توم برّاك.. وخريطة سايكس – بيكو الأميركية الجديدة

برغم التوضيحات الصادرة عنه، إلا أن توم برّاك ليس موفداً أميركياً عادياً. هو الناطق باسم دونالد ترامب. وعندما يقول إن لبنان إذا لم يتحرك بسرعة كبيرة، كما هو حال سوريا، "فقد يصبح بلاد الشام مرة أخرى" فهو يعني ما يقول جيداً. لم يكتفِ بهذه العبارة بل أضاف إليها: "يقول السوريون لبنان منتجعنا الساحلي. لذا علينا أن نتحرك. وأنا أدرك مدى إحباط اللبنانيين. وهذا الأمر يُحبطني أيضاً".

تصدُّعاتٌ جيوسياسيةٌ في الشرق. مسألةٌ شرقيَّة ٌمستعادة. سايكس – بيكو أميركيةٌ استبداليّةٌ مستحدثةٌ. ربّما هذه هي العَناوينُ القاطعةُ القاتلةُ المرتقَبةُ في المرحلة القريبة المقبلة. خرائطُ جديدةٌ دمويّةٌ تُرْسَمُ في الغرفِ الأميركيةِ – الإسرائيليَّة المغلقة. يمهِّدُ لها المبعوثونَ الأميركيونَ بمواقفَ علنيَّةٍ خِداعيّةٍ، تُلاقِيها مواقفُ بعضِ الدولِ العربية مع تركيا الأردوغانيةِ المُتَعثْمِنةِ، ومواقفُ مماثلةٌ من بعض القوى في الساحةِ اللبنانية التي لن تَمضي مدَّةٌ طويلةٌ حتَّى نُسمِّيها بأسمائها تصريحاً لا تلميحاً إذا استمرَّت في تهديدِ ما تبقى من مفهوم الوحدة الوطنية. وإذا واصلتْ أيضاً التغاضِي السياسي المتعمَّدِ عنِ الاحتلالِ الإسرائيلي، وأكملتِ التصفيقَ الصفيقَ لكلِّ عدوانٍ إسرائيلي على لبنان، وتابعتِ الشماتةَ المُخْزِيةَ بكلِّ شهيدٍ يسقطُ بضرَباتِ المسيَّراتِ الإسرائيليَّة.

آخرُ “إنجازات” الخِداعيَّةِ الدمويَّةِ الأميركية أعلنَها مبعوثُ ترامب “المثلَّثُ الحرَكات” بين أنقرة ودمشق وبيروت، توم برّاك الذي ينبُشُ في التاريخ مع أردوغان ونِتنياهو من أجلِ إعادة صوغِ مستقبلِ المَنطِقةِ بسرعةٍ إستراتيجيَّةٍ فائقة بعد الفشلِ الإسرائيلي – الأميركي في إخضاع إيران. توم برّاك أعلن مرتين “أنَّ اتفاقية سايكس-بيكو انتهت، وأنَّ زمن التدخُل الغربي ولَّى”. طبعاً لم يصدّقْه في ذلك سوى السُذَّجِ والسطحيين والمهلِّلين لأميركا وإسرائيل. لقد تغافلَ هؤلاءِ أنَّ برّاك ينطلقُ من مهمَّتهِ سفيراً أميركيَّاً في أنقرة، ومبعوثاً خاصاً إلى سوريا ثمَّ إلى لبنان، ليتحرَّكَ ضمنَ مَلفٍّ واحدٍ رسمتْه الدولة العميقة في الولايات المتحدة في إطار المشروع الكبير المسمَّى “الشرق الأوسط الجديد” الذي يعني “إسرائيل الكبرى” لإنتاجِ دولٍ أحاديّة تتّسقُ مع الدولةِ الأُحاديَّةِ اليهودية في سياقِ المشروعِ الإبراهيمي الخطير.

يدُسُّ توم براك السمَّ في العسل عندما يتحدَّثُ عنِ انتهاءِ سايكس – بيكو والتدخُّل الغربيّ، فيما ممارساته الفعلية تدلُّ على أنَّ قصدَه الوحيد هو إقصاء الاتحاد الأوروبي فحسبُ، لا الغربيّ الأميركي على قاعدة ما تقوله واشنطن دائماً: الأمرُ لي ولإسرائيل. ولن يُغطِّي هذه اللعبةَ أصلـُهُ اللبناني الذي يُوظـَّفُ لمزيدٍ منَ ابتزازِ لبنان، والمقاومة فيه، ولإعطاء الجولاني نفوذاً ووصاية فِتنويَّة في عدد من الساحات اللبنانية.

إذا نجحتْ سايكس – بيكو المستحدثةُ التي يتحدَّثُ عنها توم برّاك، فهذا يعني أنَّ بلاد الشام سقطت تحت القوس الإسرائيلي – التركي برعايةٍ أميركيَّة. وأنَّ الخطرَ على لبنان من الجنوب والشمال والشرق يزدادُ اقتراباً. وأنَّ الآلة الجهنميّة ستخططُ لمحاولات ضدَّ مصر، وأنَّ احتمالَ تجدُّدِ العدوان على إيران يُطِلُّ بوجههِ الأسود. وأنَّ غالبية العرب سينخرطون في اللعبة، فتتصاعد المخاطر على القضية الفلسطينية، ولن ينجو الكيان الهاشمي في الأردن

اتفاقية سايكس – بيكو التي يتحدَّثُ عنها توم برّاك انتهت فعلاً، لكن ليس لمصلحة العرب الذين دفعُوا ثمنَها الباهظَ منذ مئةٍ وتسع ِسنوات. إنَّها سايكس – بيكو جديدة طالب بها مشروع “نافو” الإسرائيلي في خمسينيَّات القرن الماضي، ثمَّ شمعون بيريز في بداية التسعينيَّات، ثم نتنياهو، وازدادت حدَّةً ووضوحاً مع تأييدٍ عربي علنيٍّ حيناً وخفيٍّ أحياناً، وصولاً إلى الدعوة التي أطلقتها عام 2006 وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، حتى المرحلة الراهنة مع دونالد ترامب الذي كلَّف توم برّاك بإنجازها – إذا استطاع – انطلاقاً من مقرِّهِ الجيوسياسي في تركيا.

لماذا تركيا بالذات؟

لأنَّ واشنطن تريدُها أنْ تزدادَ فعاليَّةً في جنوبِ الحلفِ الأطلسيّ تحسُّباً لصراعاتٍ آتية مع روسيا والصين. ثمَّ إنَّ الدولةَ العميقةَ في الولاياتِ المتحدةِ ترغبُ بشدَّةٍ تشجيعَ العَثْمنةَ فهي تخططُ لإنهاء سايكس – بيكو من أجلِ إرضاءِ السلطانِ سليم الأردوغاني بإعادةِ جزءٍ فاعل من نفوذهِ القديم في بلاد الشام. ولا يَخْفَى على المراقبِ الدقيقِ أنَّ ذلك يمهِّدُ لتوزيعِ الوصايةِ على سوريا بين تركيا المتحفِّزةِ لاستعادة عُثمانيتِها، وإسرائيل التي توسِّعُ نفوذَها منَ الجنوبِ السوري حتى حدودِ العراق، كي تُوفِّرَ الأمنَ الإستراتيجيّ لـِ “مَمرِّ داوود” [يمتدُّ بحسَبِ الأساطيرِ التوراتيةِ من جنوبِ لبنانَ إلى أوَّلِ العراق] ولجرِّ مياهِ الفراتِ إلى كيانِ الاحتلالِ الذي يتخوَّف من انخفاضٍ متزايدٍ في مياهِ بحيرة طبريَّا.

هذه الخطَّةُ ترعاها واشنطن التي تحْمِي خطَّ التقاطُع ِغيرَ المعلنِ بين تركيا وإسرائيل اللتينِ يمثِّلهما سويَّةً أحمد الشرع. ولا شكَّ في أنَّ هذه المسألة تُفسِّرُ جانباً مُهِمَّاً من كلام توم برّاك عن إنهاء سايكس – بيكو والوصولِ إلى أن يُصبح لبنان “جزءاً من بلاد الشام مرة أخرى”، على حد تعبير موفد ترامب. أمَّا الغايةُ الأخرى الأشدُّ خُبثاً فهْي اتفاقُ واشنطن وتلْ أبيبْ على الاستثمارِ في تركيا لإنتاجِ إسلامٍ سياسي يرضى به الغرب، في مواجهة إسلام إيران المتحالف مع روسيا والصين، الأمر الذي يُعيدُ إلى الأذهانِ والسياساتِ تاريخَ الصراع ِالصفويّ – العثماني القديمِ الذي تأملُ واشنطن واليهوديةُ العالميةُ أنْ يكونَ شرارةً حديثةً لتعميم ِالفوضى وزيادةِ الشروخ ِفي العالمين العربيّ والإسلامي، كما كان يقولُ هنري كيسنجر قبلَ نحو نصفِ قرنٍ: “إنَّهم يحتاجون إلى مئةِ عامٍ من الحروبِ بين السنَّةِ والشيعة”.

إقرأ على موقع 180  إنفراجة اليمن لا تنسحب على سوريا؟

هذا السيناريو الخطيرُ لاستبدالِ سايكس – بيكو القديمةِ بأخرى جديدةٍ، يتزامنُ معَ ضغطٍ شديدٍ على المقاومةِ في لبنانَ لمحاولةِ تجريدِها من سلاحِها تحت شعارِ تطبيقِ القرار 1701. وهنا يتجاوزُ هذا الضغطُ لبنانَ إلى المنطِقةِ إذِ المطلوبُ القضاءُ على نهجِ المقاومةِ كلِّهِ بالسلاح والثقافة والإعلام والمناهج التعليمية، من دونِ أيِّ حديثٍ جدِّي عن الانسحابِ الإسرائيلي لا من لبنان ولا من قطاعِ غزَّة. وفي هذا الإطار من حقِّ المقاومة أنْ لا تثِقَ بما يُحكى عن ضماناتٍ أميركية بعد ما يُسمَّى “تسليم السلاح”. يكفي أنْ نتذكَّر رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، الراحل ياسر عرفات، عندما قَبِلَ بخطة فيليب حبيب عام 1982 ووعوده بالضمانات الأميركيَّة. ولقدِ اِنسحب آنذاك المقاتلون الفلسطينيون مع أسلحتهم من بيروت، وما إنْ ابتعدتِ البواخرُ في البحر حتَّى انقضَّ اليمين اللبناني بحماية الاحتلال الإسرائيلي على مخيَّميْ صبرا وشاتيلا وارتكب المجازر المعروفة. ترى كيف يمكن للمقاومة تسليم السلاح بمثل هذه الضمانات؟ وكيف يمكن أنْ يتِمَّ ذلك من دون حوار داخلي وتسوية وطنية؟ إذا حصل هذا – وهو ما تريدُه واشنطن وتلْ أبيبْ – فسيتمُّ الانقضاض هذه المرة على وحدة لبنان، ولا سيَّما أنَّ في الداخل اللبناني مَن يريدُ كياناتٍ أحاديةً، وفي سوريا على حدود لبنان الشمالية والشرقية يتفاوض أحمد الشرع مع إسرائيل لترتيب خريطة جديدة تشمل سوريا ولبنان.

إذا نجحتْ سايكس – بيكو المستحدثةُ التي يتحدَّثُ عنها توم برّاك، فهذا يعني أنَّ بلاد الشام سقطت تحت القوس الإسرائيلي – التركي برعايةٍ أميركيَّة. وأنَّ الخطرَ على لبنان من الجنوب والشمال والشرق يزدادُ اقتراباً. وأنَّ الآلة الجهنميّة ستخططُ لمحاولات ضدَّ مصر، وأنَّ احتمالَ تجدُّدِ العدوان على إيران يُطِلُّ بوجههِ الأسود. وأنَّ غالبية العرب سينخرطون في اللعبة، فتتصاعد المخاطر على القضية الفلسطينية، ولن ينجو الكيان الهاشمي في الأردن وإن تكن واشنطن تحافظ على دوره الوظيفي حتى اللحظة.. نعم سايكس – بيكو أميركية جديدة تريد إعادة رسم الخرائط، فإلى متى تبقى شعوبنا ساكتة؟ وإذا بقيتْ على هذا السكوت فهل يظنُّونَ أنَّ العرب يبقى لهم مكانٌ في العالم؟

Print Friendly, PDF & Email
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "لعبة الأمم": نزع سلاح حزب الله.. وعدم تسليح الجيش!