حين يُبعث ابن تيمية.. وتُدفن دمشق

كأن دمشق لم تعد تلك المدينة التي كانت يومًا تُنجب الفقهاء والمجتهدين وتحتفي بالعقل والتنوع، بل غدت ساحة مفتوحة للارتداد عن تاريخها التنويري، في لحظة بدا فيها وكأنها تخلع آخر ما تبقّى من وشاحها العقلاني، لتلبس ثوبًا غريبًا عنها، يُفصّل على مقاس فكر طالما نبذته. المدينة التي سجنت ابن تيمية في قلعتها قبل سبعة قرون، تسلمه اليوم مفاتيح منابرها، وتدعوه ليعلّم الناس "الألفة" وكأن شيئًا لم يكن.
هذا الانقلاب الرمزي في دور مدينة دمشق التاريخي، ليس مجرد صدفة في مجرى الزمن، بل حلقة جديدة في مسلسل إعادة إنتاج فكرٍ لم يزدهر يومًا إلا في بيئة التشظي، واستُخدم مرارًا كأداة هيمنة لا كرافعة إصلاح.
من هنا، لا يمكن فهم صعود هذا الفكر مجددًا إلا ضمن السياق العميق لانهيار الدولة في سوريا. فبعد عقود من حكم آل الأسد في سوريا ، سقطت العديد من المناطق من قبضة السلطة، لا لتتحرر فحسب، بل لتُملأ فراغاتها بقوى جديدة، بعضها جاء مسلحًا لا بالسلاح فقط، بل بخطاب ديني أحادي الطابع. في تلك اللحظة المفصلية من التاريخ السوري، بدأ تعويم الفكر السلفي الجهادي، لا بوصفه اجتهادًا من بين اجتهادات، بل كمرجعية شبه مطلقة، وحيدة الصوت. وفي هذه الأجواء، أُعيد ابن تيمية من الظل إلى الضوء، لا كعالم فقه، بل كمُفكر “مرحلة”، وذُبحت من أجله أصوات الوسط، واختنق الاجتهاد بين رُكام التطرف والتقليد.
مع تصاعد الحركات الدينية المسلحة التي رفعت شعار إسقاط النظام، ظهرت الحاجة لدى بعض هذه التيارات لتأصيل شرعيتها من خلال رموز تاريخية تتماهى مع خطابها القتالي والحدّي. وهنا برز فكر ابن تيمية كمرجعية جاهزة: فتفسيره المتشدد للتوحيد، وفتاواه في القتال والتكفير، وتبنيه الحاسم لفكرة “الفرقة الناجية”، قدمت لهذه الجماعات المادة النظرية لتكريس خطابها. لم تكن العودة إليه إذًا مجرد محاولة لفهم التراث، بل عملية انتقاء سياسي لفكر يخدم مشروع السيطرة والفرز. وبدل أن يُقرأ نقديًا، كما يُفترض بتراث أي مفكر، رُفع ابن تيمية إلى مرتبة “الإمام الصالح لكل زمان”، وتحوّلت كتبه إلى أدبيات يومية على منابر المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة.
لم تقتصر هذه العودة على الجماعات ذات الطابع الجهادي العنيف، بل امتدت إلى مساحات أوسع من الفضاء الديني الذي تشكل في ظل غياب المؤسسات الرسمية. ومع انهيار المرجعيات التقليدية وتراجع دور العلماء الوسطيين، تحوّلت خطب المساجد، والمجالس الدينية، وحتى البرامج الدعوية إلى مسارح لإعادة تدوير أفكار لم يكن لها أن تنتعش لولا هذا الانهيار المزدوج للدولة والمجتمع معًا.
إن ما يحدث اليوم، هو تهديد مزدوج: تهديد للهُوية السورية كهوية جامعة، وتهديد للوعي الجمعي، الذي يُراد له أن يُطبع على منطق الإقصاء ويُعاد تشكيله في قالبٍ لا يعترف بالتعدد. يُعاد إنتاج الأزمة نفسها التي دفعت الأمة ثمناً باهظاً لها في كل مرحلة تاريخية انقسم فيها المسلمون إلى “نحن” و”هم”، إلى “الفرقة الناجية” و”الفرق الهالكة”
المفارقة الموجعة أن دمشق، التي سجنت ابن تيمية يومًا لما مثّله من خطر على وحدة النسيج الديني والاجتماعي، باتت اليوم تسمح بترويجه كرمز للوحدة. هذه ليست فقط مفارقة تاريخية، بل انحراف معرفي خطير، حين يُقدَّم فكر قائم على الإقصاء على أنه دعوة للتآلف. فأن يُقال إن الألفة تُستخرج من تراث ابن تيمية، فذلك لا يُعد خطأً علميًا فحسب، بل خيانة فكرية مكتملة الأركان. الرجل الذي قضى حياته في مهاجمة مخالفيه، وفي تكفير طوائف من المسلمين، والذي كانت فتاواه وقودًا في أكثر من فتنة عبر التاريخ الإسلامي، لا يمكن أن يُختزل في صورة “الناصح المصلح”.
إن ما يحدث اليوم، وبخاصة في المناطق التي شهدت تحررًا من النظام ثم وقعت في قبضة خطاب تكفيري مموَّه، هو تهديد مزدوج: تهديد للهُوية السورية كهوية جامعة، وتهديد للوعي الجمعي، الذي يُراد له أن يُطبع على منطق الإقصاء ويُعاد تشكيله في قالبٍ لا يعترف بالتعدد. يُعاد إنتاج الأزمة نفسها التي دفعت الأمة ثمناً باهظاً لها في كل مرحلة تاريخية انقسم فيها المسلمون إلى “نحن” و”هم”، إلى “الفرقة الناجية” و”الفرق الهالكة”، إلى من يملك الحقيقة المطلقة ومن يُلقى عليه غبار البدعة والضلال.
حين تُصبح منابر الشام، التي طالما احتضنت الحوار والتعدد المذهبي، ساحةً لفكر أحادي لا يرى في الآخر إلا مشروع خصومة، فنحن لا نخطو نحو المصالحة، بل نحو مزيد من الانفجار. ليست الخطب الدينية اليوم في بعض تلك المناطق إلا ألغاماً فكرية مؤجلة، تزرع في العقول، وتُقدَّم في ثوب “دعوي” ناعم، لكنها تُمهد الأرض لتكرار دورات العنف والانقسام. فمن لم يُقصَ بالسلاح، يُقصى بالفتوى. ومن لم يسقط تحت القصف، يُسحق تحت التأويل المغلوط للدين.
إن ما يحدث ليس استعادة لفكر ابن تيمية بقدر ما هو استثمار سياسي لفكره، في لحظة فراغ كارثية. ومع غياب مشروع فكري جامع يعيد بناء المجتمع السوري على أسس العدالة والعقل والتعدد، تبرز خطورة السماح لهذا الفكر بالهيمنة مجددًا، تحت عناوين براقة كـ”الوحدة” و”الألفة”. لأن الألفة الحقيقية لا تولد من رحم التكفير، ولا تبنى على نفي المختلف، بل تُولد من فهم أعمق للدين كرسالة تحترم الإنسان وتقدّر تنوعه.
لقد خرج ابن تيمية من قبره حقاً، لكن ليس بصفته فقيهاً يُقرأ، بل باعتباره رمزًا يُستدعى لخدمة مشاريع إيديولوجية جديدة. والسؤال الآن: إن كانت دمشق، برغم تاريخها، قد انحنت لهذا التيار، فهل من مدينة أو عقل سيقف في وجه هذا الزحف؟ وهل من فرصة للوعي أن يستعيد صوته، قبل أن يُدفن إلى الأبد تحت ركام المنابر؟
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  من الحشّاشين إلى 11 أيلول.. من يمتلك مفتاح الجنّة؟
هشام الأعور

أكاديمي وكاتب سياسي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الجولاني يُغلّب الاعتبارات الأمنية .. و"داعش" يفتح له نافذة