ما بعد 7 أكتوبر؛ تجاوزنا حاجز الزمنين.. زمانُهم وزمانُنا

لم تكن محطة السابع من أكتوبر كما يحلو لإعلام الهزيمة أن يصفها "عملية فدائية عالية الكلفة" ولا "مغامرة غير محسوبة العواقب". إنها انعطافة نوعية في مسار التاريخ، وبدء رحلة الخروج من الزمن الصهيوني إلى زماننا نحن. خلق "الطوفان" معطيات جديدة ووقائع راسخة، ومتغيرات سريعة، تحتاج جميعها إلى القراءة والتحليل بوعي تاريخي حاد، متأصل في ثقافة الممكن والإيمان بحتمية الانتصار.

ثمانية عشر شهراً من الإبادة الوحشية تُرتكب على مرأى العالم، عشرات الآلاف من الشهداء، ومئات الآلاف من الجرحى، وملايين من النازحين والمشردين في ساحات فلسطين ولبنان واليمن. اغتيالات تطال القادة، وغياب موجع لرموزٍ ما كنا نتصوّر الحياة من دون أصواتهم، وأنفاسهم، وملامحهم. توغل احتلالي في أراضي لبنان وسوريا، واعتداءات وقحة تطال اليمن العزيز وتستهدف إيران في معركة قلبت موازين القوى والمعادلات السائدة. نعم، إنها أحداث مؤلمة، جراح مفتوحة لن تشفى على مدى الدهر، وليس المطلوب لها أن تشفى.

هذا الواقع الثقيل يكفي لإرباك أقوى العقول واختلال بوصلة قراءتنا للأحداث مهما امتلكنا من تماسك في الإيمان والثقافة والأيديولوجيا. كثيرون يقولون، فاز الكيان الصهيوني بما ارتكب من جرائم، ويقولون إنه الآن يستكمل مخططه واستراتيجيته في احتلال المنطقة. وآخرون، بدافع المحبة والخشية، يقولون لقد انتهينا فما العمل. المقاومة محاصرة ويتم الاستفراد بها من أعداء الداخل والخارج. العدو يفرض معادلات جديدة على الأرض، ويقولون استشهد قادتنا وأولادنا ولا أفق عالمياً لردع الكيان ومحاسبته بشكل حقيقي على ما ارتكب.

زمانهم وزماننا

في ظل هذا الارتباك الفكري والوجداني، تبرز أكثر المهمات قدسية وأهمية، وهي قراءة الوقائع والأحداث والمتغيرات بمنهج تحليلي هادئ. منهج يلملم الإيمان واليقين والأمل ويصنع منه بوصلةً جديدة ترتقي إلى حجم المرحلة. فالسياق الذي نرى فيه الأحداث هو ذاته السياق الذي يؤسس لمنهج المواجهة، وهو ذاته السياق الذي ينحت في الوعي انتصارات المقاومة وبطولات شعوبنا والإيمان بحتمية الخلاص من براثن المحتل.

فهل حقاً نحن نعيش الآن في زمانهم لا في زماننا؟ وهل حقاً يستغل العدو مبادرات المقاومة لينفذ استراتيجياته الموضوعة مسبقاً بكل وعي وإرادة، ليقتل ويغتال ويتوسع عسكرياً؟ وهل يقارب الحقيقة من يقول: إن “طوفان الأقصى” فعلٌ مدبرٌ بالتوافق مع العدو؟ أو من يُروّج لمقولة أن أية عملية للمقاومة ستصب في سلة استثمار الكيان الصهيوني وحلفائه؟ وأن العدو هو المسيطر والسيد الأبدي على الأحداث والزمان والمكان؟ أم أن الحقيقة بعيدة كل البعد عن هذه المقولات البائسة واليائسة في آن؟

إن القراءة الصحيحة لسياق الأمور ومسارها قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 تدحض كل هذه المقولات. لم يكن السابع من أكتوبر مجرد عملية عبقرية للمقاومة، بل كان زلزالاً استراتيجياً لم تتوقعه أو تحلم به دوائر صنع القرار في الكيان وواشنطن. والدليل أن رد الفعل جاء هستيرياً، لا عقلانياً، وعشوائياً. وكانت كلفته على صورة العدو (التي صرف عليها تريليونات الدولارات) وعلى سرديته الوجودية باهظة جداً. لقد ارتبك المشروع الصهيوأمريكي بأكمله في الساعات الأولى من صبيحة ذلك اليوم المجيد، وخرج عن مساره المصقول بالدبلوماسية والتطبيع والتحالفات والشراكات الناعمة.

لم يكن أحد في مراكز القرار الدولية يتوقع أن تهتز بنية المشروع الصهيوأمريكي بهذه الصورة المفاجئة والحادة. جاءت الضربة، التي بدأت بالمقاومة الفلسطينية واستُكملت من جبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق، ودشنتها إيران بإسقاط خرافة “تل أبيب المحصنة” والتقطها أحرار العالم في الشوارع وساحات الرفض، لتكسر سردية استقرار الهيمنة، وتضع المشروع كله على حافة النهاية. وما نشهده اليوم من وحشية غير مسبوقة، ليس استمراراً لخطط مرسومة مسبقاً، بل ارتباك عميق وخطير في صفوف قوةٍ تبخرت أحلامها باستعادة الهيمنة على العالم.

المعركة مع المشروع الصهيوأمريكي اليوم لا تخاض فقط في الجبهات، بل في بنية الوعي الاجتماعي ذاته، ونحن بحاجة لإطلاق العمل على هذه البنية الآن وبدون تأخير. في السابع من تشرين الأول/أكتوبر حطّمنا الجدار وعبرنا. تجاوزنا الحاجز بين زمنين، زمانهم وزماننا. لكن المسير نحو الوطن ما زال طويلاً

تحويل الكيان إلى حليف اقتصادي
إن استراتيجية العدو التي كانت قائمة قبل الطوفان المجيد لم تكن تستند إلى المواجهة العسكرية المباشرة، بل إلى إعادة تعريف دور الكيان الصهيوني في الإقليم. كان هناك مسار واضح نحو إخراجه من مربع الاحتلال العسكري الصريح، وتحويله إلى “شريك” سياسي واقتصادي وأمني في المنطقة، عبر مشاريع التكامل الإقليمي، والشركات العابرة للحدود، والاتفاقات التجارية والدبلوماسية، وعبر تكريس صورة التفوق التقني والردعي للعدو. مغادرة المربع الأول الذي حُبس فيه الكيان منذ اليوم الأول لاحتلال فلسطين وحتى اللحظة كان سيشكل فاتحة جديدة لإعادة صياغة وتشكيل المنطقة وقواها وتحالفاتها بالكامل لصالح تأبيد المشروع الصهيوأمريكي.

هذه الاستراتيجية التي صاغتها مراكز التفكير الأمريكية والإسرائيلية في العقد الأخير، تعرف بمفهوم “القوة الشبكية”، أي بناء شبكة من المصالح والتحالفات تمنح الكيان عمقاً إقليمياً من دون الحاجة إلى الاحتلال أو التدخل العسكري المباشر. وكانت أبرز تجلياته اتفاقيات التطبيع والتحالف (اتفاق أبراهام)، ومشروعات الربط الكبرى مثل “ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا” وقناة “بن غوريون”، الذي كان يُفترض أن يقلّص زمن الشحن بين آسيا وأوروبا بـ8 أيام، ويضخ استثمارات بمليارات الدولارات في البنية التحتية لدول الخليج.

لاحظنا كيف ارتفع حجم التبادل التجاري بين دول وكيانات عربية حتى في ظل حرب الإبادة على غزة، في مؤشر واضح لقدرة المصالح الاقتصادية على تجاوز الحسابات الوطنية والقومية، بل والأخلاقية أيضاً. كان الهدف أن يتحول الكيان إلى حليف اقتصادي لا يهدد، بل يدعم استقرار المنطقة، وأن تُعاد صياغة السردية بحيث تظهر المقاومة بوصفها الخطر الوحيد على هذا الازدهار المرتقب، وألا يدخل الصهاينة إلى العواصم العربية بالدبابات، بل عبر البذلات الرسمية والحقائب الدبلوماسية والمفردات التنموية. كان عنوان المرحلة: مشروع “السلام مقابل الازدهار”، لا السلاح ولا السيطرة المباشرة.

ولم يكن هذا المسار شأناً إقليمياً معزولاً، بل كان جزءاً من مشروع هيمنة كونية، أرادت به الولايات المتحدة تثبيت موقعها في وجه الصين وروسيا. وكان الكيان الصهيوني في قلب هذا المشروع قاعدة متقدمة تضمن السيطرة على مفاصل الطاقة والتكنولوجيا والتجارة، وتمنح الغرب جسراً دائماً نحو التحكم بالمنطقة. وقد انسجم الأوروبيون مع هذه الرؤية، لأنها وعدتهم باستقرار مصالحهم الاقتصادية، وبدور وظيفي يُبقيهم شركاء في نظام عالمي تضمن واشنطن قيادته، لهذا هرعوا تباعاً بعد أن ضرب الطوفان رهانهم ليساندوا شريكهم الصهيوني الذي كان يهتز ويرتجف من هول الضربة.

الكومبرادور الحديث

كان الرهان الأكبر أن تُستكمل هذه الهيمنة الناعمة من دون الدخول في معارك تهدد أمن واستقرار المنطقة وبالتالي مشروعاتهم، وذلك عبر دمج الكيان في النسيج السياسي والاقتصادي للمنطقة، وتجريم كل خطاب مقاوم بوصفه خطاباً هداماً وعدائياً. لكنّ هذا المشروع، بكل ما استُثمر فيه من اتفاقات، وممرات، وتحالفات، وقمم، انهار في صبيحة السابع من أكتوبر، حين أثبتت المقاومة أن التاريخ لا يُكتب بالحسابات الجيوسياسية فقط، وأن للشعوب لحظتها التي تطلق فيها إرادتها وتفرض معادلاتها. في تلك الساعات حققت المقاومة الغاية من عمليتها. حققت الانتصار، وما يجري الآن ليس سوى جريمة نكراء لا أفق لها.

إقرأ على موقع 180  الإيروتيك العربي.. الذكورية والسلطة والكبت (2)

إن الخطر الأكبر من مخرجات هذه الاستراتيجية، أنها لم تكن موجهة للنخب السياسية فقط، بل كانت تستهدف بناء طبقات اجتماعية كاملة مستفيدة من هذا الواقع الجديد: طبقات من الوكلاء التجاريين، والمضاربين الماليين، والمستثمرين في الهياكل الاقتصادية المرتبطة بالهيمنة، وموظفي الشركات العابرة، والبيروقراطيات المرتبطة بالمصالح الغربية. هذه الطبقات، التي يمكن تسميتها بـ”الكومبرادور الحديث”، لا ترى في المقاومة مشروعاً للتحرير بل تهديداً لاستقرار شبكات امتيازاتها. بالنسبة لهؤلاء، تصبح العدالة عبئاً، والتحرر خطراً، والمقاومة مغامرة غير محسوبة. كان المستهدف بناء طبقات اجتماعية عربية تتكامل إقليمياً بواسطة أيديولوجيا بنيوية مهادنة يغذيها نمط حياة قائم على الاستهلاك، والاعتمادية الاقتصادية، وثقافة تبريرية تعتبر أن “الواقعية” تقتضي القبول بالأمر الواقع. طبقات تعيد تشكيل الإعلام والتعليم والقطاع الخاص والثقافة والفنون والفضاءات الاجتماعية، وتنتج سردية معادية للمقاومة، باسم التنمية والاعتدال والعقلانية.

جاءت عملية “طوفان الأقصى” لتقلب الطاولة، وتفجر كل رهانات الاستقرار القائم على الإخضاع والتطبيع وتجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، وتظهر هشاشة الرهان على الاقتصاد كبديل للحرية والعدالة والسيادة. وعندما فُتحت جبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق، سقطت آخر الأوهام. كيف نبني مشروعنا الكوني في فضاء محاط بمقاومة مسلحة، تملك أسلحة بعيدة المدى، حرة في قرارها، أخلاقية في حساباتها؟ وكيف نراهن بعد الآن على كيان احتلالي هش سقط أمام مجموعات قليلة من المقاومين، في حماية هذا المشروع؟

هذا الزمان هو زماننا، والمسار بات مسارنا. آن أوان الوضوح، لتحتدم التناقضات كما يجب، وليصطف كل في مكانه، العدو عدو، والصديق صديق. الأبيض أبيض، والأسود أسود. لا لون رمادياً بعد اليوم، ولا التباسات. لا تسويات مع النقيض، ولا تعايش بين الخاصرة والخنجر، وبين من يحمل السلاح وبين الفاشي الذي يرى في الغرب خلاصاً

آن أوان الوضوح

باختصار، لقد أمسك المقاومون صبيحة السابع من أكتوبر “الاستراتيجية الصهيوأمريكية” أو هذا المشروع الكوني الخطير من ناصيته، سحبوه من مساره الذي كان يمضي نحو عالم موعود جديد، وألقوا به في مسار آخر لم يكن ليختاره برضاه. في كل مرة أصل إلى هذه النقطة في التحليل أتذكر خطاب الشهيد يحيى السنوار: “خلال أشهر قليلة، سنضع الاحتلال أمام خيارين: إما أن نرغمه على الانسحاب من الضفة والقدس وتفكيك المستوطنات وعودة اللاجئين وإقامة دولة مستقلة على أراضي الـ 67، وإما أن نجعل هذا الاحتلال في حالة تناقض وتصادم مع الإرادة الدولية ونعزله عزلاً شديداً، ينهي حالة اندماجه في المنطقة وفي العالم كله”.

لقد انتهت أوهام العدو في الاندماج فعلاً، لذلك، فإن حرب الإبادة الجماعية في غزة، والاعتداءات المتكررة على دول الإقليم، ليست سوى التعبير الوحشي عن هذا الفشل الاستراتيجي. لقد عاد الكيان مرغماً إلى “مربعه الأول” وأدواته القديمة: القصف، الحصار، الجرائم، بعد أن تعثّر مشروع إعادة تعريف وظيفته في المنطقة، وتلاشت الوعود بالتحول من كيان احتلالي إلى فاعل اقتصادي وأمني “مقبول”. لكن المفارقة الجوهرية هنا أن الكيان اليوم لا يفعل ذلك من موقع السيطرة، بل من موقع الإرباك والعجز عن فرض سرديته. لقد خسر المعركة الرمزية، وتهاوت رهاناته أمام مشهد تصنعه جماهير تمتلك وعياً مختلفاً، في لبنان، وفلسطين، وكل ساحات المواجهة.

وبرغم كل هذا الدم، وكل هذا الثمن الباهظ، إلا أننا نمتلك الجرأة لنقول: إن هذا الزمان هو زماننا، والمسار بات مسارنا. آن أوان الوضوح، لتحتدم التناقضات كما يجب، وليصطف كل في مكانه، العدو عدو، والصديق صديق. الأبيض أبيض، والأسود أسود. لا لون رمادياً بعد اليوم، ولا التباسات. لا تسويات مع النقيض، ولا تعايش بين الخاصرة والخنجر، وبين من يحمل السلاح وبين الفاشي الذي يرى في الغرب خلاصاً من هذا السلاح وحامله. لا يجب أن نحزن لانكشاف الوجوه الصفراء ومجاهرة الأخوة قبل الأعداء بالرغبة في فنائنا، هذه مرحلة فرز حتمي ومن دون هذا الفرز لن تكون المعركة واضحة ولن يُحسم الصراع أبداً.

معركة وعي أيضاً

علينا أن نتوقع، بل وندرك أن الرد الانتقامي لن يتوقف ولن يكون مجرد موجات من الضغط، بل استراتيجية فناء شاملة تستهدف استئصال النموذج الذي برعم في فلسطين ولبنان واليمن وساحات العالم من جذوره. استئصال ليس فقط بكسر بنيته المسلحة – فالمطالبة بتسليم سلاح المقاومة ليس سوى مراوغات البدايات – بل سيتجه العدو بعدها إلى كل ما هو جمعي: الثقافة، الهوية، الإرادة، اللغة، الذاكرة، بل حتى معاني التضحية والمحبة والحرية. سيبذل جهده لضمان ألا يتكرر السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وألا يتكرر صمود الناس، وألا ترى شعوب العالم نموذجاً مقاوماً ينتصر فتنهض لاسترداد حقوقها المنهوبة ومواجهة قوى الهيمنة، وألا ترى أيضاً نموذجاً آخر غير ذلك النموذج المسخ الذي حاولوا فرضه، من الإنسان الاقتصادي المستهلك، إلى وهم الحريات الفردية.

على ضوء ذلك، فإن اعتمادنا السابق على المعارك العابرة، التي نخوضها ثم نغرق بعدها في تفاصيل حياتنا كأن شيئاً لم يكن، لم يعد صالحاً. نحن اليوم أمام مرحلة تتطلب طول نفس، وتنظيماً جماهيرياً واعياً يتجاوز يتجاوز ردات الفعل العاطفية. تتطلب إعادة تأطير الفكر الثوري والمقاوم في مؤسسات حية ومنظومات قادرة على الحشد والتعبئة والبناء. علينا تعزيز الجبهة الثقافية، وحماية سرديتنا من التشويه، وترسيخ نموذج الصمود والتضحية الذي تجلى في فلسطين ولبنان واليمن، لا بوصفه ذكرى، بل كأفق مفتوح على المستقبل. المعركة مع المشروع الصهيوأمريكي اليوم لا تخاض فقط في الجبهات، بل في بنية الوعي الاجتماعي ذاته، ونحن بحاجة لإطلاق العمل على هذه البنية الآن وبدون تأخير. في السابع من تشرين الأول/أكتوبر حطّمنا الجدار وعبرنا. تجاوزنا الحاجز بين زمنين، زمانهم وزماننا. لكن المسير نحو الوطن ما زال طويلاً.

Print Friendly, PDF & Email
آدم كنعان

كاتب فلسطيني

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  سماحة السيد.. "انهض، لقد أصبحوا مجانين"!