لعل النفط كان أحد أبرز عوامل إذكاء الحرب السورية، فراحت أنابيبه ترسم طريق الدماء والدمار والدموع من أجل مصالح استراتيجية ربح منها الجميع الا السوريون. وحتى الآن، ما زالت الثروة الزراعية والنفطية في سوريا مستمرة في فتح شهية الراغبين بالسيطرة على ثروات العرب، وبالضغط على الدولة السورية وحلفائها حتى لو حملت الضغوط شبح التقسيم غير القابل للتنفيذ لأسباب كثيرة.
هذا بالضبط ما دفع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الى القول علانية ان بقاء أميركا في سوريا “مشروط بنجاح مشروع التقسيم وبالسيطرة على حقول النفط والغاز”، ونقلت إذاعة سبوتنيك الروسية عن مسؤول سوري رفيع قوله مطلع العام ٢٠١٨ إن سوريا “قرأت أسباب الاستهداف الأمريكي الحقيقية للبلاد منذ اللحظة الأولى، وكان في تلكَ الأسباب بعد اقتصادي متمثل بطمع واشنطن بالسيطرة على ثروات سوريا الباطنية، ولا سيما أنّ الثروات التي ما تزال في طور الاكتشاف تحت الأرض وفي مياه سوريا الإقليمية من المتوقع أن تجعل سوريا في مصاف الدول الكبيرة المنتجة والمصدرة للنفط والغاز في العالم لأنها تحمل آمالاً مبشرة جداً بذلك، ولهذا وضعت واشنطن خططها لقلب نظام الحكم في سوريا وبدأت بتنفيذها منذ عام 2011 لإيجاد نظام حكمٍ موالٍ لها بالكامل وبالتالي سيطرتها على نفط وغاز سوريا كما تفعل في دول الخليج”.
النفط قبل الحرب وخلالها
يعود تاريخ النفط والغاز السوريين الى منتصف القرن الماضي. كانت بواكيره قد ظهرت في منطقة الحسكة في شمال البلاد، ثم بدأ انتاج كميات أخرى في منطقة دير الزور حتى الحدود العراقية، وقد كان لافتا في تلك الفترة انه رغم العلاقات الوطيدة بين دمشق والاتحاد السوفياتي (السابق)، الا ان احدى متفرعات شركة شل الاميركية هي التي اكتشفت الحقول في ثمانينيات القرن الماضي.
قبيل اندلاع الحرب السورية، كان الإنتاج النفطي السوري يقتصر على نحو ٣٨٥٠ ألف برميل يوميا وفق التصريحات الرسمية للدولة. أكثر من نصفها تنتجه الشركة الوطنية السورية والباقي الشركات الأجنبية، وأقل من نصف هذه الكمية فقط كان يُصدر الى الخارج، ما كان يؤمن للدولة السورية نحو ٢٠ بالمئة من مجمل إيراداتها. استمر ذلك حتى فرضت أوروبا عقوبات على النفط السوري في أواخر العام ٢٠١١ لينخفض الإنتاج بسبب العقوبات والحرب الى أقل من ٣٠ ألف برميل يوميا ابتداء من أواخر العام ٢٠١٢، ثم الى اقل من ١٥ ألفا، لتفقد الدولة السورية لاحقا معظم سيطرتها على المناطق النفطية وبالتالي على الإنتاج.
سيطر على معظم النفط السوري المسلحون والإرهابيون الذين قاتلوا الجيش السوري وراحوا يصدروا النفط عبر طرق التفافية، أبرزها عبر تركيا بعد افراغ حمولة الصهاريج في منبج شرق حلب وتل أبيض. كما ان ثمة تقارير غربية كانت تشير الى ان الدولة السورية اضطرت مرارا لشراء النفط من المسلحين مقابل أموال واسلحة.
اما بالنسبة للغاز فقد كان تضرره أقل من النفط، ذلك ان معظم المحطات الحرارية كانت تقع في مناطق يسيطر عليها النظام او استعادها بين حلب وحمص.
ومع استعادة الدولة السورية للمدن الكبرى، أي حلب وحمص وحماه إضافة الى دمشق وأريافها، صارت الدولة تسيطر على معظم حقول الغاز، بينما قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بقيت تهيمن على حقول العمر وهي الأكبر في سوريا في منطقة دير الزور إضافة الى جفرا والتنك والرميلان وحقول اخرى بين الحسكة والرقة، مقابل سيطرة الدولة على معظم حقول التيم والشولة والنيشان والورد والرقة وصدد وآراك وهي جميعها تقع في مناطق واسعة تمتد من الرقة شمالا حتى حمص في وسط البلاد.
80 مليار دولار خسائر نفطية
تفيد تقارير غربية بان خسائر الدولة السورية في قطاعي الغاز والنفط قاربت ٨٠ مليار دولار، خصوصا حين تراجع مثلا انتاج النفط الى أقل من ألفي برميل يوميا في العام ٢٠١٦ مقابل نحو ٣٨٥ الفا قبيل الحرب.
ومع فرض العقوبات الاميركية الصارمة على ايران، وتوقف الخط الائتماني الايراني لدمشق، دخلت سوريا في أزمة نفطية وغازية خانقة دفعت قسما من مؤيدي النظام للتعبير علانية عن استيائهم، بينما راح كرد سوريا يؤكدون انهم ليسوا ضد عقد اتفاقيات مع النظام لكن بشرط ان يكون التقاسم مناصفة خصوصا ان الكرد قاموا بتكرير النفط في الحقول الواقعة تحت سيطرتهم ومنها مثلا حقل الرميلان وانشأوا بعض المصافي بدعم دولي لكنها بقيت بسيطة وبدائية.
يُنتظر ان يكون النفط السوري في السنوات المقبلة، وفي حال انتهت الحرب بتفاهمات دولية، عاملا مساعدا في إعادة اعمار سوريا، لذلك فهو ما زال خاضعا لعملية شد حبال دقيقة.
تفيد تقارير غربية بأن خسائر الدولة السورية في قطاعي الغاز والنفط قاربت ٨٠ مليار دولار، خصوصا حين تراجع مثلا انتاج النفط الى أقل من ألفي برميل يوميا في العام ٢٠١٦ مقابل نحو ٣٨٥ الفا قبيل الحرب
باول والأسد والنفط
حين ذهب وزير الخارجية الاميركي كولن باول بالعصا والجزرة للقاء الرئيس السوري بشار الأسد بعيد اجتياح العراق في العام ٢٠٠٣، تطرّق الى موضوع النفط العراقي وعلاقته بسوريا، فقال : “أؤكد لكم مجدداً سيادة الرئيس أنّ الولايات المتحدة لا نية لديها لاستخدام أي من النفط العراقي أو الموارد العراقية لمصلحة الولايات المتحدة. هذا النفط تعود ملكيته إلى الشعب العراقي ولذلك علينا أن نضمن وجود السلطة القانونية الصحيحة لتشرف على بيع النفط، وطبعاً ستعود أموال بيعه إلى بعض البنوك أو الحسابات الموثوق بها أو بعض المؤسسات الدولية وسيتم هذا الأمر بشفافية كاملة بحيث يتمكن الشعب العراقي من أن يرى أنه هو من يقرر في نهاية المطاف كيف تصرف هذه الأموال. نحن لم نأت إلى هنا لسرقة النفط العراقي… ودعونا نكون صريحين هنا، عندما زرتكم هنا وتحدثنا عن موضوع النفط ثم عدت إلى واشنطن لأفعل شيئاً بخصوص عقود النفط التابعة للأمم المتحدة ولم ننجح، علق كثيرون قائلين «يا باول لقد ذهبت إلى سوريا ولم تفعل شيئاً»، ومهما كان قراركم بشأن المكاتب (اقفال مكاتب المنظمات الفلسطينية في دمشق) فلن أسرع إلى الخارج لإعلانه، وكلما كنتم سريعين باتخاذ إجراءات كانت مهمتي أسهل في الدفاع عن قضيتي، وعندها يمكننا إيجاد طريقة للتحدث عن تسوية سلمية شاملة”.
رد الأسد قائلا :”دعنا نعد إلى موضوع النفط. طبعاً في ذلك اللقاء أنتم طلبتم شيئاً ونحن طلبنا شيئاً في المقابل، وهو أن يكون عملاً تفضيلياً واتفقنا على التعاون في هذا الموضوع. وقلنا يومها نريد أن نعامل كما تعامل تركيا في ذلك الوقت. وليس من عادتنا في سوريا أن نقول كلاماً لا نعنيه. نحن صريحون. فلا أحد يفهم كيف استمررنا في موقفنا ضد الحرب والنظام العراقي يسقط، وهو كان أمراً واضحاً للجميع. لكننا كنا صريحين مع أنفسنا. هكذا نرى، نحن ضد الحرب. هذه الصراحة نفسها موجودة الآن مع شعبنا، ونحن هكذا نتعامل بصراحة وشفافية. وسأكون صريحاً معكم أيضاً، إذا لم يطرح موضوع السلام فلن نأخذ أي خطوات، هذا بشكل واضح. لأن ليس هدفي أن أربح داخل الطبقة السياسية الأميركية وأخسر سوريا”.
بشار الأسد لكولن باول: “ليس هدفي أن أربح داخل الطبقة السياسية الأميركية وأخسر سوريا”.
النفط في قانون محاسبة سوريا
في العام ٢٠٠٣ أيضا وفي سياق رفع مستوى الضغوط على سوريا، نجد أن موضوع النفط كان في صلب قرارات “مشروع قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية” الذي صدر عن الكونغرس الأميركي خصوصا في الفقرة ٢٥ وما اتلاها، فنقرأ الآتي:
(25) ان الرئيس السوري بشار الأسد وعد وزير الخارجية كولن باول في شباط/فبراير 2001 بوقف انتهاكات قرار مجلس الأمن رقم 661 الذي يقيد بيع النفط وسلع أخرى من قبل نظام صدام حسين باستثناء حدود ما تجيزه القرارات الأخرى ذات الصلة إلا أنه لم يتم الوفاء بهذا التعهد.
(26) ربحت سوريا من عمليات استيراد وشحن النفط العراقي غير المشروعة في عهد نظام صدام حسين 50 مليون دولار أو أكثر شهرياً كما واصلت سوريا بيع النفط السوري بأسعار السوق.
(27) ربح نظام صدام حسين من عمليات الاستيراد والشحن غير المشروعة من قبل سوريا للنفط العراقي مليوني دولار يومياً.
النفط في استراتيجية إسرائيل السورية
لو عدنا ربع قرن الى ما قبل لقاء الأسد ــ كولن باول، نجد أن النفط كان في صلب اهداف إسرائيل في سوريا، فنقرا في “استراتيجية إسرائيل” في ثمانينيات القرن الماضي والتي وضعها الكاتب الاستراتيجي الاسرئيلي اوديد ينون التالي:
“خلال الثمانينيات سيكون على دولة إسرائيل أن تمر بتغييرات بعيدة المدى على مستوى نظامها السياسي والاقتصادي المحلي، بموازاة تغييرات جذرية في سياستها الخارجية بهدف مواجهة التحديات الدولية والإقليمية في هذه الحقبة. إن خسارة حقول نفط قناة السويس، والإمكانات الهائلة من النفط والغاز والموارد الطبيعية الأخرى في شبه جزيرة سيناء والتي هي مطابقة طوبوغرافياً لدول المنطقة الغنية بالنفط، ستؤدي إلى استنزاف الطاقة في المستقبل القريب وتدمر اقتصادنا المحلي: ربع ناتجنا القومي الإجمالي الحالي كما ثلث ميزانيتنا مخصصان لشراء النفط”.
كانت السيطرة على حقول النفط المكتشفة او تلك التي ستكتشف لاحقا في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط هدفا استراتيجيا لإسرائيل من بين الأهداف الواضحة التي حملتها استراتيجيتها في ثمانينيات القرن الماضي بشأن تقسيم الدول العربية.
تركيا والنفط السوري
لم يختلف الأمر بالنسبة لتركيا عن حاله في إسرائيل، فلو قرأنا كتاب «العمق الإستراتيجي» لمؤلفه أحمد داوود أوغلو الذي أصبح مهندس السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان، نجد النفط في صلب أهداف التقارب مع سوريا، فأوغلو يعتبر مثلاً أن «روسيا تسعى إلى الدفع بشرق المتوسط إلى خارج مناطق المرور النفطي من خلال خلق أزمة مزمنة عند نقطة نزول خط باكو-جيحون الذي سيوجه ضربة لإستراتيجيتها النفطية»
وحين يذهب اوغلو للقاء الأسد في الأسابيع الأولى لغرق سوريا بالحرب، يوجه اليه نصيحة غريبة بغية ابعاده عن روسيا، فيقول له: “أرجو ألا تثق بروسيا أو الصين أو أي بلد آخر إذا قالوا إنهم سيدافعون عنك أو يحمونك. سأعطيك مثالاً. في 15 شباط كنا في روسيا في اجتماع مع وزارة الخارجية الروسية. في ذلك الوقت، كنا نحاول التوسط بين القذافي وأهل بنغازي، وكنا ننصح القذافي بإجراء انتخابات. وكنا نتعرض لانتقادات بسبب علاقتنا بالقذافي. سألناهم عن الحل الممكن في ليبيا، كان ذلك قبل بدء عملياتكم بأقل من أسبوع. قالوا إنهم ضد أي قرار ضد ليبيا، لكنهم في هذه الأثناء، كانوا قد جمدوا أصول القذافي. لكن كونهم ضد أي قرار لا يعني شيئاً. قالوا اليوم إن سعر برميل النفط 120 دولاراً، إذا وصل إلى 140 دولاراً فسنتخلص من أي ديون. كل ما يهم هذه الدول هو مصالحها”.
لكن بعد مرور ٨ سنوات على الحرب، لم تجد تركيا وروسيا بدا من التعاون الوثيق في مسألة النفط، فنقرأ لفيتالي نعومكن رئيس معهد الاستشراف في اكاديمية العلوم الروسية التالي: ان «السيل التركي» هو خط أنابيب مباشر من روسيا إلى تركيا عبر قاع البحر الأسود ومن ثم إلى الحدود التركية مع الدول المجاورة. هذا الخط سيكون له فرعان كل منهما بقدرة 15.75 مليار متر مكعب من الغاز. عبر الفرع الأول سينقل الغاز إلى السوق التركية، أما عبر الفرع الثاني، فإلى المستهلكين من دول أوروبا الجنوبية والجنوبية الشرقية. الأعمال في البحر تجري في الوقت نفسه على الفرعين. في الوقت الحالي تم مد 55 في المائة من الطول الإجمالي للخط من الجزء البحري، وهذا يشكل مد الفرع الأول التي يجب أن يسلم في بداية مايو (أيار) الحالي. عملية المد يقوم بها فرع شركة غازبروم، وحسب رأي نائب رئيس الإدارة ألكسندر ميدفيديف، سيعزز هذا المشروع التعاون بين روسيا وتركيا في مجال الطاقة، الأمر الذي سيؤثر بدوره على علاقاتهما الثنائية وعلى الوضع في منطقة الشرق الأوسط عموما”.
سوريا ضحية الصراع الغازي الأميركي الروسي؟
في كل تاريخ الصراع الأميركي السوفياتي، كانت أنابيب النفط جزءاً مخفياً أو معلناً منه. سعت الإدارات الأميركية المتعاقبة لإيجاد بديل للنفط الروسي الذي يصل إلى أوروبا. شجعت مشروع «نابوكو» الذي ينطلق من مناطق آسيا الوسطى (باكو – تبليسي – جيهان) عابراً تركيا ليصل إلى دول الاتحاد الأوروبي من الجانب الشرقي، أي رومانيا وبلغاريا وهنغاريا والنمسا وتشيكيا وكرواتيا وسلوفينا ثم إيطاليا. كان الهدف الأطلسي واضحاً ضد الروس. فمشروع نابوكو يهدف قبل كل شيء إلى قطع الطريق على أنابيب النفط الروسية وفي مقدمها نورد ستريم (Nord stream) الذي يربط روسيا بالاتحاد الأوروبي وتحديداً ألمانيا من دون حاجة للعبور بأوكرانيا أو بيلاروسيا، وساوث ستريم (South stream) الرابط بين روسيا وجنوبي أوروبا وتحديداً إيطاليا واليونان وأوروبا الوسطى.
ما علاقة سوريا بالأمر؟
يقول السفير الفرنسي السابق ميشال ريمبو إنه في «خلال البحث في ملف النفط، اكتشف استراتيجيونا الجيولوجيون فجأة الموقع – المفتاح لسوريا، ذلك أنه لتمرير النفط والغاز من الخليج وإيران وقطر والشركات الأميركية والروسية إلى أوروبا يجب المرور حكماً بالأراضي السورية. وقد اكتشف معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط المرتبط باللوبي اليهودي الأكثر تأثيراً في أميركا «إيباك»، أن الأراضي السورية تضم احتياطات نفطية هائلة وكذلك دول الجوار حيث بدأت إسرائيل منذ عام 2009 باستخراج الغاز.. وبدأت رحى الحرب تدور لأجل ذلك، كما أن قطر بحاجة إلى ضمان تصدير غازها إلى أوروبا لمواجهة المنافسة الروسية والإيرانية، وحاولت بالتالي الحصول بالقوة على طريق لأنبوب الغاز عبر سوريا».
مع اشتداد التنافس الغربي ـــ الروسي، وعودة فلاديمير بوتين لاعباً دولياً قوياً ومدعوماً من دول منظومة البريكس (الصين والبرازيل وجنوب أفريقيا والهند وروسيا)، ظهرت توقعات الغاز لتنبىء بكميات هائلة من هذه الثروة في البحر الأبيض المتوسط. صار مشروع نابوكو قادراً على تحقيق إنجازات هائلة لو أفاد من هذا الغاز المتوسطي الموجود عند سواحل سوريا ولبنان وفلسطين وإسرائيل وقبرص، ولو مر ببعض أراضي هذه الدول وخصوصاً سوريا.
من الطبيعي لو أن سوريا كانت قد استعادت دورها وتأثيرها في لبنان، أن تكون لاعباً أساسياً في تقرير مصير هذه الاكتشافات، وأن تميل أولويتها إلى الحليف الروسي بالتنسيق مع إيران.
وقد قُدمت لبشار الأسد إغراءات كثيرة للابتعاد قليلاً في هذه المشاريع عن الحليف الروسي والقبول باقتراحات غازية جاءت خصوصاً من قبل قطر (وربما السعودية) لمد أنابيب غاز صوب أوروبا عبر الأراضي السورية والاستغناء عن مضيق هرمز وقناة السويس.
إن الخطّة قديمة منذ سنوات وهي أن يتم الاستغناء عن الممرات، وليس عن الغاز الروسي، بل عن الممرات الغازيّة فقط التي تأتي من آسيا مثلاً أو من إيران أو عبر روسيا وأن تذهب هذه الممرات عبر دول صديقة في المتوسّط.
قبل أن تنفجر الأوضاع في سوريا، كان هناك طلبٌ قطري بمرور أنابيب غاز ضخمة من قطر عبر إسرائيل على الأرجح والأراضي السورية، ويقال إن الرئيس الروسي أوقف الصفقة، ما أغضب القطريين إلى أقصى الحدود، وأن أحد أسباب غضب فرنسا على سوريا في أيام الرئيس نيكولا ساركوزي وقبله الرئيس جاك شيراك، صفقة كانت مُقررة للتنقيب عن النفط والغاز في سوريا لمصلحة شركة «توتال». لكن هذه الشركة لم تنل هذه الصفقة في آخر لحظة، وتمّ تلزيمها إلى شركة كنديّة. بسبب ذلك طار عقل الرئيس الفرنسي ضد الرئيس الأسد، وفق ما رواه لي الدكتور جورج قرم الوزير اللبناني الأسبق والكاتب الإستراتيجي.
في شرحه للأهداف الأخرى للحرب على سوريا، يتوقف الكاتب الفرنسي جان بيار استيفال في كتابه الحامل عنوان “المأساة السورية”، مطولاً عند مسألة البحث عن الطاقة. يقول: “في سياق البحث اليائس عن مصادر الطاقة في العالم، فإن سوريا وبعد أن تكون قد تخلصت من النظام المعادي (لأميركا) وتقوم مكانه حكومة صديقة، تشكل الفريسة الفضلى. ذلك أن السيطرة على منطقة غنية بمصادر الطاقة والتي توحي الاكتشافات الحديثة فيها ببداية عصر ذهبي، كانت بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية فرصة جيوسياسية حقيقية. ثم إن الوضع الجغرافي لسوريا مثالي، ذلك أن سوريا هي المنفذ الأرضي الوحيد إلى ثروة آبار الطاقة في عراق ضعيف وممزق بالحرب الطائفية وكان بدوره أيضاً باب الدخول إلى ثروات إيران المعادية والتي ينبغي (بالنسبة إلى أميركا) إخضاعها سريعاً. إنّ هذه المسوغات الجغرافية الأساسية والسرية لا يمكن استبعادها أبداً، لا بل إنها أقوى من الأهداف المستوحاة من الدفاع عن حقوق الإنسان”.
الحلف الغازي مع إيران
كان لافتاً للنظر أن اندلاع أولى الأحداث في سوريا في ربيع عام 2011 سبقها قبل حوالي الشهرين فقط توقيع إيران اتفاقيات نقل غازها عبر سوريا في سياق الالتفاف على العقوبات الدولية التي تمنعها من تصدير النفط وبيعه، كما سبقها قبل ثلاثة أشهر إعلان وزير النفط السوري عن اكتشافات غازية هامة في منطقة قارا قرب حمص تصل إلى نحو 400 ألف متر مكعب في اليوم الواحد.
يقول الكاتب الفرنسي انه «بعد رفض السعودية لمشروع الأنابيب الأرضي الذي طرحته قطر عام 2009 والذي كان من المفترض أن يربطها بتركيا، اختارت أن يمر عبر أراضي العراق والأردن وسوريا، وفي هذا الإطار تقاربت الدوحة من سوريا عام 2010 في سياق اتفاقية الدفاع، لكن سوريا اختارت في نهاية الأمر الحلف الغازي «الشيعي» مع العراق وإيران… وقد نظرت كل من قطر وتركيا وإسرائيل إلى هذا المشروع الإيراني العراقي السوري بعين الريبة لأنه سيكون مستقلاً تماماً عنهم في طريقه إلى أوروبا، بينما كانت أوروبا تعمل على تنويع مصادرها والتقليل من الاعتماد على الغاز الروسي. وأما أميركا فكانت تشرف على كل ذلك من خلال دعم حلفائها إسرائيل وتركيا وقطر وإضعاف الخصوم روسيا وإيران، وهكذا فإن مسألة الغاز صارت جزءاً مفصلياً من الصراع الدائر حالياً في روسيا…وبروتوكول الدوحة الموقع في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 من قبل غالبية الأطراف المعارضة السورية يلحظ أنه في سوريا ما بعد الأسد، سيتم السماح لأنبوب النفط القطري بالمرور عبر سوريا صوب تركيا ثم أوروبا».
كان تقرير مجلس الشيوخ الفرنسي بعد زيارة وفده الى دمشق في العالم ٢٠٠٠، قد سلط الضوء على مستقبل الثروة النفطية السورية وجاء فيه :
• إن فترة استثمار حقول النفط قد لا تتعدى 10 سنوات، فبعد فترة إنتاج 610 آلاف برميل في اليوم عام 1995، تراجع الإنتاج ببطء ليصل إلى 560 ألف برميل، ولذلك فإن السلطات السورية تعمل حالياً على خطين:
• ان تطوير الحقول المستثمرة مستمر، وذلك عبر رؤوس أموال وتكنولوجيا حديثة تتمتع بها الشركات النفطية الكبيرة فقط.
• ان استبدال النفط بالغاز صار ضروريا، وذلك بغية حصر التصدير بالفيول المحروق حالياً في المراكز الحرارية. وإن ثقل العوامل الطبيعية الذي تتحمله سوريا ظهر بوضوح أكثر من عام 1999، أي في العام الذي شهد جفافاً استثنائياً..
النفط بين سوريا وايران
الواقع أن رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي والآتي من صفوف حزب الدعوة الذي انضم إليه عام 1970 وصار من قياداته، لم يتأخر كثيراً في إعلان اصطفافه في المحور المواجه للسعودية وقطر وتركيا. عقد مؤتمراً صحافياً في طهران ليعلن منها في 18 آب/أغسطس 2012 أنه: «لو لم تقم تركيا والسعودية بدعم الجماعات الإرهابية، لما آلت الأمور في سوريا إلى هذه الدّرجة من السوء».
كانت العلاقات التركية العراقية قد توترت على نحو ملحوظ حين رفضت أنقرة تسليم نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي المحكوم عليه بالإعدام غيابياً في بلاده، كما احتجت بغداد رسمياً في آب/أغسطس على زيارة وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو إلى كركوك بشمال العراق من دون إبلاغ السلطة المركزية العراقية، كما نظرت بكثير من الشجب والريبة لتسهيل تركيا مرور النفط من كردستان إلى إسرائيل عبر أراضيها.
إن رغبة التهدئة قادت دمشق أيضاً لتحسين علاقاتها مع منافستها بغداد، فالتباعد بين النظامين البعثيين كان قد تفاقم من خلال مشاركة سوريا في قوات التحالف في خلال حرب الخليج (عاصفة الصحراء). وقد تم استئناف العلاقات الاقتصادية في عام 1997 بفتح 3 مراكز حدودية واستخدام مرفأ طرطوس لعبور النفط العراقي في إطار قرار (النفط مقابل الغذاء). ووقع الطرفان في عام 1998 اتفاقاً سمح بتشغيل أنبوب النفط الذي يربط حقول كركوك في شمال العراق مع مرفأ بانياس على المتوسط.
أما بالنسبة لإيران، ففي العام 1982 وقعت دمشق وطهران اتفاقية نفطية لبيع النفط الإيراني بسعر تفضيلي إلى سوريا، وحين اندلعت الحرب واختارت طهران الوقوف الى جانب دمشق، بدأت باكراً التنسيق مع القيادة السورية لوضع خطة ضد العقوبات التي كانت تدرك أنها قادمة لا محالة. كان النفط السوري هو أبرز المستهدفين بالعقوبات، ذلك أن نسبة 90 بالمئة منه كانت تذهب إلى أوروبا والبقية إلى تركيا. والنفط كان يؤمن 25 بالمئة من الإيرادات الحكومية لسوريا. سعت القيادة السورية بداية للاتفاق مع الهند لكن مسألة الضمانات حالت دون ذلك. وحتى صيف عام 2012 كانت خسارة سوريا بسبب العقوبات على النفط تخطت 4 مليارات دولار. والدول الخليجية أوقفت استثماراتها الكبيرة (قطر وحدها نحو 6 مليارات). لم تجد القيادة السورية سوى 3 اتجاهات رئيسة هي إيران وروسيا والعراق وأيضاً لبنان ولكن على مستويات أقل بكثير.
في مطلع العام ٢٠١٣، وقع المصرف السوري المركزي اتفاقا مع طهران لتغطية الامدادات السورية من النفط في سياق خط ائتماني بلغ نحو ٧ مليارات دولار خصص منه نحو ٣ مليارات لملف النفط. وكان النفط ينقل بالصهاريج من ايران والعراق عبر خط يمر بمصر ويصل الى بانياس .
الثروات السورية ضغط.. ومساومات وجوائز
قال لي خبير النفط العالمي الفرنسي الجنسية واللبناني الأرمني الأصل بيار تيريزيان بعيد اجتياح العراق في العام 2003، ان اميركا المدعومة من بريطانيا في اجتياح أكبر احتياطات النفط العربية في العراق، أرادت من هذا الاجتياح ليس فقط الهيمنة المباشرة على نفط هي ما عادت بحاجة له، بل منع الصين وروسيا وغيرهما من نسج علاقة نفطية وطيدة مع العراق، بمعنى أنها شاءت أن يكون أي تصدير او انتاج للنفط العراقي محكوما بشركات أميركية وان أي تعاون صيني مع العراق يجب ان يمر عبر هذه الشركات.
لم تكن سوريا بعيدة عن هذه الأهداف، فاحتياطي نفطها ثم الاكتشافات الغازية الهائلة في البحر الأبيض المتوسط، والانابيب الروسية عبر أراضيها، كلها كانت هدفا رئيسا للحرب الضروس عليها، قبل ان تسقط الاوهام الكبرى بعد ٨ سنوات من الحرب والتي حققت فيها الدولة السورية مع حلفائها الرئيسيين أي حزب الله وايران وروسيا نتائج عسكرية أوقفت كثيرا من المشاريع الغربية والتركية والعربية دون ان تلغيها نهائيا، فحتى كتابة هذا المقال كانت الثروة النفطية وقودا لاستعار الحرب خصوصا في المناطق التي يطمح الكرد لاقامة ادارتهم الذاتية عليها بدعم أميركي قد لا يطول إرضاء لتركيا.
خلاصة: لا يمكن الحديث عن انتهاء الحرب السورية واستعادة الدولة السيطرة على كل المناطق الا حين تعود دمشق الى انتاج وتصدير كل نفطها وغازها وعقد اتفاقيات عالمية جديدة بشأن الاكتشافات الهائلة في البحر الأبيض المتوسط… ما لم تصل الى ذلك فهذا يعني ان ثمة أطرافا دولية وفي مقدمها أميركا لا تزال تريد ثمنا سياسيا وعسكريا واقتصاديا للقبول بانتهاء الحرب وبقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة، فالثروات السورية هي ورقة الضغط الكبرى للحصول على تنازلات. وبعض النفط في سوريا سيكون أيضا بعض جائزة الشكر من دمشق لحلفائها، وهو ما بدأنا نرى بعض بواكيره في عدد من الصفقات والاتفاقيات المعلنة او السرية مع كل من ايران وروسيا والصين.