ما بين التاريخين حدث – على سبيل المثال – ما جعل التواجد شخصياً في افتتاح كأس العالم 2022، أهم من التواجد في قمتي الجزائر والمناخ في شرم الشيخ (وهذه الجملة قالها مسؤول عربي كبير شارك في المناسبات الثلاث)، ليس لاعتبارات الجدوى والفاعلية فحسب، ولكن أيضاً كركيزة في اتجاه ممارسة السياسة عبر الدعائية، مروراً لابتلاع الأخيرة للأولى، ثم الموازنة أخيراً بينهما للخروج من مناخ الاستقطاب الاقليمي الصفري المُهلك في العقد الأخير.
تجسد هذا التوجه القطري في حفل افتتاح المونديال، حيث الصورة أصدق إنباء من الكتب، والتجربة خير دليل.. إلخ من ألعاب لغوية ومجازات تُعبّر عن ثقل مراكمة وإدارة التحولات المصاحبة لهذه الرحلة القطرية بكل تقلباتها من النقيض للنقيض، بل إدارة النقيضين معاً، داخلياً وخليجياً وإقليمياً ودولياً؛ فمن قطر نافذة “القاعدة” على العالم ووسيطة “طالبان” وحامية “الإخوان” وراعية “الدواعش” وإخوتهم، إلى المتقبلة للآخر.. إلخ!
أبرز ملامح حفل الافتتاح لم تكن محصورة فقط في مظاهر البذخ والإبهار بكل أنواعه ومستوياته، بل أيضاً بمفاجآت سياسية بعضها متوقع سلفاً لتوافر ظروفه الموضوعية، ولكن ليس بهذا الإخراج الدعائي الصادم لسكان فقاعات الاستقطاب الإعلامية/الافتراضية الذين مثلوا وقود الخلافات الخليجية-الخليجية والعربية-العربية بعد سنوات المقاطعة والحصار وصولاً لإعلان العُلا السعودي، وليس هناك أبرز من تبادل ارتداء الإعلام القطرية والسعودية بين محمد بن سلمان وتميم بن حمد، كلقطة توضح الرعاية السعودية لمسار التسوية خليجياً وإقليمياً، وتتويجه بإتمام افتتاح المونديال، وحصد الرياض ثمار هذه الرعاية عبر الفوز المستحق على الأرجنتين، والذي تم استثماره إعلامياً وسياسياً كملامح نجاح أولي لرؤى واستراتيجيات وسياسات الملك ـ الأمير، وبينها إدارة الخلافات وفق سلم أولويات تكاملي لا يخلو من المنافسة، وذلك فيما يتعلق ببروز عواصم ومدن خليجية كمدن عالمية ومراكز مال وأعمال، وتجريب ذلك من خلال حدث كأس العالم واعتباره حدثاً خليجياً بالدرجة الأولى.
إقليمياً، جاءت صورة المصافحة بين الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي والتركي رجب طيب أردوغان يتوسطهما أمير قطر تميم بن حمد، والتي تراوح وصفها بين مجرد “مصافحة” إلى الحديث عن “قمة”؛ حيث علق أردوغان بقوله أن مصافحة المونديال “أولى خطوات تطبيع العلاقات بين القاهرة وأنقرة”، وأكمل بقوله إن اللقاء مع السيسي إستغرق ما بين نصف ساعة إلى خمس وأربعين دقيقة “وإتفقنا على مواصلة المباحثات على مستوى الوزراء”، فيما تضمن بيان المتحدث باسم الرئاسة المصرية “التأكيد المتبادل على عمق الروابط التاريخية التي تربط البلدين والشعبين المصري والتركي، كما تم التوافق على أن تكون تلك بداية لتطوير العلاقات الثنائية بين الجانبين”.
ويأتي اللقاء التركي المصري في موازاة تطورات تشهدها النقاط الخلافية بين مصر وتركيا، بعضها إيجابي فيما يخص مصير الدعم التركي لفلول جماعة الإخوان المسلمين، كذلك مسارات التهدئة واستمرارها في ليبيا، والبعض الآخر سلبي والمتعلق تحديداً بالتدخلات التركية والتلويح بعمليات عسكرية برية في شمال كل من سوريا والعراق.
المردود المتوقع ليس موجة انتقاد وإدانة ووصم على خلفيات حقوقية، لم تحدث حين دعمت الدوحة جماعات مسلحة، ولا حتى الرهان على عائد مادي من الاستثمار الرياضي الأضخم في التاريخ، ولكن العائد السياسي بشكل رئيسي؛ والذي يعني هنا وضع الإمارة الخليجية على الخارطة العالمية ليس بالمعنى الاقتصادي والدعائي فحسب، ولكن كدور وظيفي يمكن وصفه بـ”الوسيط”
ويمتد الحضور الكثيف للسياسة في المونديال عبر روافد عدة بعضها مكرر والبعض الأخر مستجد خطير؛ فهناك المباريات السياسية بين إيران والولايات المتحدة (إنتهت بواحد صفر لمصلحة “الشيطان الأكبر”)، بالإضافة إلى مباراة جمعت الأولى مع إنجلترا بنفس المجموعة، التي عكست مبارياتها التوافق الانجلوساكسوني، وانعكاس أصداء الاحتجاجات في الداخل الإيراني عبر امتناع اللاعبين عن ترديد النشيد الوطني الإيراني، واستمرارها عبر التصريحات المتبادلة على مستويات كروية وإعلامية، كمثال لانعكاسات السياسة بتدرجاتها الداخلية والخارجية على مباريات المونديال، وأخطرها بالطبع الحرب الأوكرانية، وما انعكس منها على هذا الحادث الكروي بداية من حظر مشاركة موسكو في مسابقات “الفيفا”، ودعوات استبدال منتخب أوكرانيا محل المنتخب الروسي، وصولاً لمصاحبة مقاتلات حربية لطائرة المنتخب البولندي عقب حادثة الصواريخ الأوكرانية التي سقطت على أراضي بولندا “بطريق الخطأ”!
وعلى مستويات محلية، أتى المونديال كحدث سياسي مساوٍ لأهميته الرياضية؛ فعلى سبيل المثال يمثل توفير بث ومشاهدة المباريات البطاقة الرابحة في أي حدث انتخابي في العديد من دول المنطقة. حيث شهدت الخرطوم -مثلاً- توزيع باقات مشاهدة كأس العالم بشكل جماعي كنموذج أبرز في هذا السياق الغير جديد والمعهود منذ مونديال 2010 على الأقل، ولكن الأكثر كثافة من حيث التوظيف الانتخابي وشد العصب الجهوي والقبلي والتمايز السياسي بين مكونات الحكم المتأزمة هناك؛ حيث جاء الحل السابق لتفادي مشاهدة المباريات في الساحات الاجتماعية التابعة للقوى السياسية المختلفة، عبر القمر الصناعي الإسرائيلي، لما يشكله تطبيع الخرطوم مؤخراً مع تل أبيب من مخرز في عين مكونات الحكم هناك.
وفي سياق التطبيع، شكل المونديال فرصة لاستشراف آفاقه عربياً مع إسرائيل؛ حيث اثبتت الخلطة السحرية القطرية في استمرار إدارة العلاقات الجيدة مع تل أبيب، ومن هنا جاء قرار تسيير رحلات جوية بتوصية من “الفيفا” وتسهيل زيارة وإقامة عشرات الآلاف من الإسرائيليين على الأراضي القطرية. بالإضافة إلى طواقم إعلامية إسرائيلية انتشرت حول الملاعب لاستكشاف فاعلية موجة التطبيع الإبراهيمي، فكانت النتيجة رفضاً شعبياً إستثنائياً لإسرائيل في المونديال، وهي نقطة ركّز عليها الإعلام الإسرائيلي على مدى أيام الأسبوع الأول من المونديال.
يمتد مفعول هذه الوصفة القطرية إلى مسألة الحريات الفردية والجنسية والجندرية والتعبير عنها، وهي بجانب تداول وتناول الخمور أصبحت حديث الساعة افتراضياً، حيث إبقاء القيود والتحذيرات في حدود دنيا غير مُفعّلة بصرامة، وإبراز الإجراءات الرسمية حول “مخالفات” معدودة رصدت دون غيرها خلال أيام المونديال الأولى، على أنها تأتي وفق خلفية البلد المُنظِم، ثقافياً واجتماعياً وأخيراً دينياً.
السابق يمكن وصفه بالتحديث الأخير للخلطة القطرية، التي بدأت منذ عقدين على الأقل، عبر نسختي “الجزيرة عربي” و”الجزيرة إنجليزي” واستمرارها مع نسخة “بي إن سبورت” العربية ونظيرتها الإنجليزية كمثال مختصر؛ حيث الأولى موجهة للداخل العربي/الإسلامي بكل ما فيها من مداعبة لأوهام جمهور القناة المحافظ مثل افتتاح الاستديو التحليلي بقراءة القرآن وتعداد من دخل الإسلام من الأجانب خلال أيام المونديال الأولى، وتنظيم فاعليات دينية خلال استراحة ما بين الشوطين إلخ، بينما الثانية تشذب وتهذب وتقدم صورة وخطاباً منفتحاً على الآخر مرحب به متقبل له ولاختلافاته، وتدعيم ذلك فيما يخص القضايا الخلافية المثارة حول تنظيم الدوحة للمونديال، بما تيسر من تصريحات وبيانات الفيفا ومسؤوليها حول “الكيل بمكيالين” فيما يتعلق بحقوق العمال و”الخصوصية” الثقافية والاجتماعية فيما يتعلق بحق التعبير والتواجد للمنتمين لمجتمع قوس قزح .
ومع بدء الأسبوع الثاني للمونديال، فإن الأحداث واللمحات السياسية والمسيسة التي تخللته حتى الآن، تشير إلى تجريب واسع للخلطة القطرية على مستويات عديدة، أبسطها الوقوف على سقف ممكن عربياً وإسلامياً تجاه مجتمع الألوان والحقوق الجنسية والجندرية، وهو ما يتقاطع مع أسئلة الهوية والاستقطاب في المنطقة واختلافها عن نظيرتها في داخل الدول الغربية، والحيلولة دون تحولها لأوراق ضغط وابتزاز ومساومة في سياقات الطاقة والغاز، حيث جاء الموقف الرسمي الألماني بتحديد سقف سعري لشراء الغاز، فيما أعلنت قطررسمياً أنها ستمد ألمانيا بمليوني طن من الغاز الطبيعي المسال سنويا على مدى 15 عاما على الأقل، بدءا من 2026، وأنّ شركة “قطر للطاقة” تبحث في اتفاقيات أخرى محتملة لدعم إقتصاد أوروبا..
يأتي ربط سعر الغاز بشارة الرينبو التي مُنع الفريق الألماني من تعليقها وما بينهما من مسائل تتعلق بالحريات والخصوصية، ضمن سياق انعكاس القضايا الاستقطابية في الداخلين الأوروبي والأميركي على حدث عالمي مثل المونديال، حيث ساهمت الحرب الأوكرانية وقبلها تداعيات كورونا، في زيادة حدة الاستقطاب بين النخب السياسية هناك إلى درجة جعلت العناوين السابقة مثار استقطاب هوياتي ووجودي أكثر منه مجرد خلاف حول برامج انتخابية مثلاً، وما تبع ذلك من استعادة أنماط فرض وتوريط تشبه مثيلاتها إبان حقبة الاستعمار ولكن برطانة تقدمية، وهو ما تم مجابهته قطرياً بالتمترس خلف الخصوصية الاجتماعية والثقافية والدينية، والأهم تقوية هذه المجابهة بسيل أموال غير مسبوق، سواء أكان في تاريخ الفعاليات الرياضية، أو الصناديق الاستثمارية، التي سرعان ما أعلنت الدوحة مراجعتها في لندن إثر موجة الحظر والمقاطعة لفعاليات المونديال القطري، وآخرها حظر هيئة النقل البريطانية استخدام حافلاتها لدعاية المونديال.
ربما يأتي الستاتيكو السابق في سياق تلافي قطر ومن وراءها عواصم عربية وخليجية لـ ثقافة الإلغاء -ربما في المستقبل القريب ستصل لفرض عقوبات -على مستوى الدول والأنظمة الحاكمة وليس فقط الأفراد والمنظمات، وهو فيما بدا خلال العام الجاري، على أنه توجه عام يجمع الأضداد الخليجية والعربية، وتتصدره الدوحة حالياً برسم السقف الممكن من خلال حدث عالمي مثل المونديال، والذي أنفقت قطر لتنظيمه ربع تريليون دولار “رسمياً”، وبالتالي فإن المردود المتوقع هنا ليس موجة انتقاد وإدانة ووصم على خلفيات حقوقية، لم تحدث حين دعمت الدوحة جماعات مسلحة، ولا حتى الرهان على عائد مادي من الاستثمار الرياضي الأضخم في التاريخ، ولكن العائد السياسي بشكل رئيسي؛ والذي يعني هنا وضع الإمارة الخليجية على الخارطة العالمية ليس بالمعنى الاقتصادي والدعائي فحسب، ولكن كدور وظيفي يمكن وصفه بـ”الوسيط” مثلما حدث في المفاوضات بين “طالبان” وواشنطن ورعاية ووساطة الدوحة لها، ولكن على مقياس أكبر ومعني أكثر بالتعامل مع تيار مليوني يضم مكونات شعبوية وتنظيمات دينية وأخرى متطرفة وحتى إرهابية، من الذين تم استقطابهم بخطاب رجعي وتكفيري على مدار عقود، عبر قنوات إعلامية وسياسية وتنظيمية أدارتها ورعتها دوحة حمد بن خليفة، ونجله بشكل أقل حدة ويناسب احتمال “المرحلة الانتقالية” من دعم ورعاية الجماعات المتطرفة لتنظيم المونديال.
وارتباطاً بالسابق، فإن الاستدارة وإعادة التقديم التي تجسدها استضافة وتنظيم الدوحة للمونديال، ليست فقط مجرد تطوير وتحديث لـ”الوصفة القطرية” لإدارة المتناقضات بأنواعها، لكن أيضاً محاولة لتنظيم وترويض التطرف والراديكالية في التيارات والجماعات التي رعتها قطر إقليمياً لعقود، وفي نفس الوقت طرح النموذج الممكن فيما يخص تعاطي الأنظمة وغالبية شعوب المنطقة مع قضايا العولمة بصيغة ما بعد الوباء والحرب الأوكرانية وما تمثله هذه التطورات من تغيير مرتقب في توازنات المنظومة الدولية.
ختاماً، فإن الوجه الجديد الذي تقدمه الدوحة عبر المونديال الذي تحاصره السياسة كما لم يحدث من قبل مع حدث رياضي، يشي باعتماد العاصمة الخليجية توازناً يجمع بين مغازلة العالم بوجه حداثي، وفي نفس الوقت الحفاظ على مرتكزات القوة التي راكمتها قطر في رعايتها للتيارات المتطرفة أو حتى التوسط لها أمام القوى الدولية، وذلك للوقوف على قدر من الندية يستند بالأساس على الفوائض المالية الضخمة وليس التبعية، وتصديره على أنه يأتي على أرضية الخصوصية الدينية والثقافية والاجتماعية، والذي فيما يبدو نمط يتفق عليه الفرقاء الإقليميين وفي الخليج تحديداً؛ الذين بدورهم يترقبوا إذا ما كان التحول القطري مستمراً ومستداماً على كافة المستويات وأهمها بالطبع الإقليمية، أم أنه فقط مجرد وقت مستقطع لإنفاذ المونديال، قد استلزم هدوءاً نسبياً يُمهَد له منذ مطلع 2020، وصلاحيته تنتهي مع انتهاء البطولة!