إيران والسعودية.. طريق التسوية ليس “حريرياً”! 

يقالُ عن السير الذاتية، وهو موضع نقاش، إنّها إن لم تكشف شيئًا قبيحًا فمن الصعب الوثوق بمصداقيتها. من بكين ختمت إيران والسعودية سيرة ذاتية للخصومة الطاحنة عمرها الرسمي سبع سنوات.
القبيح في هذه السيرة قد يكون كثيراً بلحاظ الأوجاع المجتمعيّة الاقليمية، لكنّه بمعايير الصراع بين الدول الكبيرة، يعدُّ مسالك قهريةً في سياق إدارة مصالحها داخل حدودها وخارجها. هكذا تدار السياسات في العالم. هكذا هي أدوات التفاوض. ولذلك، ليس مستغربًا، مشهديًّا، أن يصلّي مسؤولٌ سياسيُّ سعودي جماعةً بالوفدين الإيراني والسعودي، خلال ليلة رمضانية شهدت إحدى جلسات التفاوض بمطار بغداد، برعاية رئيس الحكومة العراقي السابق مصطفى الكاظمي، فيما كانت الحرب الإعلامية، على الأقل، مستمرة بين الطرفين ومن يؤيدهما.
حتى الأشهر القليلة الأخيرة، كان التكهن بأن الصين سترعى تسوية إقليمية بهذه الأهمية والتأثير، أشبه بالتكهن بأن الاتحاد الأوروبي سيكون تابعا إلى هذا الحد للسياسات الأميركية في المواجهة مع روسيا في الساحة الأوكرانية. هي تحوّلات العالم. عبارة مملّة ومكرّرة، لكنّها ضرورية أحيانا لتفسير الظواهر. أحد هذه التحولات بدأ في صيف 2021، عندما أحرقت الولايات المتحدة صورتها كدولة تحمي حلفاءها. كان مشهد الانسحاب من أفغانستان طشت الماء البارد الذي أيقظ دوائر الحكم في السعودية، وكان كوب الشاي بالزعفران، الذي أثبت مجددا لدوائر الحكم في إيران، رؤيتها حول ضرورة عدم الوثوق بواشنطن.
سيرة الاتفاقات الاقليمية والدولية الأخيرة دائما ما شابتها عناصر العرقلة والتوتير. شهران قبل عودة السفارات، سيكون من الواجب خلالهما مراقبة التطورات الإقليمية من سوريا إلى لبنان فاليمن والعراق. كما المنشرحة صدورهم للتسوية كثر، فإن المنقبضة صدورهم بسببها كثر أيضا، ويملكون أوراقا لم يستخدموها بعد، وهنا أبرز المحكّات
من هنا، كانت بداية سيرة العودة إلى حضن التسوية، وإلى استعادة الفهم بأن حروب الجيران، مباشرة أو بالوكالة، لن تؤدي إلى معادلات صفرية، بل إلى معادلة خاسر – خاسر، فيما خيار التسوية ينتج معادلة رابح – رابح. وبينما كان الاتحاد الأوروبي يعلن إلغاء منصة “انستكس” للتبادل التجاري مع إيران، مرّ الخبر كأنه حديث عن منخفضِ جويِ فوق السويد في شهر شباط/فبراير. ربّما كان في كواليس الخارجية الصينيّة من يضحكون على ذلك. ليس شماتةً بهزالة الخطوات الأوروبية فحسب، بل استمتاعا بخطوتهم المقبلة، لتأخذ المشهد الدولي لا الاقليمي فحسب، إلى مسار جديد لا رجعة بعده. تسوية إيرانية سعودية ترعاها الصين. تنتقل ثقافة التسويات وإدارة المصالح إلى بقع “مبادرة الحزام والطريق”. وبالعكس، تترسخ مع مرور الزمن الأوكراني، ثقافة الاشتباك العبثي في المجال الجغرافي “الغربي”. منذ ما قبل الاتفاق النووي عام 2015 بدا أن إيران تدير اللعبة مع النظام الدولي بشيء من قواعده، وبعد ذلك بسنوات، تنتقل السعودية إلى تمركزٍ جديد مشابه، وأكثر براغماتية من جارتها الأعجمية. تمركزٌ كانت يدها فيه مشدودة على اليد الصينية، باردةً في اليد الأميركية، وناعمة على العنق الروسي المحاصر بعقوبات الغرب. ليس ذلك من باب الانفعال، بل هو نتاج مقولة كرّرها بسبب وبلا سبب عدد من الوجوه السعودية: “لم نعد نعطي شيئًا بالمجان” وهو بديهيٌّ بالمناسبة.
الطريق طويل قبل نضوج التسوية، لكنّه حتما أقصر من عمر الاشتباك الاقليمي. المشهد الذي ضم أمين المجلس القومي الإيراني علي شمخاني، ومستشار الأمن القومي السعودي مساعد بن محمد العيبان، يحمل مؤشرات عديدة ربطًا بهوية الوسيط، وببنود التسوية المنشورة في البيان الرسمي. جوهر المرحلة الأولى من هذه التسوية هو قناعة طهران والرياض أن إدارة الخلافات بينهما تتم بالتفاوض السياسي المباشر. كلّ ذلك أملته الحسابات الداخلية والخارجية للبلدين، ومن أبرزها التالي:
– السعودية داخليًا: حاجة المملكة إلى المزيد من الاستقرار لأهداف اقتصادية. كلّ ما هو داخلي في السعودية اليوم، هدفه اقتصادي. ومن أهم عوامل تحصين الاستقرار الداخلي هو تصفير المشاكل الاقليمية، وقد جرى ذلك مثلا مع قطر، ومن الطبيعي أن ينتقل إلى الوضع مع إيران حيث الأزمة أعمق وأكبر وأكثر تأثيرا. كذلك، فإن التهدئة مع طهران، تمثل شرطا أساسيا لتكوين مشهد يجذب الاستثمارات الخارجية في السعودية بوصفها مدماكا أساسيا في التصوّر الاقتصادي لولي العهد محمد بن سلمان. يعزّز ذلك الاستقرار الداخلي أمام حكم ابن سلمان.
– السعودية إقليميا (1): شرط الاستقرار أيضا إنهاء حرب اليمن بمخرج مشرّف للرياض. ليس واضحا المدى المرضي عنه سعوديا، والذي يمكن أن تبلغه تسوية إنهاء الحرب في اليمن. لكن كلفة استمرار الحرب أكبر من كلفة وقفها أو تهدئتها، وهكذا كانت تجربة الهدنة معلنةً وغير معلنة، نافعةً لاستقرار السعودية ويُبنى عليها في ذلك. هنا سيكون تفاوضًا عسيرًا.
– السعودية إقليميا (2): بعد ثبوت عدم القدرة على خوض معركة خليجية موحدة ضد إيران، حتى سياسيا وإعلاميا، كان لا بدّ للرياض من سلوك الطرق التسوية. يفيدها ذلك أولا في إدارة علاقاتها بالجار الأكبر مباشرة، كما أنّها بذلك تسحب من قطر شيئا من وهج الوسطية التي عملت بها الدوحة، كطرف خليجي أسّس لعلاقات إيجابية مع طهران، انطلاقا من المصالح المشتركة برغم التباينات.
– السعودية إقليميا (3): لم يعد خافيا الخلاف السعودي الإماراتي المستجد. وليس خافيا على الرياض أن الإمارات تعد من أكبر الشركاء التجاريين لإيران. لا بد وأن السعودية تنظر، في حال اكتملت التسوية، إلى فتح أسواقها أمام الاستثمارات الشرقية ومنها الإيرانية، أسوة بالاستثمارات الإيرانية الضخمة في الإمارات. تلك، ستكون ضربة اقتصادية سعودية مربحة.
– السعودية إقليميًا (4): بدا واضحًا فشل مسار التطبيع مع إسرائيل في إحداث اختراقات كبيرة ضد الحضور الإيراني في الاقليم. كذلك فإن التكوين المتطرف للحكومة الإسرائيلية الأخيرة، لا بد وأن يدفع الرياض إلى تأجيل التفكير بالتطبيع مع إسرائيل المهتزّة داخليا إلى حدود الحديث عن التفكّك. من هنا، يقود السياق الطبيعي إلى إعادة رسم الاستقرار مع طهران. تحمي الرياض نفسها بذلك من عدة زوايا، أبرزها، إمكان البقاء بمنأى عن التداعيات السلبية قدر الإمكان، لأي هجوم قد تشنه إسرائيل على إيران، في حال فكّر قادتها بتنفيذ هذا السيناريو كمحاولة هروب إلى الأمام من تعقيدات الأزمة الداخلية في دولة الاحتلال.
– السعودية دوليًا: خطوة التعاون مع روسيا في سوق الطاقة العام الماضي لم تكن انفعالية، وكذلك، تعميق العلاقات مع الصين اقتصاديا وسياسيا. وجدت المملكة نفسها في تماهٍ مع قسطٍ وافرٍ من الخيارات الإيرانية الدولية، وإن كانت المنطلقات مختلفة بين الطرفين. فرض ذلك تسريع التسوية بالمحفّزات الصينية، حيث تدرك الرياض بشيء من الجرأة غير المعتادة أن أميركا تصارع من أجل التفرّد بالسيطرة على العالم، من دون إمكانية للنجاح، ولعلّ السعودية بتموضعها الجديد تحصّن نفسها في النظام الدولي الذي يتكوّن. هذه المعطيات تفرض إعطاء فرصة جديّة للتسوية مع إيران.
حاصل هذه العوامل السعودية التقى مع حاصل العوامل الإيرانية المؤدية بدورها لإعطاء فرصة جدية للتسوية مع المملكة، ومن أبرز هذه العوامل الإيرانية:
– إيران داخليًا (1): التسوية مع السعودية تشكل فرصة مهمة للرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي وحكومته لتقديم الاتفاقات الاقليمية كأحد أبرز إنجازات عهده. وليس خافيًا أن جزءًا من أسباب التوتر الداخلي في إيران هو تداعيات دورها الخارجي، ومن هنا تشكّل هذه التسوية المرتقبة مع السعودية عنصر تهدئة يمكن استثماره داخليا، مع ما يمكن الاستفادة منه اقتصاديا، وطهران بأمسّ الحاجة لما ينعشها اقتصاديا.
– إيران داخليًا (2): تشكّل التسوية مع الرياض راحةً من صداع التدخل السعودي في الشؤون الداخلية الإيرانية، وفق ما تشي به تصريحات المسؤولين الإيرانيين البارزين، في ذروة الأزمة الأخيرة بعد قضية مهسا أميني المثيرة للجدل. من المفترض أن تكون إيران قد دفعت عنها هذا الضغط القريب سياسيا وإعلاميا وأمنيا، عبر خطوات مماثلة تسكّن الهواجس السعودية. وبذلك، فإن أي استقرار اقليمي سينعكس انفراجا أكبر في الداخل الإيراني.
– إيران إقليميًا (1): هنا تبدو إيران في حالة الحصاد. صحيح أن حلفاءها الإقليميين يعانون أصعب أزماتهم الداخلية، لكن ذلك لا يحجب حقيقة أن حلفاء طهران ولا سيما في لبنان واليمن، تمكنوا من تثبيت مواقعهم ضمن أي صيغة تسوية في بلدانهم. التسوية اليوم مع السعودية تتيح لإيران وحلفائها حصادا جيدا بعيدا عن التشويش الطبيعي المرتبط بالفارق الهائل بين الشعارات التي رفعت ضد السعودية وبين ما سيجري في سياق طبخ التسوية معها.
جوهر المرحلة الأولى من هذه التسوية هو قناعة طهران والرياض أن إدارة الخلافات بينهما تتم بالتفاوض السياسي المباشر. كلّ ذلك أملته الحسابات الداخلية والخارجية للبلدين
– إيران إقليميًا (2): كل توافق إقليمي تكون إيران ركنًا من أركانه، يشكّل انتكاسةً لمشروع التطبيع الإسرائيلي الذي من ضمن أهدافه الأساسية حصار إيران. ولذلك، تأتي الخطوة الإيرانية الإيجابية تجاه الرياض كحركة لازمة، ولا سيما بعد اقتراب إسرائيل عبر التطبيع مع الإمارات والبحرين. لا يعني ذلك أن السعودية ستكون في خندق المواجهة مع الاحتلال، لكنّ خطوات تبعدها قدر الإمكان عن التطبيع أفضل بكثير لطهران من أن تكون السعودية دولةً مطبّعة. وهنا يستلزم ذلك جهدا إيرانيا لتطوير العلاقات مع الرياض عبر إعطاء فرصة جديّة للتسوية معها. الصين أمّنت المظلة المطمئنة لهذه الفرصة.
– إيران دوليًا: التموضع السعودي الدولي الجديد، وإن كان ما زال طري العود، يدفع إيران أوتوماتيكيا إلى الجنوح نحو خيار التسوية معها. كذلك، فإن رعاية الصين للتسوية تشجّع طهران على الاتيان بها، لحاجتها للصين كدولة عظمى حليفة، ولعلم طهران بأهمية العلاقة مع السعودية بالنسبة للصين. أين واشنطن من ذلك كله؟ الإجابة لا تحتاج إلى تحليل كبير. أميركا لا بد ممتعضة مما جرى، فهو ضمن سياق دولي – إقليمي يتراكم خلافا لتصوّراتها عن هذه المنطقة، وهذا ما ترى طهران ضرورة استغلاله وقد خطت الخطوات الأساسية لذلك.
ما سلف ذكره لا يعني مطلقًا أن التسوية الأخيرة باتت في موضع الأمر الواقع. السياقات المذكورة تدفع إلى إنضاجها من دون شك، وهو مصلحة للبلدين الجارين من دون شك أيضا. لكن سيرة الاتفاقات الاقليمية والدولية الأخيرة دائما ما شابتها عناصر العرقلة والتوتير. شهران قبل عودة السفارات، سيكون من الواجب خلالهما مراقبة التطورات الإقليمية من سوريا إلى لبنان فاليمن والعراق. كما المنشرحة صدورهم للتسوية كثر، فإن المنقبضة صدورهم بسببها كثر أيضا، ويملكون أوراقا لم يستخدموها بعد، وهنا أبرز المحكّات التي ربّما تعقّد إنضاج النتائج المرتقبة للتسوية الكبيرة.. وللحديث صلة.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180   بايدن ينعش "كواد" تطويقاً للصين وإنهاءً لـ"بريكس"
محمد محسن

صحافي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  "الروليت البيلاروسية".. لوكاشينكو بين المناورة والمقامرة