

حدث السليمانية الذي يُتوّج اتفاقاً بين الحكومة التركية والزعيم التاريخي لـ”حزب العمال الكردستاني” عبدالله أوجلان ويطوي معلماً آخر من معالم الحرب الباردة، جاء بعد يومين من تأكيد السفير الأميركي لدى تركيا توم برّاك لمظلوم عبدي عندما التقاه في دمشق مع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، أن “طريق المفاوضات يؤدي إلى دمشق”، وأن الفيديرالية التي يطالب بها “لا تصلح في سوريا”.
برّاك الذي يقوم بمهام المبعوث الشخصي للرئيس الأميركي إلى “بلاد الشام”، معروف عنه تنديده بمعاهدة سايكس-بيكو، واعتبارها نتاجاً للاستعمار الأوروبي، وردّد مراراً أن المعاهدة ألحقت إجحافاً بحق تركيا. وبعد ذلك، لا غرابة إذا ما وقف موقف المؤيد لعودة سوريا دولة مركزية واحدة، كما كانت قبل العام 2011.
بذلك، قطع توم برّاك، غير الغريب عن تاريخ المنطقة بحكم أصوله اللبنانية، الطريق على طموحات أكراد سوريا، الذي كانوا يُمنون النفس، بأن يحصلوا على الأقل على وضعية الفيديرالية أو اللامركزية على الأقل، وأن تكون لهم حصة من الثروات الطبيعية الموجودة في مناطقهم وأن يتمتعوا إلى حد ما بإدارة شؤونهم الحياتية والثقافية، على النمط الذي درجوا عليه منذ نشوب الحرب الأهلية السورية.
قرار “حزب العمال الكردستاني” بإلقاء السلاح والانتقال إلى العمل السياسي، سيترك انعكاساته على ساحات أخرى. ولن تقتصر مفاعيل حدث كهذا على الداخل التركي، من حيث تعزيز مكانة أردوغان وتمكينه من تعديل الدستور والفوز بولاية رئاسية أخرى، متكئاً على حلفائه الجدد في حزب المساواة والشعوب الديموقراطية الكردي، بل ستكون هناك ارتدادات للقرار الذي اتخذه أوجلان في سوريا وحتى العراق وإيران، التي تضم أقليات كردية
ولوهلة، اعتقد أكراد سوريا أن واشنطن في حاجة إليهم، كونهم شركاء التحالف الدولي في الحرب ضد “داعش”. وكانوا بمثابة القوة البرية التي اجتاحت مناطق التنظيم الجهادي حتى آخر معقل في بلدة الباغوز السورية في 2019، لكن سوريا ما قبل سقوط النظام البعثي شيء وما بعده شيء آخر، ولا سيما عندما أطاحت السلطة السورية الجديدة بحكم الأقلية العلوية لمصلحة الأكثرية السنية، وهذا الأمر ليس تفصيلاً عند تركيا ودول الخليج.. وأيضاً عند الحليف الأميركي.
وبحسب الاتفاق المبرم بين “قسد” وأحمد الشرع في 10 آذار/مارس الماضي، لا يُعارض مظلوم عبدي “دمج” المقاتلين الأكراد في الجيش السوري الناشىء. لكن الخلاف هو على طريقة هذا الدمج ومدته. وتُفضّل “قسد” أن تبقى كتلة واحدة تتبع لوزارة الدفاع المركزية. أما الشرع، فيطالب بحل التنظيم الكردي، ونزع عنه أية خصوصية والالتحاق بالجيش الجديد.
ليست أميركا وحدها من تؤيد وجهة النظر هذه، إذ أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ينحاز بقوة إلى الشرع، ولا يرى مبرراً لبقاء “قسد”، التي يعتبرها النسخة السورية عن “حزب العمال الكردستاني”، ويؤكد أن نداء أوجلان الصادر من سجنه أوائل هذا العام لحزبه من أجل إلقاء السلاح في جبال قنديل بشمال العراق، ينطبق أيضاً على “قسد”، الأمر الذي لا يقر به عبدي.
حسابات عبدي لا تتطابق مع الحسابات الأميركية التي تعطي تدعيم النظام السوري الجديد وتمكينه من مواجهة التحديات الماثلة أمامه، الأولوية القصوى. حتى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومسؤولين آخرين في إدارته شرعوا في الحديث عن دمشق بوصفها الشريك المستقبلي في محاربة تنظيم “داعش”، وهي مهمة اقتصرت على “قسد” منذ عام 2014. وينظم المسؤولون الأميركيون زيارات منتظمة لمسؤولين من النظام الجديد إلى السجون التي تحرسها “قسد” بدعم من القوات الأميركية في شمال شرق سوريا. ويوجد في هذه السجون نحو عشرة آلاف مقاتل من “داعش” وعشرات الآلاف من عائلاتهم. وتطالب واشنطن بنقل المسؤولية عن هذه السجون إلى دمشق.
ورجب طيب أردوغان الذي يُفضّل انسحاباً أميركياً تاماً من سوريا، ذهب خطوة أبعد بالحديث عن تأسيس إئتلاف إقليمي يضم دمشق وعمّان لمحاربة التنظيم الجهادي، بعد أن يغادر الجيش الأميركي سوريا، وذلك لسحب البساط من تحت أقدام “قسد”.
ها هنا يتجدد السؤال القديم الجديد، هل تذهب أميركا في خطواتها إلى درجة التخلي عن “قسد” بالكامل، على رغم الدور الكبير والتضحيات التي قدمها الأكراد في حربهم ضد “داعش”، وعلى رغم العلاقات التحالفية مع واشنطن؟
في سياسات الدول، ولا سيما الكبرى منها، كما هو معروف لا تحالفات ولا عداوات دائمة، بل ثمة مصالح دائمة. والانفتاح الأميركي المتسارع على النظام الجديد في سوريا يثبت ذلك. وإلى رفع قرار رفع العقوبات الذي اتخذه ترامب منذ لقائه الشرع في الرياض في أيار/مايو الماضي، قرّرت واشنطن رفع “جبهة النصرة”، التي هي الآن “هيئة تحرير الشام” التي كان يتزعمها الشرع قبل أن يصير رئيساً عن اللائحة الأميركية للتنظيمات الإرهابية، وهذه الخطوة تؤكد أن واشنطن ماضية في تدعيم النظام الجديد. ومعلومٌ أن “جبهة النصرة” كانت تبايع تنظيم “القاعدة” حتى 2016. ويعمل البيت الأبيض مع الكونغرس من أجل إلغاء “قانون قيصر” بما يفسح المجال واسعاً أمام تدفق رؤوس الأموال إلى سوريا.
في موازاة الدعم الأميركي السخي والضغط على الأكراد للاندماج بلا شروط في مؤسسات النظام الجديد، عسكرياً وإدارياً، تتوسط الولايات المتحدة بين دمشق وتل أبيب، للتوصل إلى اتفاق أمني يلغي حال العداء بين الجانبين، ويُمهد لاحقاً لضم سوريا إلى الاتفاقات الإبراهيمية.
وتندرج زيارة أحمد الشرع إلى أذربيجان، عاشر دولة يزورها رسمياً منذ الاستيلاء على السلطة في كانون الأول/ديسمبر الماضي، في خانة فتح قنوات جديدة مع تل أبيب، حيث تردد أن وفدين سوري وإسرائيلي سيلتقيان في باكو، استكمالاً لمحادثات جرت في عواصم أخرى بينها في باكو سابقاً كما في بعض العواصم الخليجية، وذلك سعياً لتكريس مسار يُفضي إلى اتفاق للتطبيع بين الجانبين في مرحلة متقدمة.
مثل هذا الاتفاق، يزيد الضغط على لبنان من أجل التوصل إلى اتفاق أمني مع إسرائيل، بما يترجم الانجازات التكتيكية التي حصلت عليها إسرائيل في الـ21 شهراً من الحرب على الجبهة الشمالية.
استناداً إلى ما تقدم، يُمكن اعتبار أن قرار “حزب العمال الكردستاني” بإلقاء السلاح والانتقال إلى العمل السياسي، سيترك انعكاساته على ساحات أخرى. ولن تقتصر مفاعيل حدث كهذا على الداخل التركي، من حيث تعزيز مكانة أردوغان وتمكينه من تعديل الدستور والفوز بولاية رئاسية أخرى، متكئاً على حلفائه الجدد في حزب المساواة والشعوب الديموقراطية الكردي، بل ستكون هناك ارتدادات للقرار الذي اتخذه أوجلان في سوريا وحتى العراق وإيران، التي تضم أقليات كردية.
لكن أكثر مكان مرشح لتلقي هذا التطور، هو سوريا. لن يكون خيار دمج “قسد” في الجيش السوري الجديد، سوى المعادل لعملية إلقاء “حزب العمال الكردستاني” السلاح والعودة إلى أنقرة.. وبالتالي يقع الأكراد مجدداً في فخ توازنات الإقليم المتحركة، فيكون مطلوباً أن يدفعوا هم الأثمان، ويبقى ما يُسمى “الحلم الكردي” مستحيلاً.