قد تكون كلمة “لا شيء” بسيطة ولا تحتاج لتفسير. لكنّ واقع الأمر يقول عكس ذلك. بخاصّة إذا اقتبسنا تأكيداً شهيراً لأينشتاين في هذا الإطار: “إذا لم تبدُ الفكرة سخيفة منذ البداية، فلا أمل فيها”. فـ”الّلاشيء” مفهومٌ فلسفي ورياضي عظيم الشأن. يلحظ أنّه ليس العدم والفراغ. إنّما هو فعليّاً كلّ شيء. إنّه يوازي “الصفر” في الرياضيّات. هذا الصفر الذي من دونه لا يمكن تحديد خانات الأعداد وترتيبها. ولا يمكن توثيق المعادلات، أيضاً. باختصار، لا يمكن للكثير من العلوم أن تستقيم وتستمرّ وتتطوّر من دون هذا الصفر. فهو، وإنْ كان قد يعني “لا شيء”، لكن بإمكانه أن يعطي قيمةً لكلّ شيء. وفي قوانين الحساب، هناك قاعدة تقول إنّ قسمة أيّ رقم على الصفر يعطينا، برأي البعض، مجموعة لامتناهية من الأرقام والأعداد. وبرأي آخرين لا يعطينا شيئاً لكونه “المستحيل” بذاته. فكيف تؤخَذ نتيجة من قسمة الـ”لا شيء”؟!
***
عذراً من “كارهي” الرياضيّات. لكن لم أجد مثالاً لتوصيف ما نعيشه حاليّاً في لبنان، إلاّ عبر اللجوء إلى علم الحساب وأرقامه ومعادلاته. فحُكّامنا، ولسوء حظّنا وقدرنا، حالهم كحال الأصفار في الرياضيّات. قيمتهم تكمن في “الّلاشيء” الذي يحوونه. ويمثّلونه. وفكرة أن يكون “الّلاشيء” أكبر وأهمّ تأثيراً من جميع الأشياء التي نعرفها وندركها، إنّما هي فكرة مستفزّة جداً لعقل الإنسان اللبناني. بل وللعقل البشري، بعامّة! لكن ما يستفزّ أكثر، في الحقيقة، هو انتظار هذا الّلاشيء. ففي هذا الانتظار لا يوجد محطّة. ولا عودة البتّة حيث لا ذهاب. ولا إحباط بعدم القدوم حيث لا شيء قادماً. “الجحيم هو الانتظار”، يقول الكاتب الأوروغويّاني الشهير إدواردو غاليانو- الذي يُعلّق كلّ أربع سنوات لافتة على بابه مكتوب عليها “مُغلَق من أجل كرة القدم”- (جملة اعتراضيّة أملتها أجواء المونديال).
***
لنعد إلى الانتظار الذي أمسى إحدى آليّات العمل السياسي في لبنان. بل قلْ صار عقيدة الحُكم لدى الزمرة المافياويّة المتسلّطة على مقدّرات البلد. عقيدة قوامها نفْخ الهواء في بالونٍ مثقوب. لا يخجل أركان السلطة اللبنانيّة بالمجاهرة بانتظارهم للإملاءات التي تأتيهم من الخارج بواسطة الحمام الزاجل. يرسلها مشغِّلونهم في الولايات المتّحدة الأميركيّة وفرنسا وبريطانيا وإيران والسعوديّة و…إسرائيل! نعم. ولا يُعيبهم أن يُقال، بالتالي، إنّهم يعطّلون كلّ استحقاق بانتظار ما ستسفر عنه “الكباشات” الدوليّة الدائرة بين القوى الكبرى المتصارعة على النفط والغاز والنووي و… كلّ شيء. “انتظار النجدة من الغَيْب المُبهَم مسلكٌ يمثّل الحُمْق بعينه”، يقول المفكّر الإسلامي محمّد الغزالي.
لكنّ “قادة البلد” يعتبرونه ستاتيكو انتظارهم السياسي. انتظار أدخل اللبنانيّين، كلّ اللبنانيّين، إلى سجنٍ كبير. سجن بحجم الوطن وأكثر. والإنسان في السجن، كما تعلمون، لا يموت من الجوع. أو القيظ. أو الصقيع. أو الأمراض. أو الحشرات. بل قد يموت من الانتظار. فالانتظار يحوّل الزمن إلى الّلازمن. والشيء إلى الّلاشيء. والمعنى إلى الّلامعنى. فلقد صادر حُكّامنا كلّ المعاني من أعمارنا. فاستحلنا إلى أشخاصٍ بلا أعمار. إلى كائناتٍ تعيش وراء الزمن. سحب سفّاحو هذا العصر الزمنَ من وقتنا. فانعكس هذا الـ vacuum وبالاً على عقولنا. أصبحنا بشراً لا نفكّر. ننتقل من مجهولٍ إلى مجهول. نُصاب بالهزائم فنظنّها انتصارات. نسخر من حالنا بينما العالم يضحك علينا. كرّسنا حياتنا للظلمة والّلاشيء والعدم الأكبر.
غالباً ما يكون الانتظار في لبنان حليف المجرم. والوقت الذي يُسفَك بهذا الانتظار هو حصانته. فهو يَعِده بفرصةٍ آتية لا محالة. بزمنٍ جديد سيقلب المعادلة لصالحه. ووقت هذا الانتظار، للإشارة، لا يُحتسَب بالساعات والأيّام والأسابيع والأشهر. بل، بقدرته على جرف الناس بعيداً عن العدالة
العدميّة هي نزعةٌ في التفكير لا ترى إلى الأشياء والأفكار والأفعال والمؤسّسات والحقائق الماديّة إلاّ بوصفها عدماً. ولا ترى إلى الماضي والحاضر والمستقبل إلاّ بوصفها عالماً خالياً من المعنى، كما يحلّل الكاتب المغربي عبد الإله بلقزيز. أمّا العدميّة في السياسة، فرؤيتُها هي الّلارؤية. وأفقُها هو الّلاأفق. وهذه العدميّة لدى سياسيّينا لا تقترح على مَن تخاطبهم سوى العبث والشكّ الذي لا نهاية له. ففي العدميّة السياسيّة لا تراكُمَ للعمل السياسي. إذْ لا إمكانيّة لأن يُستأنَف. أو يُزاد عليه. أو يتطوّر. هو تراكمٌ للأصفار (إيّاها). والخواء. والّلامعنى. وعليه، تصير العدميّة في العمل السياسي، يا أصدقاء، نزعةَ هدمٍ. أو نزعةً إلى الهدم. تهبط بكلّ فعلٍ معرفي إلى أسفل الدرك. إلى حيث الأشياء والأفكار والطموحات ليست إلاّ مجرّد خرائب.
***
يا الله..! لماذا خلقتنا في زمن زعماء الّلاشيء؟ هل يا ترى خُلِقنا في العصر الخطأ؟ أم إنّ القدر شاء أن يمازحنا فانقلبت دعابته إلى مأساةٍ إغريقيّة؟ والخطير في مأساتنا أنّ الانتظار (السياسي) أضحى جزءًا من تجربتنا الوجوديّة. تستخدمه عناصر المافيات الحاكمة والمتحكّمة لتعميم حالة التكلّس على المستوى الوطني العامّ. ولفرض التطبيع على الشعب. تطبيع مع كلّ الأزمات المتوالدة من رحم إجرامهم. وكأنّ لا شيء استثنائيّاً يحصل على هذه الأرض. فالناس تأكل وتشرب وتعمل وتسافر وتتاجر بالدولار. تذهب إلى المسابح ومنتجعات التزلّج. وتحتفل بالأعياد وتشتري الهدايا. وتنتخب ملوك الجمال والموضة. وتشتم وتندب حظّها على وسائل التواصل الاجتماعي. كلّ ذلك اجترحه لنا، نحن اللبنانيّين، آل كابوني. وطبعاً، لضروراتٍ انتظاريّة عنوانها “ولنا في انتظار الخارج حياةٌ ومستقبل”! إنّهم مقتنعون أن لا شيء داخليّاً يشي “بقدرةٍ ما” على تبديل ستاتيكو الانتظار هذا. فكلّ واحدٍ منهم يعتقد أنّ الزمن يتوقّف معه وعنده. لأنّه الأقوى. والأجدر لجني ثمار الانتظار. ماذا ينتظرون في الواقع؟
غالباً ما يكون الانتظار في لبنان حليف المجرم. والوقت الذي يُسفَك بهذا الانتظار هو حصانته. فهو يَعِده بفرصةٍ آتية لا محالة. بزمنٍ جديد سيقلب المعادلة لصالحه. ووقت هذا الانتظار، للإشارة، لا يُحتسَب بالساعات والأيّام والأسابيع والأشهر. بل، بقدرته على جرف الناس بعيداً عن العدالة. كم قالوا لنا انتظِروا “انتظارنا” ليصطلح الحال والأحوال؟ انتظِروا ليخرج السوري. انتظِروا لتحرير الأرض. انتظِروا للقضاء على الإرهاب. انتظِروا لترسيم الحدود. انتظِروا لانتهاء التحقيق. انتظِروا لمعرفة مَن اغتال فلاناً. ومَن قتل علاّناً. انتظِروا لاستخراج النفط. انتظِروا بواخر الكهرباء. انتظِروا لتتشكّل الحكومة. انتظِروا ليرضى المعتكفون. انتظِروا لانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة. انتظِروا لتنتهي الانتخابات النيابيّة اللبنانيّة. والفرنسيّة. والأميركيّة. والإسرائيليّة. والإيرانيّة. والعراقيّة. انتظِروا زيارة الرئيس فلان. انتظِروا لتنتهي ولاية الرئيس علاّن. انتظِروا التعيينات. وانتهاء فرص الأعياد. ووصول الهبات. والبطاقة التموينيّة. وتعاميم حاكم المصرف المركزي. انتظِروا الموت. على فكرة، لماذا لا تموتون يا أيّها اللبنانيّون؟ هذا السؤال يُلحّ عليهم كثيراً. فموتنا قد يكون أهمّ ما في انتظاراتهم. علماً أنّهم ينثرونه علينا صبحاً ومساءً وما بينهما. لكن قد لا يكون الموت بتوقّف النبض فقط، يقول غسّان كنفاني أحد أهمّ الكتّاب العرب في القرن العشرين ويشرح: “الانتظار موت. والملل موت. واليأس موت. وظلمة المستقبل المجهول موت”.
***
كلمة أخيرة. في روايته الأشهر يتحدّث الكاتب الجنوب إفريقي جون ماكسويل كوتزي عن حامية استعماريّة تُجاوِر منطقة يقطنها سكّان أصليّون يُدعَوْن “البرابرة”. لا يظهرون إلاّ في مواسم معيّنة لتبادل البضائع وشرب الخمر. لكنّ عسكر الإمبراطوريّة زعم أنّ هذا الشعب يتأهّب لشنّ هجومٍ على الإمبراطوريّة وإبادة سكّان الحامية. فأطلقت القوّات الخاصّة حملةً لتعقّب “البرابرة” والتنكيل بهم. ومذّاك، تمضي يوميّات سكّان الحامية في رعبٍ وقلقٍ واضطرابٍ وجداني وأخلاقي عميق. فلقد سكنهم انتظارُ الانتقام الموعود من “البرابرة” بمعنيَيْه الرمزي والواقعي. انتظار، صار أكثر واقعيّة بعد الجرائم التي اقترفها العسكر وسكّان الحامية. سؤالٌ أطرحه غالباً على نفسي: كيف يكفّ الإنسان عن أن يكون حَمَلاً من دون أن يتحوّل إلى ذئب؟ إقتضى السؤال.
(*) أستعير عنوان الرواية الأشهر للكاتب الجنوب إفريقي جون ماكسويل كويتزي الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2003.