. ذلك عكس الحزب الديني الذي لا يعترف بالدولة. يحميها إذا اقتضت الظروف، ظروف الموادعة والديبلوماسية التي تكون عادة بين الدول. الحزب الديني في موادعة مع الدولة. ذلك أشبه بعلاقة ديبلوماسية بين دولة وأخرى، وبين جماعة وأخرى، وبين جماعة ومجتمع مغاير.
أينما حلّ الحزب الديني هناك دولة موازية. لا ثقة بالدولة الرسمية، ولا بجيشها. الجيش الموازي، سواء كان حرساً ثوريا أو حرساً جمهوريا هو موضع الثقة. نظام الاستبداد أيضاً لا يثق بجيشه الرسمي. الحزب الديني يسير على خطى أنظمة الاستبداد. ليس على سبيل التحالف بل التشابه والمماهاة.
الحزب الديني هو دائماً نيوليبرالي بغض النظر عن الوجهة الدينية. كلاهما يستصغر شأن الدولة. لا اعتبار لها كوعاء يحتوي المجتمع، ناظماً له، على أساس السياسة والحوار. لم يكن صدفة أن الأحزاب الدينية والحكومات الدينية سياساتها الداخلية دائماً نيوليبرالية، وذلك بسبب العلاقة بالدولة، واعتبار ضرورة تصغير شأنها. في النيوليبرالية يتضاءل حجم الدولة بالنسبة للرأسمال الكبير الذي يحكم. لدى الحزب الديني استصغار لشأن الدولة ولا بأس إذا كان التحالف مع قادتها. الهدف واحد، والايديولوجيا تتشابه، وإن كان الأمر على تفاوت وبعض الاختلاف. حكم الاستبداد دائماً نيوليبرالي في تحالفه مع الراسمال المالي واستهانته بأمر الدولة. لا يُستهان بأمرها فقط لدى أهل السلطة بل يُستهان أيضاً بشعبها.
الدولة الحديثة ليست فقط سلطة، هي أيضاً الناس في اجتماعهم ومشاركتهم. إبعادهم عن ذلك، وإقصاء السياسة عنهم، هما في صلب النيوليبرالية، وحكم الاستبداد، والحزب الديني. الحزب الطائفي يشرك جماعته في الدولة والسياسة، وإن كان الأمر يتحقق عن طريق أكباش الطوائف للقيام بالمهمة. علاقة فساد بالدولة، لكنها علاقة تتضمن الاعتراف بها ولو لغايات ومصالح خاصة بالطائفة. علاقة الحزب الطائفي قائمة على فساد لا ينكرونه، بل يفرضون على السلطة تجاهله. علاقة الحزب الديني بالفساد قائمة على إنكاره. الفساد لغيرهم أما هم فالعلاقة بالمتسامي تحصنهم.
علاقة الحزب الديني بالعلم ملتبسة. المعرفة عندهم تُستنبط من بطون الكتب الفقهية والفتاوى الدينية. العلم الحديث مستنكر. فيه الكثير من التساؤل والشك حول الكون ومصيره. ذلك بخلاف ما هو مأخوذ من قصص الكتاب العزيز، والقصص هذه مأخوذة من سفر التكوين التوراتي. نظرية النشوء والارتقاء (عن تطوّر الجنس البشري انطلاقاً من أشكال الحياة الأدنى) تتناقض مع نظرية الخلق الدينية. العلم الحديث يتناقض مع الدين إذا أخذ بحرفيته. وهو، أي العلم الحديث، ما أثبتته الاختبارات والمختبرات وملاحظة الطبيعة واكتشاف قوانينها. أما التكنولوجيا، وإن استندت الى العلم الحديث، فهي أمر آخر يؤخذ به. التكنولوجيا ليس فيها أسئلة حول الكون والمصير. هي فقط أخذ بنتائج العلم وتعليبها وتدجينها بما يفيد الحياة اليومية. سمة متعلمي أو مثقفي القرن الماضي أن في كل واحد منهم شخصيتان متوازيتان متجاورتان لا تلتقيان. واحدة تقليدية وأخرى تعطي الأولوية للتكنولوجيا. تفاقمَ الأمر مع توسّع المزاج الديني في المجتمعات الإسلامية.
يؤسس ذلك للخوف من الثقافة العالمية، ثقافة الحداثة. يكثر الحديث عن الغزو الثقافي ومخاطره، على الإسلام ديناً ومجتمعاً. الخوف منبعه التعالي الديني الذي يتمتّع به المسلمون. هم جماعة الله ودينهم آخر الأديان تتويجاً لها، ونبيهم خاتم الأنبياء. التاريخ في وعي المسلمين بدأ مع آدم. وهو يقود الى الإسلام، والإسلام يقود الى الله. للتاريخ غاية منذ أن وُجِدَ البشر. ربما كانت الغائية موجودة في الأديان الأخرى، خاصة السماوية منها، لكنها عند المسلمين حدث تاريخي. كما يُروى التاريخ، أو ما يُسمى القصص، بصيغة حدثنا فلان عن فلان، وصولاً الى ابن عباس في احيان كثيرة؛ يُروى وكأن من يُحدّث شهد الوقائع التي يُحدّث الناس عنها. والبعض يُحدّث عن قيام الساعة، ونهاية البشرية وربما الكون، وكأنها حدث تاريخي آخر. أحياناً، ينتحلون أحاديث عن النبي لإثبات رؤيتهم.
يخفي التعالي الديني دونية ثقافية. ألا يدري المسلمون أن مساهمة مجتمعاتهم في ثقافة العصر ضئيلة؟ ألا يُكثرون الحديث عن أمجاد الماضي وانجازات الثقافة الإسلامية القديمة وكأن في الأمر إنكاراً لما هم عليه؟ يطغى الحديث عن امبراطورية الشر. وهو كلام صحيح في معظمه. فشرور الرأسمالية العالمية واستغلالها للبشر وحروب الإبادة التي شنتها وما تزال، هي ما لا يمكن إنكاره. لكن لماذا التغاضي عن نجاحات امبراطورية الشر ونجاحات الرأسمالية في تجاوز أزماتها، وهي جزء من طبيعتها، وربما لن تزول الرأسمالية إلا بإزالة البشرية معها. سلاح الدمار الشامل، ومنه السلاح النووي، حاضر لتأدية المهمة. قاربت الرأسمالية من جعل نفسها طبيعة بشرية. وهي تستخدم ايديولوجيا “حقوق الإنسان” للتعمية على طبيعتها غير الطبيعية. لدينا رؤية للعالم فيها الكثير من عدم التوازن وفيها نقص كبير نتيجة معاناة لا موضوعية.
غاية الحزب الطائفي هي الناس بوجودهم. يقر بالدولة لأسباب تتعلّق بمصلحة الطائفة. الحزب الديني لا يهمه وجود الدولة. هي كيان دخيل بين الحزب والمتسامي. هي تمثّل بشكلها وجود الناس وإراداتهم ورغباتهم. خُلِقَ الإنسان من أجل غاية أسمى. الدولة عند الحزب الديني وسيلة؛ ليست هدفاً
الحزب الديني لديه رؤية للعالم. هي رؤية لا يبالي بها الحزب الطائفي. لكن رؤية الحزب الديني تحتّم أن يُشكّل الحزب جماعة مغلقة، وأن يكون الأعضاء منفذين لا مشاركين في القرارات المطلوب منهم تنفيذها، وأن يكون هناك تقليد لأحد المرجعيات الدينية. تفرض هذه الرؤية نفسها على التنظيم. فلا يقرر الفرد سلوكه، باتصال حتى مع الآخرين من جماعته، بل بتكليف ممن هم أعلى رتبة، ويسمى الأمر تكليفاً شرعياً. فكأن الأمر صادر عن صاحب الشريعة بواسطة رجل الدين. هي رؤية دعوية تتجاوز الجغرافية وحدود الدول. رؤية تضع العالم نصب عينيها، فتحاول إصلاحه بالهداية الى الإيمان الصحيح. رؤية الحزب الديني للعالم تفرض عليه أن يرى الشأن المحلي تفصيلاً. ليست السياسة المحلية هي ما يقرر مواقفه وسلوكه. غائية تسري على الكوني وعلى المحلي. كل شيء مكرّس في سبيل الغاية-القضية. المهم هو الهداية الى تلك الغاية-القضية. وجود الناس يكون من جملة التفاصيل. غاية الحزب الطائفي هي الناس بوجودهم. يقر بالدولة لأسباب تتعلّق بمصلحة الطائفة. الحزب الديني لا يهمه وجود الدولة. هي كيان دخيل بين الحزب والمتسامي. هي تمثّل بشكلها وجود الناس وإراداتهم ورغباتهم. خُلِقَ الإنسان من أجل غاية أسمى. الدولة عند الحزب الديني وسيلة؛ ليست هدفاً. هي في أفضل الأحوال وسيلة، وفي معظم الأحيان عائق في وجه الهداية. البشر وسيلة فما أحرى أن تكون الدولة وسيلة أو عائقاً.
لا تندمج جماعة الحزب الديني في الدولة ولا في المجتمع. هي جماعة خاصة بأهلها. تشكّل كياناً منعزلاً مغلقاً. على ما تبقى من المجتمع إما الهداية وإما خدمة القضية-الغاية. يُسمي البعض ذلك دولة موازية. المسألة أعمق وأشد تجذراً. هي جماعة-أمة موازية. الجماعة في الأرض والأمة في السماء. هذا التناقض هو الذي جعل الاخوان المسلمين يلجأون الى نظرية التمكين، والحكم الإسلامي في إيران الى وضع المرشد فوق المجلس النيابي (الذي يفترض أن يمثل الشعب ووجوده). أما في لبنان، فإن الارتباك الحاصل في وجود الدولة وطغيان الفراغ على زمن الجمهورية فهو شاهد على ما يقال. المعني بالفراغ هو خلو الرئاستين الأولى والثالثة لمدة طويلة، بالإضافة الى خلو وظائف بيروقراطية أخرى أو تجريد مؤسسات قائمة من صلاحياتها. الفراغ ليس نتيجة سياسة فاسدة بقدر ما هو ناتج عن عقيدة يعتبرها أصحابها الحق الأعلى أو الغاية.